الفقه القانوني والثقافة القانونية في الحياة المعاصرة

فارس حامد عبد الكريم 

الثقافة القانونية والمجتمع

لاتشكل الثقافة القانونية في مجتمعاتنا الا حيزا محدوداً، في حين ان لهذه الثقافة نظريات فلسفية وأصول وأدبياتتتعلق بأصل الحقوق والحريات العامة ساهم في وضعها كبار الفلاسفة منذ نشأتها في عهود الاغريق الى يومنا هذاوينبغي ان يطلع عليها كل من يعمل في مجال العدالة وحقوق الإنسان وكل من تهمه الشؤون العامة من رجال السياسةوالاعلام والتربية وطلاب العلم في عموم الكليات والمعاهد الوطنية، فضلاً عن عموم المواطنين ليكونوا على بينة منحقوقهم وواجباتهم لما للثقافة القانونية من ادوار جوهرية متنوعة في الحياة المعاصرة،منها إدراك الحقوق والحرياتالعامة وأساليب ممارستها والقيود الواردة عليها وتوجيه عوامل التقدم،ونشر ثقافة وقيم العدالة الحقة ومكافحة كل ماهو ظالم وغير معقول

الفقه القانوني والديمقراطية

والحال ان التجربة الديمقراطية الحقيقية تجربة حديثة في العراق، بما وفرته من حقوق وحريات عامة، ومن المتوقع انتثار بشأنها نزاعات وخصومات متنوعة، وحداثة التجربة تتطلب الاطلاع على النظريات القانونية والأحكام القضائيةالمتعلقة بممارسة الحريات العامة وحق النقد السائدة في الدول التي ترسخت فيها الأنظمة الديمقراطية منذ قرون عديدةونشرها في وسائل الاعلام المختلفة للمساهمة في خلق ثقافة عامة تقدر الحريات العامة وتمارسها باسلوب حضارييساهم في تنمية عوامل الخلق والابداع في المجتمع، ولا يحتج على ذلك باختلاف القوانين.

مباديء القانون العامة … مباديء عالمية

 فالقانون علم عالمي راسخ له نظرياته المستقرة التي تستقي منها التشريعات الوطنية احكامها، فالقانون ليس مجردنصوص محلية مثبتة في نصوص التشريعات، ولو وجدت اختلافات او استثناءات فإنها لا تمس جوهر الحق اوالواقعة ومن الميسور ادراك تلك الاستثناءات وتطبيقها في مواضعها التي وضعت من اجلها، فالقواعد والأحكام المتعلقةبالعدالة والانصاف مستمدة في اغلبها من نظرية القانون الطبيعي والأحكام المتعلقة بالأشخاص المعنوية في اغلبقوانين العالم مستمدة من نظرية الشخص المعنوي وإحكام المديونية والأموال مستمدة من نظرية الالتزام التي تطورتتدريجياً منذ عهود الرومان.

الفرض والحكم في القاعدة القانونية

 ومفاد ماتقدم  من حيث التطبيق التشريعي ان القاعدة القانونية تتكون من عنصرين، هما الفرض والحكم، والفرض،وهوالأهم في الدراسة والبحث القانوني، وهو الواقعة التي برزت إلى العالم الخارجي ، اما الحكم فهو الأثر المترتب على تلكالواقعة، فالنص على انه ( من يرتكب جريمة قتل عمداُ يعاقب بالاعدام او السجن المؤبد) فالقتل هو (الفرض) والعقوبةهي (الحكم).

ويتطلب اعمال الفرض في الغالب، لصلته بصفة التجريد، عملاً عقلياً خالصا كالتفسير والاستنتاج المنطقي والاستنباطوالتكييف القانوني للواقعة أما اعمال الحكم فلا يتطلب ذلك في الغالب لتجسده بصورة مدد زمنية او حسابات مادية، بلان اجراءات المحكمة منذ رفع الدعوى وما تمر به من اجراءات تحقيقية ومحاكمة واستماع للشهود والخبراء واجراءاتتحري ومعاينة ومناقشات ودفاع واثباتات حتى ختام المرافعة تدور كلها حول تحقق فرض القاعدة من عدمه ولا تناقشالعقوبة او الحكم الا بعد ختام المرافعة

الفروض متشابهة او متقاربة في أغلب قوانين العالم

وبصورة عامة فان الفروض متشابهة او متقاربة في اغلب القوانين خاصة في نظام قانوني واحد كالنظام اللاتينيالمتبع في فرنسا والبلاد العربية وهو الشائع في اغلب دول العالم، فاركان جريمة القتل او السرقة او القذف وعملياتالتكييف بشأنها هي ذاتها في فرنسا او ايطاليا او مصر او في العراق أو اليابان.

 ومن هنا كان الالتجاء الى الفقه والقضاء الأجنبي او العربي وحتى الدراسة في كليات القانون الأجنبية ممكنا، كما انتغير القوانين او تعديلها من وقت لأخر لا يمس في الغالب فروض القاعدة القانونية وانما يمس الأحكام المترتبة عليهاوفي احوال معينة قد يمس بعض شروط تحقق الفرض، ولو كانت الفروض عرضة للتغيير الدائم لأصبحت الدراسةالقانونية والبحوث القانونية شبه مستحيلة لان ذلك يعني انهيار للفقه القانوني القائم، بينما نجد ان تغير حكم القاعدةلا يتطلب سوى القراءة المادية في متون القوانين للأحكام الجديدةوإيمانا بهذه الحقيقة نصت الفقرة (3) من القانونالمدني العراقي، فيما يتعلق بمصادر الأحكام، على انه (وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي اقرها القضاء والفقهفي العراق ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية).

أهمية نشر الثقافة القانونية

ان نشر ثقافة قانونية تتعلق بالأصول العامة،مثل ضرورة القانون ومعنى الدستور، مفهوم العدالة وقيم الحريةوممارستها ومبادئ النظام الديمقراطي، ومبدأ سيادة القانون، ومبدأ تكافؤ الفرص، ومبدأ مساواة المواطنين أمامالقانون،ونظرية القانون الطبيعي، والغايات الأساسية التي يقوم عليها النظام القانوني، مبدأ مساواة المواطنين فيالانتفاع من المرافق العامة، مبدأ المساواة في مباشرة الاعمال الاقتصادية، مبدأ المساواة في الضريبة، مبدأ المساواة فيالمعاملة، مبدأ حق الحياة لكل فرد، مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان، مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون، مبدأضرورة سير المرفق العام بانتظام، مبدأ بطلان التصرفات نتيجة الاكراه، مبدأ عدم جواز الالتزامات المؤبدة، مبدأ عدمالتعسف في استعمال الحق…. لهي ضرورة وطنية خالصة تساهم في التخلص من ثقافة الدكتاتورية التي ترسخت فيعقول بعض ابناء شعبنا، مما عرقل في كثير من الاحيان التجربة الديمقراطية الناشئة في العراق.

ان الدراسات القانونية لا تقتصر على شرح النصوص القانونية باسلوب الشرح على المتون الذي يقوم على التفسيرالحرفي الذي ساد لبعض الوقت في مطلع القرن الثامن عشر، وهي السائدة ليومنا هذا في العراق التي يهتم بهاالعاملون في المجالات القضائية، والتي تسهم في تكوين ثقافة قانونية عملية  محدودة وهذه ليست هي المقصودةبدعوتنا هذه، لان هذا النوع من الدراسات من عوامل جمود القانون لا من عوامل تطويره.

فقه الشريعة الإسلامية

من عظمة فقه الشريعة الإسلامية،ان فقهاء الشريعة وهم يفسرون القرآن الكريم وهو كلام الله المنزل بطريق الوحي لفظاًومعناً على رسوله محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم لم يقفوا عند التفسير الحرفي للقرآن حصراً،باستثناء أهل الظاهر، ويكاد ان يجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على ان النصوص تسري بلفظها وفحواها، بمعنى انالتفسير اما ان يقوم على استخلاص معاني النصوص من ظاهر عبارة النص ودلالة ألفاظه ( دلالة اللفظ على المعنى )،او ان يقوم على استخلاص معاني النص من دلالات مضمون عبارة النص( دلالة النص على مضمونه ) ولذلك قالوا انالعبرة في المقاصد والمعاني لا في الألفاظ والمبانيوتفسير علماء المسلمين تفسير علمي وعقلي يتميز بحرية فكرية  محفوفة بالمشروعية.

 وقد تبنى الفقه الإسلامي بكافة مذاهبه هذا الأسلوب في التفسير، باستثناء اهل الظاهر الذين تمسكوا بحرفيةالنصوص ويقابلهم في الفقه القانوني الغربي  مدرسة الشرح على المتون كما سبق البيان، وكلا المدرستان مندثرتان فيالحال الحاضر، باستثناء انه يوجد لهما تطبيق واسع لدى رجال الإدارة والقضاء في بعض البلدان العربية، بالنظرلقعودهم عن مواكبة القفزات الهائلة في مختلف العلوم والنشاطات الاقتصادية والسياسية والحاجات الاجتماعيةالمتسارعة في كل يوم.

 وواضح من التفسيرات الاجتهادية العميقة التي جاء بها فقهاء المسلمين وكذلك الفقه والقضاء المعاصر لمعالجة النقصفي التشريع، ان أدراك الإنسان لا يقف عند حدود الألفاظ كما انه لا يجمد عند المعنى الحرفي للنص وانما يغور في أعماقالنصوص ويكتشف أنواعا من المعاني والعلاقات المتلازمة بينها، والغاية مسايرة تفسير القانون مع تطور المجتمعوبهدف الوصول الى حلول لمسائل لم تعالجها النصوص وفقا لحكمة التشريع وروح النصوص والأعراف المتواترةوالمبادئ العامة وقواعد العدالة.

 ومن الأمثلة الملفتة للنظر، تفسير فقهاء المسلمين قوله تعالى ( واتوا اليتامى أموالهم ) (52) فذهبوا إلى ان المقصود هو،واتوا البالغين منهم، رغم ان البالغ لا يوصف باليتم، وحكمة هذا التفسير منوطة بمصلحة الصغير الذي يموت ابواهويتركان له ثروة، فان سلمت له على هذا الحال من صغر السن واليتم لأضحى عرضة لسلب ثروته وللغش والخداع ممن لايخافون يوما كان حسابه عظيماً.

 ومن ذلك ايضاً تفسيرهم لقوله تعالى (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف )) (53)

ومن الواضح ان هذه الآية الكريمة قد انزلت أصلا لبيان ان نفقة الوالدات والمرضعات وكسوتهن على الوالد وجوباًولكنالمتأملين المتعمقين فيها أدركوا انها تشير الى مدلولات وأحكام فقهية أخرى لم تكن ظاهرة في سياق النص ولكنها منلوازمهوقالوا، ان في هذه الآية إشارة الى ان النسب للآباء فقط استدلالا من اللام التي تفيد الاختصاص في قوله تعالى(وعلى المولود له) والى ان الأب، مادام مختصا بالنسب، لا يشاركه احد في النفقة لولده عليه،وفهم من هذا الاختصاصايضا ان الأب له عند احتياجه  ان يمتلك بغير عوض من مال ابنه ما يسد به حاجته لأن اللام للملك والاختصاص وإذاكان تملك الولد غير ممكن فتملك ماله أمر وارد وجائزوفي ذلك قال الفقهاء المسلمين، أن دلالات النصوص على الأحكام لاتقف عند حدود المعنى الحرفي والسطحي للنص وانما تتعداها الى جوهر النصوص ومعقولها.

*بغداد في ٢٠٠٩

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here