سلمان الفارسي، الصحابي الجليل، من هو ؟ (*) ح 3 

 د. رضا العطار   

 لقد استمر سكوت الصحابي سلمان بعد الخليفة عمر، فلم يأتنا عنه خبر في الصراع الذي استمر بعد ذلك،  واداره زميلاه ابو ذر وعمار علنا، وامامهم الامام علي سرا حتى نهايته الدامية. – – – هنا نقف على رواية للماوردي في (نصيحة الملوك) تقول ان ابا بكر نهى سلمان عن الكلام لئلا يختلف الصحابة – – وهناك رواية في (الاستيعاب) تقول : ان سلمان وصهيب وبلال الحبشي اظهروا انزعاجهم من العفو عن ابي سفيان في فتح مكة، فرد عليهم ابو بكر مدافعا عن ابي سفيان بوصفه (رجل قريش وسيدها) – – ولا مناص من الاستنتاج بان سلمان اضطر الى الانصياع لامر ابي بكر، لانه غريب وليس له عشيرة تنصره.

 

 احدى المحطات الهامة في تاريخ سلمان الفارسي، هي ولاية المدائن،  وقد اختاره عمر بن الخطاب لها بعد فتحها وتقبلها هو رغم انه لا يحمل مزاج سلطة.

وفي تفسير قرار عمر يلوح لنا بعض الاوجه الباعثة عليه – هناك احتمال ان عمر قد تعمد ابعاده عن الحجاز لاضعاف جماعة علي بن ابي طالب – – – .وكانت المدائن قد فقدت اهميتها بعد انهيار الامبراطورية الساسانية وانتقال مركز الثقل العراقي الى الكوفة والبصرة فور تمصيرهما – وفي اختيار سلمان لولايتها يمكن لعمر ان يكون قد خضع ايضا لهاجس شخصي بتصور هذه المقارنة التي سيحكم فيها المدائن رجل من عامة الفرس بدلا من امبراطورها الكسروي – – ولعمر مبادرات كهذه تبدو كهوامش ظريفة على سلوكه الاصلي كرجل دولة وسياسي حازم. – – – كما وعين عمر عمار بن ياسر على الكوفة واليا،  لكي يجرب تطبيق آية المستضعفين ثم عزله عنها بعد وقت قصير.

       اما من جهة سلمان – فان قبوله ان يكون واليا خلافا لمزاجه يمكن تفسيره بمحاولة منه لتجربة حكم يصوغه وفقا لثوابته المبدئية – وذلك افضل من بقائه صامتا في مركز الخلافة في الحجاز.

 

وصف المسعودي في (مروج الذهب) (باب خلافة عمر) سلمان الفارسي وهو على المدائن فقال : (يلبس الصوف ويركب الحمار ببرذعة بغير اكاف ويأكل خبز الشعير). 

ويجمع مؤرخوه على جملة سياساته وسلوكياته في الولاية ضمن الخطوط التالية :

–         كان راتب سلمان السنوي عن ولايته 5000 درهم، كان يقبضه ثم يوزعه على المحتاجين لانه التزم بالعيش من عمل اليد،  انصياعا لتوجيه نبوي – – وكان يستفيد من وقت الفراغ فيعمل في سف الخوص لصنع السلال، مما كان قد تعلمه ابان وجوده في المدينة، ويبيعها فيعتاش بثمنها. وفراغ سلمان في الولاية كثير لانها تشغل جزءا من نهاره فقط – وهو قليل العبادة لا يزيد كثيرا عن الفرائض. ولم تكن لديه مهام اخرى خارج ادارة المدينة.  وبالطبع، ولا ساعات مخصصة للهو والتسلية.

 

لم ينزل سلمان في القصر الساساني الشاهق الفخم (ايوان كسرى)  بل في مسكن عادي مع عامة اهل المدائن – – وقد فتح سلمان القصر للعموم، بعد ان كان افرغ من محتوياته التي قسمها عمر على قواده الفاتحين، كغنائم حرب. – – وكان الناس يستعملون القصر لاغراضهم واستفاد منه رعاة الغنم – فكانوا يبيتون فيه او يستريحون مع اغنامهم.

والجدير بالذكر ان خليفة المسلمين الامام علي بن ابي طالب عندما حول مركز خلافته من الحجاز الى الكوفة قد نزل في مسكن مماثل ولم يسكن في دار الامارة الا انه ابقى الدار مغلقة حتى اعيد فتحها بعد انتهاء خلافته ومجيء الوالي الاموي الذي اتخذها مسكنا له.

وكان مقر سلمان الرسمي في المسجد، وهو ايضا مقر علي بن ابي طالب عليه السلام.                                     .

لقد الغى الصحابي الجليل سلمان شكليات الولاية مبتدءا بنفسه، وكان في ملبسه ووسيلة نقله لا يختلف عن عامة الناس، ولم يكن يخرج في موكب وانما يمشي منفردا او مصحوبا بغيره من اعوان واصدقاء بدون حرس – وقد عاشت المدائن في ظله آمنة لا يخاف اهلها من عدوان السلطة او عدوان بعضهم على بعض – وكان تحت امرته ثلاثون من اهل الديوان، جمعتهم به علاقة احترام متبادل : عدم سطوة من القائد والتزام طوعي من المقودين – بذلك تكون هذه المدينة الكسروية قد جربت وهي قريبة العهد بالارهاب الامبراطوري.

 طريقة حكم كالتي تحدث عنها الفيلسوف الصيني لاوتسه في كتاب التاو : (حاكم يقود وهو في مؤخرة الشعب ويدير شؤونهم وهو تحتهم).

 

ان توفر حالة الانسجام التي سادت المدائن في تلك الولاية دليل تاريخي على صدق القاعدة التي ترجع الى كونفوشيوس، وقد توسع فيها مفكرو الاسلام. والقائلة ان اخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم. فان كان عادلا مستقيما، عدلوا واستقاموا، وان جار وسرق جاروا هم وسرقوا.

 

لكن هذه السياسة لم تعجب عمر بن الخطاب، وكان سلمان من جهته يشعر انه يتجاوز الاصول المسموح بها في دولة عمر – – وفي (مرآة الزمان) يتحدث سلمان عن سلوكه في الولاية ( لو نهاني عمر، ماانتهيت)

كان سلمان يرى ان اكل الشعير والعمل اليدوي في صنع الحصران والاستغناء عن لذائذ المطعم والمشرب لأحب الى الله عز وجل واقرب للتقوى – وهو يقول :  رايت رسول الله اذا اصاب الشعير،  اكله وفرح به ولم يسخط، بل كان يعتقد ان التذلل في طاعة الله احب اليّه  من التعزز في معصية الله – – ويضيف :  وقد علمت ان رسول الله كان يتآلف الناس ويتقرب منهم ويتقربون منه في نبوته وسلطانه حتى كان (مثل) بعضهم في الدنو منهم وقد كان ياكل الجشب ويلبس الخشن وكان الناس عندهم قريشيّهم وعربيّهم وابيضهم واسودهم سواء في الدين، فأشهد اني سمعته يقول من ولىّ ضيعة من المسلمين بعدي ثم لم يعدل، لقي عليه غضب الله، فكيف حال من ولىّ الامة بعد رسول الله الذي قال : ( تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). .

  الحلقة التالية في الغد !

 

* مقتبس من كتاب شخصيات غير قلقة في الاسلام للمفكر العربي هادي العلوي      

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here