حيرة الانسان امام رهبة الكون وظواهره الطبيعة !

حيرة الانسان امام رهبة الكون وظواهره الطبيعة ! (*) بقلم د. رضا العطار

لم يكن الانسان قد استطاع بعد ان يحلل الظواهر ويمنطق الاسباب والنتائج، فكانت الاساطير للانسان الاول وسيلته للتأمل في الطبيعة وفهمها – – فوصفها كلها في رموز تعكس طريقته في الحياة، وتحمل بين ثناياها كل ما يعرفه من توق وخوف ودهشة وشهوة، ازاء البقاء والفناء والخلود. وعندما تبلورت الطرق الفلسفية في محاولة فهم الكون وسر الحياة والغاية المبهمة من الوجود تذكرنا بالافكار الدينية الاولى عند الانسان منذ اول ما اعمل فكره في ظواهر الحياة والطبيعة، فظن ان هناك (آله) للخير واخرى للشر. واهتدى الى فكرة الملائكة والابالسة لثنائية مواقف اخلاقية تتمثل في الفضيلة والرذيلة. فتتصف الفضيلة بنورانية ووهج الملائكة، والرذيلة بظلام ودخان الشياطين.

ولكن حين اتجه فكر الانسان انسانيا، فوضع التجربة (الارضية) حيث تصبح (الارض) لا ضدا للسماء بل انعكاسا لها – بالضبط كما فعل القدماء في وادي الرافدين قبل آلاف السنين وغدا الموقف الاخلاقي اكثر منطقيا بصرف النظر عن الماروائيات العتيدة.

ومع الزمن وبعد ان ظهرت الاكتشافات العلمية دللت على وجود قوانين ثابتة في الطبيعة تنشأ عنها الظواهر التي يجب ان يبطل عجب الانسان ازاءها. لكن رغم ذلك بقيت الاساطير على قوتها في اثارة الانسان وتصوير مجابهته لمعضلات البقاء والموت والخلود. وما يتصل بها من تجارب وفكر وعواطف – كالاحلام والحب والالم والقضاء والقدر. ذلك ان العلم بقوانينه وذهنيته ومنطقه، يجعل من الحقائق مجردات لا تفي – فيما يبدو – حاجة الانسان كليا ولا تقضي على الناحية اللاعقلانية فيه. بينما الاساطير باشخاصها وحركاتها تجسد نواحي نفسية عميقة الجذور في الانسان وعظيمة الخطر في حياته.

لقد غدت الاساطير مع الزمن رموزا لتجربة الانسان الاولى للحياة، هذه التجربة الطويلة التي ترسبت الى اعماق اللاوعي الجماعي عند كل انسان منا. وما عشقنا للقصص والافلام الا ضرب من العودة الى هذه الاساطير واستثارتها – لتجسد لنا كل مرة ذكرياتنا العزيزة ومعضلاتنا الابدية في انماط تفكيرنا من فهم الحياة.

فإذا فهمنا الاساطير على هذا النحو – اتضحت قيمتها في ادبنا الحديث، وانا شخصيا لا اعني بذلك، بالطبع، مجرد كتابة هذه الاساطير ثانية، او مجرد الاشارة الى اشخاصها للتعكّز عليهم، بل اعني تضمينها والاستمداد من معانيها واستخدامها كهياكل داخلية لاشكال جديدة. حيث ان فيها دائما طاقة ايجابية، يجب ان نحذق خزنها في ابداعنا الحديث.

عالمي هو المدينة. المدينة العربية الجديدة، بكل ما فيها من متناقضات وتيارات وآمال ومخاوف. المدينة اليوم ليست مجرد (قصبة) فيها دار للحكومة : انها ملتقى سيول بشرية من الريف وشبه الريف. ملتقى الاجناس والطوائف والنحل. المدينة بوتقة هائلة لم تنصهر فيها العناصر انصهارا تاما بعد. هل من موضوع اهم من ذلك ؟

في المدينة يشتد المحافظون محافظة، والمتمردون تمردا، فيها سلطة القانون وسلطة الشرطي وسلطة المخبر الرهيبة.

المدينة هي ساحة الصراع على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، فيها يصب التاريخ سيولا من الحضارات المتعاكسة المتشابكة ومنها تنطلق قوى الهدم والبناء الى هدف وغير هدف.

المدينة لا زالت تسحرني وتستحثني على الكتابة وتصوير شخصياتها الفكرية الناهضة. كما يسحرني البدوي القادم إليً من الصحراء. ولكنني قد ابكي على مدينتي – كما بكى السيد المسيح على القدس. لانني اريد لها الخصب والصحة والامان، لا الجدب والمرض والخراب. لان البيت الذي ينقسم على نفسه مهدد بالزوال.

* مقتبس من كتاب (الحرية والطوفان) لجبرا ابراهيم جبرا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here