الاسلاميين والعلمانيين بين الافراط والتفريط

الاسلاميين والعلمانيين بين الافراط والتفريط

ان صراع القوى بين اجنحة المجتمع العربي اضحى صراعا مريرا ليس له طعم ولا رائحة ولا لون. صراع فوضوي تقوده وتشعل فتيله القوى الاستعمارية كما تريد عن طريق وكلائها العرب في الداخل. فتن دخلت كل العوائل وامست كالليل المظلم تنخر مجتمعنا. وقع ضحيتها كل الاتجاهات الفكرية لا سيما العلمانية والاسلاموية منذ نهاية الحرب العالمية الاولى ولحد الان اي اكثر من قرن من الزمان.
لا تزال نخب المنطقة العربية الاسلامية منذ ذلك التاريخ تدمر بعضها البعض. لا امل في الافق المنظور من امكانية حسم تلك الخلافات. اذ يتهم بعضهم البعض الاخر بالخيانة والعمالة للاجنبي. كل الاطراف تدعي الاصلاح والوطنية وخدمة الشعب. تحولت هذه الحرب بمرور الوقت الى سرطان يفتت المجتمع ويسير به سريعا نحو التخلف والانحطاط. انها في حقيقة الامر حرب بالوكالة خيوطها متغربة وجدت لتبقى زرعتها بريطانيا وفرنسا سابقا وامريكا اليوم.
ان ابرز تلك القوى الاسلاميين والعلمانيين اذ ينزع الطرفين في نشاطاتهم ما بين الافراط والتفريط في معالجتهم الشان السياسي العام. حتى تحول جدلهم الفكري الى جدال سفسطائي سريالي يدور في حلقة مفرغة. جدل كان ولا يزال يخدم المستعمرين الذين يتربصون بالمنطقة الدوائر. انه حوار عقيم كحوار الطرشان كأنهم يتسائلون فيه هل البيضة من الدجاجة ام الدجاجة من البيضة.
لقد تمكن المستعمرون والصليبيون والعنصريون والصهاينة من كسب الكثير من العلمانيين العرب وجعلوهم طابور خامس استخدموهم لتزييف الحقائق وبث الشكوك لدى العرب بحضارتهم ودينهم وثقافتهم. باتوا يتبنون الحضارة الاستعمارية الغربية الراسمالية او الشرقية الاشتراكية باسم العلمانية ويصنفون انفسهم بدعاة التنوير والنهضة. يتهمون من يدافع عن هويته ودينه وحضارته بالرجعيين الظلاميين المتخلفين.
تمكنت القوى الاستعمارية ايضا من كسب الاسلاميين وجعلت احزابهم تنفذ اجندات غربية امريكية ماسونية مشبوهة. هذه الاحزاب اختطفت الاسلام ونصبت نفسها الناطق الرسمي الوحيد باسمه وخلقت من حولها هالة من القداسة. ثم فرضت من وراء الغرف المظلمة نخب تحرم وتحلل وفق مصالحها الانانية. فيتعاقدوا مع الدكتاتورين او العساكر او الملوك رغم جرائمهم لنيل مقعد في البرلمان او منصب رفيع في الحكومة. يدعون امام مجتمعهم لتاسيس حكم اسلامي وفق توجهاتهم. انهم يركزون على الامور العبادية الشخصية كضرورة اطلاق اللحى او الالتزام بالصلواة الخمس.
العرب اليوم واقعين بين اختيارين احلاهما امر من العلقم. خيار تفريط العلمانيين بالاسلام واحكامه العادلة. يجتهدون بكل ما في وسعهم محو تجربة دولة المدينة المنورة الفريده في عهد رسول الله. تمكنوا بحقدهم غير المبرر للاسلام من جعل العلمانية دين وعقيدة سياسية للمجتمع. لقد فسحوا المجال للعسكر والدكتاتوريين والفسقة والجهلة المناهضين للاسلام السيطرة على رقاب الناس. وخيار افراط الاسلاميين المتأسلمين في نفاقهم بتبني الاسلام قولا وثرثرة ثم تشويه معالمه عملا وتطبيقا. بحيث بات المسلمون يفضلون اية تجربة وضعية اخرى بعد ان حولوا ديننا المتسامح الرحيم العادل الى رين تكفيري يسمح بالافساد في الارض.
ما بين بعض العلمانيين الاستئصاليين والاسلاميين التكفريين ضاعت اهداف الامة العربية والاسلامية. فمثلما غدر الفريق الاول بحضارة الامة فقد سرق الفريق الثاني احلام الشعب. ما بين الطرفين خسر العرب مبادئهم الاسلامية الراقية ونسوا بكل اتجاهاتهم الفكرية تاريخهم وحضارتهم وهويتهم. باتوا اليوم في تيه اجتماعي وسياسي واقتصادي لا يعلم مداه الا الله. ما بين هؤلاء واولئك ياس العرب من امكانية الخروج من المازق الذي هم فيه. حتى ان الكثير منهم بات لا يصدق بان الحضارة الاسلامية نورت العالم واخرجته من الظلمات الى النور ومن العبودية والجهل الى الحرية والعلم لفترات طويلة استمرت عشرات القرون.
فمن جاكارتا وكانتون الى سمرقند وبخاري الى المدينة المنورة وبغداد ودمشق الى القاهرة وإسطنبول الى القيروان والزيتونة والاندلس. افرز الاسلام انذاك نظام شوروي ديمقراطي ترجم مبادئ الاسلام الاساسية في العدل والمساواة والحرية والكرامة والاستقلال على حياة الناس السياسية والاقتصادية.
د. نصيف الجبوري

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here