الجرايد 5 بألف دينار في بغداد

الجرايد 5 بألف دينار في بغداد
باسل عباس خضير

تفاجأت وأنا أمر بمنطقة باب المعظم في العاصمة بغداد حين سمعت باعة الصحف المحلية الذين يفترشون الأرصفة في الطرقات وهم يصيحون ( جرائد خمسة بألف مال اليوم ) ، ولأني لم آمر راجلا بهذه المنطقة منذ شهور فقد انتابني الفضول للتعرف عن ماهية هذه الصحف لان ظاهرة بيع الصحف بأسعار بخسة لم تكن جديدة على العراقيين بعد الاحتلال ، وحين قلبت تلك الصحف لاختار خمسة منها بالعرض المقدم ( ألف دينار ) وجدت إنها لم تكن من صحف المرتبات المتدنية التي كان البعض يسميها بعد ظهورها 2003 لكونها ممولة من الأحزاب او مكرسة للإعلانات او للتلميع ، وإنما صحف يمكن وصفها بأنها محترمة بتاريخها وأسمائها او بشهرة وسمعة العاملين فيها من الصحفيين والكتاب ، وقادني الفضول لسؤال البائع هل هذه الصحف تنتشر بهذا السعر باستمرار أم إنها عرضت صدفة هذا اليوم ، فأجابني وعلى الفور إنها تتوفر لديه كل يوم ولكن سعرها يختلف بين ساعة اليوم وكلما انقضى الصباح إذ تباع بهذا السعر بعد ساعات الدوام الأولى حيث ينخفض الطلب عليها فنضطر لترويجها لأنه لا يوجد ( مرتجع ) للصحف كما كان يحصل أيام زمان ، ولقلة المشترين فقد أتيح الوقت للدردشة معه حول مصدر الحصول على هذه الصحف والسعر الذي تباع لهم ، فأشار لي إلى مكان قريب من باب المعظم يسمونه البورصة وفيها يقوم كل موزع باستلام حصته من الصحف المتفق مع إداراتها على التوزيع حيث يقوم ببيعها على الباعة بأسعار متباينة ولن أقصاها لا يتجاوز 250 دينار لكل صحيفة ، ويقوم البائع ببيعها صباحا بأسعار تمييزية حسب الطلب على كل صحيفة وكثافة تواجد الناس بأسعار تتراوح بين 250 – 500 دينار ثم تتحول إلى 5 بألف عندما تقل الحركة ويضعف الطلب نوعا ما ، ويقول البائع : الصحف لم تعد تباع كما كان فقد قل إقبال الموظفين والمتقاعدين والطلاب عليها ، لذا فان البيع بهذا السعر يسهل طريقة ترويجها مجتمعا ويجنبنا مشقة رميها كنفايات .
واذكر مرة ومرات اشتركنا واطلاعنا على دراسات عن تكاليف إصدار النسخة الواحدة من الصحف قبل عشر سنوات ووجدنا إن المبلغ لايقل عن 1350 دينار في ادني التقديرات ، شاملا ذلك إيجار البناية ورواتب وأجور ومكافآت العاملين وأجور الانترنيت والفرز والطبع وغيرها من المصاريف ، وفي حينها كنا نبيع الصحيفة للموزع بمبلغ 75 دينار ويبيعها للبائع ب150 دينار لتصل للقارئ ب250 دينار ، وكان الفرق بين التكاليف والمبيعات تتم تغطيته من أجور الإعلانات التي كانت تدخل في بورصة الفاسدين ليتقاضوا عمولات تتجاوز 50% من أجور الإعلان نقدا رغم إنهم موظفون ويعملون في مكاتب الإعلام الحكومي او للشركات ، وبسبب تراكم الخسائر المادية والأزمات المالية التي مرت بالبلاد التي أوقفت العديد من مشاريع الوزارات وما تجلبه من إعلانات ، وبسبب استحواذ بعض الأحزاب على الإعلانات الحكومية بما لا يترك هامشا للصحف المستقلة ، فقد تلاشت العديد من الصحف اليومية وبعضها تحولت إلى أسبوعية او نصف أسبوعية ولكنها اصطدمت بعقبة تعليمات المالية التي لا تجيز نشر الإعلانات بغير الصحف التي تصدر كل يوم ، ولهذه الأسباب وغيرها فقد انحجبت الكثير من الصحف عن الإصدار وتناقص عددها من المئات إلى بضع عشرات تمول نفسها بالطرق التي يعرفها من يعمل في الصحافة لسنوات ، وقد رافق هذا الحجب انتشار البطالة بين الإعلاميين والصحفيين ولجوئهم للتعيين في الوزارات او العمل في وكالات الانترنيت ، ولم تتحقق الأحلام التي وعدت بها الدولة بإنشاء مجمعات إعلامية وتزويدها بالتسهيلات او غيرها من العروض التي لم تبصر النور رغم الجهود التي بذلتها الجهات المهنية بهذا الخصوص ، وقد يعتقد البعض إن انتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي والموبايلات هي السبب في تحجيم دور الصحافة الورقية وضعف الطلب عليها ، وهو عذر مقبول في العراق ولكن الصحف الورقية لا تزال نشغل حيزا من اهتمام العديد من الدول التي لها عادات قراءة الصحف لدى نسبة مهمة من السكان ، وهي مسالة غير رائجة في بلدنا لان عدد الصحف قبل 2003 كان بعدد أصابع اليد ومطبوعاتها لا تتعدى 50 ألف نسخة يوميا في كل البلاد وأكثرها توزع أما بالإكراه او من خلال الاشتراكات حيث كان عدد مدمني الصحف محدود بين الناس .
وبعيدا عن نظرية المؤامرة ، فقد روج المحتل بشعارات الحرية والتي كانت غايتها إشاعة النشر لأكثر من الإشباع ليصاب الشعب بالملل والناشرين بالخسارة فيما بعد ، فقد أصدرت أوامر السلطة بحرية الصحافة دون قيود وإلغاء وزارة الإعلام التي كانت تمارس دور الشرطي الرقيب ، مما سمح بانتشار ظاهرة إصدار الصحف للأشخاص والأحزاب والدوائر والوزارات ولكل من هب ودب ، ولكثرة عددها فإنها أتاحت فرص العمل لغير المهنيين بحيث أسهم في إدارة بعضها او تحرير محتوياتها بعض الطارئين والدخلاء الذين ركبوا موجة الإثارة ولكن سرعان ما اختفى بريقها شيئا فشيء ، ورغم العدد الكبير من الصحف التي كانت تصدر إلا إنها لم تغير كثيرا من عادات القراءة كل صباح ، فالطلب على الصحف ليس كبيرا لدرجة إن اغلب الصحف كانت تطبع ألف نسخة او اقل في اليوم ويتم استرجاع الكثير منها عدا عدد قليل من الصحف التي استطاعت استمالة اهتمام شرائح من القراء ، وان الحديث عن ظروف إصدار الصحف يطول ولكن النتيجة نشهدها اليوم في باب المعظم عندما تباع الصحف 5 بألف دينار ، وربما تحول بعض القراء إلى الصحافة الالكترونية التي يعاب على اغلبها عدم إظهار العدد الحقيقي للمشاهدات والقراءات للحكم على مدى تفاعل الجمهور معها لكونها أكثر دينامية في نقل الأخبار ، باعتبار ان الصحافة الورقية لم تعد قادرة على مواكبة الإخبار لكون الفضائيات والصحافة الالكترونية تسبقها بكثير لان الصحف تتطلب التحرير والطباعة ثم التوزيع كما إن الفضائيات تستحوذ على الإثارة والتحليلات ، وفي كل الأحوال فان الملاحظة المتعلقة بانخفاض بيع أسعار الصحف بأسعار لاتكافا أي من تكاليفها في ظل ظروف محدودية إيرادات الإعلانات والاشتراكات جديرة بالاهتمام لمن يعنيهم الموضوع .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here