ما قبل تأسيس الدولة العراقية ” الفصل الأول من سلسلة اليوبيل المئوي لتأسيس الدولة العراقية”

لم تكن هناك دولة مركزية بمعنى الكلمة اسمها الدولة العراقية قبل عام 2019 (*)، سواء كدولة حرة او دولة تابعة لأمبراطورية او دولة أخرى. إنما كان هناك ولايات مثل ولاية البصرة وولاية بغداد وولاية الموصل، وكلها تابعة بشكل مباشر الى سلطان الدولة العثمانية ومقرها الأستانة. وعليه لم تكن هناك روابط أدارية حكومية بشكل مركزي ترتبط به هذه الولايات الثلاث. وعدم وجود كيان حكومي لا يعني عدم وجود شعب عراقي مترابط بشكل وآخر مع بعضه من خلال التجارة والعلاقات الدينية والنسب العشائري والقبلي. كذلك لا يعني عدم وجود مشاعر وطنية عامة وتفكير جمعي بوطن موحد لأرض العراق وشعب العراق.

لقد أُطلقت على العراق أسماء عديدة عبر الزمان والمكان، فعُرف ببلاد ما بين النهرين، وأرض الري، وأوروك، وبابل، وسومر، وأكد، ونينوى، وأرض السواد، ووادي الرافدين، وموسابوتميا. أما الحدود الجغرافية فهي ايضاً اختلفت باختلاف الزمان والمكان، فكانت الأمبراطوريات القديمة تعتمد على مدينة واحدة، مثل سومر ومركزها مدينة أُور، والبابليون مدينة بابل، والآشوريون مدينة نينوى. وفي العصور التي تلتها كانت مدن البصرة والكوفة والحيرة لتضاف بعد ذلك مدينة بغداد لتكون عاصمة الدولة العباسية في عهد ابوجعفر المنصور. وليتطور الزمان وتتكون مدن جديدة لها اهمية دينية مثل النجف الأشرف وكربلاء وسامراء والكاظمية. وبالتالي فإن الجغرافية السياسية للعراق او لأرض العراق اوحينما يقال أهل العراق، المقصود بها ما تؤطرهُ المدن المذكورة وما بينهما وما حولهما من مجمعات كبيرة وصغيرة وقرى ريفية والبدو الرحل الذين يصلون مشارف هذه المدن ولو في مواسم الرعي فقط.

فكيف تكوّن العراق الحديث كدولة كما نعرفها اليوم؟ في أعتقادي أن هناك ثلاثة عوامل رئيسة لعبت دورها في تأسيس العراق الحديث عام 1921:

العامل الأول هو تدهور الدولة العثمانية تدريجياً، وفقدانها السيطرة على ما يحدث في الولايات غير التركية التابعة لها في اوربا وشمال افريقيا والحجاز او العراق والشام. وأنعكس ذلك في صراع بين الأشخاص والتيارات السياسية في مراكز قوى الدولة العثمانية. ففي عام 1909 أسقط الضباط القوميون الأتراك السلطان عبد الحميد الثاني، وسيطر محمود شوكت باشا على أسطنبول. وبدأ صراع مفتوح بين افكار واتباع “تركيا الفتاة” الليبرالية وبين أفكار وأتباع “الاتحاد والترقي” التي تؤمن بتتريك الشعوب غير التركية. وفي خضم هذا الصراع ظهرت شخصية القائد مصطفى كمال الذي هزم الحلفاء في المعارك البرية في مضيق الدردنيل في الأعوام 1915/ 1916. وفي عام 1922 تنازل السلطان محمد السادس عن العرش لعبد المجيد الثاني، حيث وقع مصطفى كمال معاهدة لوزان مع الحلفاء متنازلاً بموجبها عن الأراضي غير التركية للحلفاء. وفي عام 1924 ألغيت الخلافة العثمانية التي كانت تحكم باسم الدين وتمّ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة كدولة علمانية، على يد مصطفى كمال الذي سُميّ “أتاتورك” ومعناه أبو الأتراك(1).

العامل الثاني هو التنسيق بين الشريف حسين وابنه الأمير فيصل مع الأنكليز عن طريق مكماهون ولورنس العرب. حيث أدت هذه الثورة التي ابتدأت عام 1916 الى توجيه الضربات الواحدة بعد الأخرى للقوات العثمانية في الحجاز وشرقي الأردن، ومن ثمّ تحرير الشام عام 1918. ولقد ألهمت الثورة العربية، العديد من الضباط العراقيين والسوريين الذين يعملون في الجيش العثماني لإعادة النظر في ولائهم للسلطان العثماني، ومنهم نوري السعيد وجعفر العسكري ومولود مخلص، حيث التحق العديد منهم للعمل جنباً الى جنب مع الأمير فيصل لتحرير الشام وكان من المفروض السيطرة على مصير الشرق الأوسط العربي تحت أمرة الشريف حسين وأبنائه. بعد ذلك انصب اهتمام الضباط العراقيين الشريفيين نحو السلطة في العراق التي استكمل الأنكليز السيطرة عليها كلياً عام 1917.

أما العامل الثالث فهو توجه الأنكليز للسيطرة على العراق الغني بالموارد النفطية(2) والأراضي الزراعية، وانتزاعها من قبضة الدولة العثمانية. حيث دخلت القوات الأنكليزية عن طريق ميناء البصرة عام 1914 واستمرت بالتحرك شمالاً لاحتلال بغداد، والسيطرة كلياً على العراق في عام 1917. إن خروج العثمانيين من العراق احدث فراغاً سياسياً وأدارياً. تبع ذلك إقرار الحلفاء في مؤتمر سان ريمو انتداب انكلترا على العراق في 25 نيسان 1920.

بعد تحرير الشام من قبل الشريفيين بقيادة الأمير فيصل، طالبت فرنسا انكلترا بتطبيق معاهدة سايكس- بيكو السرية التي قَسم فيها الحليفان، الشرق الأوسط دون دراية الشريف حسين. وبذلك أخذوا يضغطون على فيصل بالتخلي عن الشام للإدارة الفرنسية. ولم يرغب الأنكليز ان يحكموا العراق بشكل مباشر، لذلك بدأت الإدارة الإنكليزية عن طريق مراكز التخطيط الأستراتيجي في الهند والقاهرة ولندن في البحث عن افضل وسيلة لحكم العراق. وعلى الرغم من ترشيح العديد من الشخصيات العراقية الطموحة لأنفسهم كي يحكموا العراق أمثال طالب النقيب من أشراف البصرة وعبد المحسن السعدون من أشراف المنتفك والشيخ خزعل الكعبي أمير المحمرة، وياسين الهاشمي الضابط الشريفي الطموح وغيره العديد، إلا ان الإنكليز وجدوا في الأمير فيصل بن الشريف حسين الحل الأفضل، لسببين، الأول تعويضه عن تخليه عن حكم الشام، والثاني تلمس الإنكليز رغبة العراقيين بحاكم من العائلة الهاشمية التي يحترمها شيعة وسنة العراق، خاصة بعد ثورة العشرين.

بذلك انعقد مؤتمر القاهرة في آذار 1921 الذي حضره المندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس ومس بيل من ادارة العراق الأنكليزية وجعفر العسكري وساسون حسقيل نيابة عن وزارة عبد الرحمن الكيلاني المشكلة حديثاً تحت إشراف السير بيرسي كوكس. وقد تم في هذا المؤتمر الذي حضره مستر ونستون تشرتشل، إقرار الأمير فيصل ملكاً على العراق بشرطين، الوصاية البريطانية وبيعة العراقيين له. الوصاية كانت امراً مفروغاً منه نتيجة لتواجد القوات البريطانية وقرار الحلفاء في مؤتمر سان ريمو. أما بيعة العراقيين او لنقل “أشراف” العراقيين ممثلين بالشيوخ والسادة ورجال الدين والموظفين الكبار الذين كانوا جزءاً من الإدارة العثمانية، فإنها لم تمر بالسهولة ذاتها.

نعم تعثرت بيعة العراقيين للأمير فيصل، مما اضعفه كثيراً في تفاوضه مع سلطة الانتداب البريطاني. فعلى سبيل المثال، فإن لواء كركوك والسليمانية صوت ضد الأمير فيصل، وان لواء أربيل والموصل أشترطا ضمان حقوق الأقليات كما وردت في معاهدة سيفر. أما لواء البصرة فقد اشترط أن يكون الأمير فيصل ملكاً على “العراق والبصرة”، بمعنى أن البصرة تعتبر أقليما متحدا مع العراق وليست جزءاً منه. أما لواء الدليم والحلة والمنتفك والعمارة فكانت بيعتهم مشروطة

ببقاء إشراف بريطانيا العظمى. ولم يمنح البيعة المطلقة سوى لوائي كربلاء وديالى. أما لواء بغداد فقد بايع الأمير فيصل بشروط عديدة منها التاكيد أن يكون العراق دولة دستورية حرة ديمقراطية مستقلة مجردة من كل قيد ومنقطعة عن سلطة الغير(2). وحتى بعد تتويج فيصل ملكاً على العراق، وسعيه للحصول على الاستقلال، سعى بعض الشيوخ على تحريض الإنكليز على فيصل، فقد ” أعلن مشايخ بني ربيعة انهم ينظرون “باشمئزاز حقيقي ال احتمال سحب الإشراف البريطاني، واكثر من ذلك، فإن علي سليمان، من الدليم، وأربعين رئيس عشيرة آخرين، ذكروا الملك في لقاء معه، ومن دون خجل، بأنهم أقسموا على الولاء له شرط ان يقبل بالتوجيه البريطاني”(3)، وبعبارة أخرى فإن:

“البيعة كانت لبريطانيا العظمى أكثر من كونها بيعة للأمير فيصل”

السؤآل الذي يمكن طرحه او التفكير به هو: ما الدور الذي لعبه الساسة العراقيون في تأسيس العراق الحديث؟ هل كان دوراً أساسياً أم دوراً ثانوياً؟ هل كان دوراً إيجابياً أم سلبياً؟ حقيقة الأمر كما ذكرنا سابقاٌ من بحث العوامل الثلاث نجد ان العديد من نخبة العراقيين الذين أحاطوا الملك الجديد، كان لهم دور سلبي لتثبيت مصالح خاصة على حساب مصلحة الوطن العليا، ودوراً ثانوياً في تأسيس الدولة، إلا ان دورهم قد تزايد من خلال المفاوضات المستمرة التي اصر عليها الملك فيصل والإدارة العراقية الحديثة لحين حصولهم على الاستقلال ودخول عصبة الأمم المتحدة عام 1932 في نهاية حكم الملك فيصل الأول ونوري السعيد رئيساً للوزراء وجعفر العسكري وزيراً للخارجية والدفاع(4).

___________________________________________________________ (*) يعرف المفكر الألماني ماكس فيبر Max Weber ، الدولة على انها: منظمة سياسية ألزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الأستخدام الشرعي للقوة على أراضي معينة.

(1) بطاطو، حنا، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية، الكتاب الأول، من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، 1995، بيروت.

(2) نعمة، د. كاظم، الملك فيصل الأول والإنكليز والاستقلال، بيروت، الدار العربية للموسوعات.

(3) بطاطو، نفس المصدر، ص 117.

(4) الحسني، عبد الرزاق، تاريخ الوزارات العراقية، العدد (3)، دار الشؤون الثقافية العامة، 1988، بغداد، ص 164.

محمد حسين النجفي

5 شباط 2021

www.mhalnajafi.org

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here