العفريت پازوزو من أرض آشور إلى هوليوود 

  بقلم : عضيد جواد الخميسي

پازوزو ؛ إله (عفريت ) آشوري / بابلي شرّير، والأكثر شعبية في بلاد الرافدين خلال الألفية الأولى قبل الميلاد ، وهو ابن هانبي أو (هانبا) ملك عفاريت العالم السفلي ، وشقيق همبابا (الإله العفريت) حارس غابة الأرز في ملحمة گلگامش الذي قُتل على يد گلگامش وصديقه إنكيدو .

 من خلال العالم السفلي (حيث كان يُعتقد أن جميع العفاريت تعيش فيه) ، كان لپازوزو القدرة في السيطرة على الرياح الغربية والجنوبية الغربية اللتين تأتيان بالمجاعة خلال موسم الجفاف . وفي موسم الأمطار ؛ كانتا تجلبان العواصف القوية والجراد . وبما أن پازوزو كان القوة وراء الرياح المدمرة وتهديداتها ؛ فقد اعتبر العفريت الأكثر إساءة إلى مصالح الناس .

كانت العبادة والصلاة  إلى پازوزو ؛ تهدف إلى تحويل ميله الطبيعي من الأذى إلى رغبة في عمل الخير . لأنه من الواضح كانت لديه القدرة الواسعة في الإيذاء . وحسب الاعتقاد ؛ فإنه كان يتمتع بنفس القدر من القوة في حماية الأشخاص من الخطر الذي قد يلحق بهم .

پازوزو العفريت الذي عُرف في بلاد الرافدين والمشهور عالمياً في الوقت الحاضر ؛ هو الشخصية الأسطورية الوحيدة التي نالت حضوراً كبيراً في عالم الفن . كتب العالم الآثاري “ستيفن بيرتمان”، التعليق التالي عن هذا الحدث :

 ” على الرغم من أنه ليس من المشاهير ؛ وصل پازوزو إلى هوليوود ؛ عفريت بلاد الرافدين الوحيد الذي تألق في فيلم – طارد الأرواح الشرّيرة The Exorcist ” (ص 125).

في فيلم الرعب لعام 1973 ( الرواية التي كتبها ويليام پيتر بلاتي William Peter Blatty عام 1971) ، وقصته تدور حول فتاة ” ليندا بلير  Linda Blair ـ في دور ريگن ” تلبسّها عفريت أثناء تنقيب القس ” ماكس ڤون سيدو Max von Sydow ـ في دور ميرين” في أحد المواقع الآشورية ( تل الرماح ) في الموصل ، وبعد عثوره على تمثال پازوزو يصله نداء من أمريكا ؛ في أن هناك فتاة تحتاج الى تعويذة لإخراج عفريت من جسدها كان قد تلبّسها . سافر القس ميرين من الموصل إلى أمريكا لعمل تلك التعويذة . والمفاجأة ؛ أنه وجد العفريت الذي قد تلبّس الفتاة ؛ هو نفسه الذي عثر على تمثاله في مدينة آشور أثناء التنقيب !

كان پازوزو من العفاريت الشرّيرة ، لكنه ليس أكثرها شرّاً. وغالباً ما يتم الصلاة له لاجتناب شره في طلب الحماية منه ، إذ يُظهر قوته بشكل خاص في حماية النساء الحوامل والأطفال من الإلهة الشريرة ” لاماشتو ” ؛ والتي كانت تفترس الأجنّة الذين لم يولدوا بعد ، إضافة إلى المواليد الحديثة .

إن مصطلح “عفريت ” في العصر الحديث يحمل معه دلالة الشر، ولكنه لم يكن كذلك في العالم القديم . الكلمة الإنگليزية “ديمن ـ Demon” هي ترجمة للكلمة اليونانية “دايمون ـ Daimon ” ، والتي تعني ببساطة “روح”. كما يمكن للروح أن تكون خيرّة أو شرّيرة ، اعتماداً على المقاصد والنوايا ، ومفاهيم العقاب الإلهي .

في بلاد الرافدين القديمة ؛ مثلما هو الحال في الحضارات الأخرى من العالم القديم ؛ غالباً ما ترسل الآلهة العفاريت كعقاب بسبب الخطيئة المُرتكبة ، أو لتذكير الشخص بواجباته تجاه الآلهة والآخرين في مجتمعه. ولم يكن مفهوم العفاريت على أنها شريرة دائماً ، فحتى التي تشبه العفريت پازوزو في خصائصه ، قادرة على عمل الخير أيضاً .

دور العفاريت في مجتمعات بلاد الرافدين

في الأسطورة الأكدية / البابلية عن ” أطرا ـ هاسيس ” ( الطوفان الكبير ) ، والتي تحمل فكرتها الفلسفية في عملية الخلق .

عندما كثر نمّو البشر ، وأصبحت أعدادهم هائلة ؛ صاحبت هذه الزيادة صخباً وفوضى ، وخصوبة عالية ، وأخذوا يعيشون لفترات طويلة ؛ بحيث أصبح حجم الولادات أكبر من حجم الوفيّات بكثير . وافترشوا نواحي الأرض بجميع أركانها ؛ يزعجون الإله “إنليل “، بصوتهم ، والضوضاء التي تصدر جرّاء حركتهم ، لدرجة أنه قرّر تدميرهم في فيضان كبير.

بعد التخلص من جميع المخلوقات ، عاد السكون إلى الأرض مرة أخرى . بعد ذلك ؛ اقترح إله الحكمة “إنكي ” خطة لإعادة ملىء الأرض من جديد ، وذلك بأن تخلق الآلهة نوعاً جديداً من البشر؛ بعمر أقصر، وحياة مهددة باستمرار. من الآن فصاعداً سيكون هناك مرض ، إجهاض ، عجز ، عُقم ، هجمات من قبل الحيوانات البرية ، وتعزيز جميع طرق الموت الأخرى التي بإمكانها ان تحصل في يوم واحد .

كانت العفاريت جزءاً من هذه الخطة الإلهية ؛ على ان يتم إرسالها لمعاقبة الأشرار ، وامتحان الأخيار . وحتى يمكن منحها الإذن في تعذيب أي شخص ؛ لأن أحد الآلهة قد وجد ذلك مبرّراً ، وأن اختلف حكمه مع إله آخر . وكانت العفاريت تتدخل أيضاً في الجماع والخصوبة ، مثيرة بذلك قلق الناس في كثير من الأحيان .

كان العفريت “سامانا” ، الذي له أسنان الأسد ، مخالب النسر ، وذيل العقرب ؛ يمثل تهديداً دائماً لحياة الناس .

” تعويذته  السومرية ؛ تشرح لنا كيف كان يبطل حيض الفتاة ، ويضعف ذكورة الشاب ، ويمنع خدمات المومس والبغي . ” (ليك ، ص 223) .

يمكن أن يؤثر العفريت سامانا أيضاً على المحاصيل والماشية ، كما أضاف “بيرتمان” :” كانت لديه شهية خاصة للرضع والبغايا” (ص125).

كان من المفترض أن يتم السيطرة على عفريت في هذا الخبث والقوة التدميرية بحزم من قبل الآلهة . ولكن ؛ كان يُنظر إلى سامانا على أنه مساعد الإلهة “گولا “( إلهة الصحة والشفاء ) الذي يتم إرساله الى البشر؛ كي يعملوا على اتبّاع النصائح التي تنقذ حياتهم .

حماية پازوزو

من أفضل الطرق لحماية الشخص ضد المخاطر المحتملة ؛ هو العثور على عفريت قوي يحميه من غضب الآلهة ، ويكون درعاً واقياً في صدّ عقابها . كان پازوزو العفريت الأكثر شهرة الذي يُستعان به في تلك المواقف . إذ تُتلى الصلاة إليه بشكل خاص ؛ لمنع الإلهة الشريرة “لاماشتو” من قتل الأطفال الذين لم يولدوا بعد أو المولودين حديثاً . لكن على ما يبدو ؛ يتم الاستعانة به أيضاً ضد المرض والعجز الجنسي ، ومنع الآثار المدمرّة للرياح الغربية والرياح الجنوبية الغربية ؛ اللتان تنبعثان من أرض الظلام أو الأموات ، والذي يُعتقد ان پازوزو له القدرة في التحكم بهما .

يوصف پازوزو على أنه شخصية مرعبة جداً ، إذ تمكنه قدرته على هزيمة أي عفريت أو روح أقل منه منزلة . يتجسد پازوزو في التماثيل والنقوش ؛ بوجه كلب عيونه منتفخة ، وجسم حرشفي ، وقضيب برأس ثعبان ، ومخالب طائر ضخم ، وأجنحته كبيرة .

رغماً من اكتشاف تماثيل صغيرة له في مدينة الحضر ؛ إلا أن لم يُعثر على أي تمثال له بحجم كبير في مكان آخر، ومن غير المحتمل أن يتم العثور عليه في الأصل . إذ تعتبر نقوش العفاريت أو الآلهة المرتبطة بالعالم السفلي نادرة جداً، لاعتقاد الناس ؛ أن ضررها ربما أكثر من نفعها . لهذا السبب ؛ لا توجد سوى منحوتات قليلة للإلهة ” أرشيكيگال ” ملكة الموتى . وحتى في منحوتة ” ملكة الليل ” لا يعرف الى الآن ؛ لمن تعود ، والى أي إلهة أو عفريته صُنعت تلك اللوحة .

كانت التماثيل الصغيرة والتمائم السحرية التي يتجسد بها پازوزو ؛ يًعتقد في أن لها تأثير مباشر على مالكها ، فالتمائم المربوطة حول الزند ، والتماثيل في الغرف ، على الرغم من صغر حجمها ، فإن قوة الحماية فيها كبيرة . إذ لم يكن لدى المواطن الرافديني ما يخشاه من العفريت ؛ لأنه في الأساس كان يقدّسه من خلال طلب حمايته . وعندما يستجيب ؛ فإنه يُنزل غضبه على المسيئين ، وليس على الشخص الذي استنجد به .

كانت تلك التماثيل الصغيرة معروف موقعها في غرف الأطفال عادةً ، كما يمكن الاحتفاظ بها في أي مكان في المنزل ، سواء قريبة من المدخل أو النافذة . صنعت هياكل النقوش والتماثيل لمجموعة من العفاريت ، فقد كان هناك تماثيل صغيرة من ” كلاب النمرود ” لها خصائص مماثلة للعفريت پازوزو، والتي عادة ما تُدفن تحت عتبات الدور (أو توضع في مكان بارز من الغرفة) للحماية من الأرواح أو العفاريت أو الأشباح الشريرة . وكان يُعتقد أن تماثيل كلاب النمرود هي بمثابة ظلال لأرواح كلاب حقيقية مرتبطة مع الإلهة ” گولا”، والتي يُنظر إليها في المقام الأول كحيوانات للحماية . بنفس الطريقة ؛ فان تماثيل پازوزو رُسم لها في ان تكون نسخة من العفريت نفسه ، لضمان سلامة الناس في وجودها .

نشوء فكرة العفاريت وتطورها

حسب اعتقاد عالم الآثار “جيريمي بلاك ” ؛ فإن العفاريت قد نشأت وتطورت في بلاد الرافدين على مر السنين . كانت بداية الفكرة تتمثل في إبعاد خطر الموت من هجمات الحيوانات المفترسة للإنسان ، ومن ثمّ توسعت لتشمل مفاصل الحياة الأخرى . ويرى بلاك أن پازوزو هو التعبير النهائي لهذا التطور . ثم يقدم تسلسلاً زمنياً مبسطاً لذلك التطور ، بتقسيمه إلى خمس مراحل :

1. المرحلة التكوينية ـ أواخر الفترتين  (العبيد ، أوروك ) ؛ عندما تم دمج خصائص الحيوانات المختلفة لأول مرة في كائنات مركبة غير مألوفة .

2 . المرحلة التفاؤلية ـ خلال الفترة الأكدية ؛ إذ تُظهر المشاهد المنقوشة ؛القبض على العفاريت الشريرة ومعاقبتها .

3. المرحلة المتوازنة ـ أواسط الفترة البابلية القديمة ؛ حيث غالباً ما تُمزج في تصاميم الأختام الأسطوانية ؛ صور الآلهة مع الكتابة والنقوش الأخرى ، وحسب  الظروف ذات الصلة في المجتمع .

4. المرحلة الانتقالية ـ تأثير الفن الميتاني والكيشي في فنّ الفترة الآشورية الوسيطة ؛ ابتداءً من القرن الرابع عشر وحتى القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، وذلك عندما تخلّت النقوش والصور التي كانت تركز على الإنسان في الفترة البابلية القديمة ، بعد أن أخذت تميل إلى أشكال رؤوس الحيوانات الهجينة .

5. المرحلة التشخيصية ـ  وهي ممثلة بفنّ الآشوريين والبابليين الجدد ؛ عندما تم تجسيد العفاريت بشخصية مرعبة .

” تتلائم المرحلة الأخيرة من تطور العفاريت مع اللاهوت الجديد للعالم السفلي في الألفية الأولى قبل الميلاد . إذ صاحب هذا التغيير النوعي في مفهوم العفاريت ؛ ظهور ممارسة نشر النُصب والتماثيل الضخمة ، ونقوش الكائنات الخرافية السحرية في القصور والمعابد ، ودفن نماذج طينية صغيرة للعفاريت في بناء الأسس .” ( بلاك ص63)

استمر هذا التطور في الفترة الهلنستية من تاريخ بلاد الرافدين واستمر حتى الفترة الميلادية . إذ لم يعد المسيحيون بحاجة إلى عفاريت تحمي البشر؛  بسبب ان العقيدة الجديدة لا تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية السابقة. كما ان العفاريت إلى جانب الآلهة القديمة ليس لهم مكاناً في سماء أو جنّة الإله المسيحي ، وبالتالي فهم نقلوا إلى الجحيم المسيحي .

كانت العفاريت ( تغير المفهوم إلى الأبالسة في المسيحية ) ، مرتبطة فعلاً مع العالم السفلي ؛ فقد كانت خطوة سهلة لتحويل حياة الآخرة الوثنية إلى جحيم من العقاب في المسيحية ؛ وجعل الأبالسة أدوات لهذا العقاب الأبدي ، بالإضافة إلى الصعوبات والأخطار التي يواجهها المرء خلال حياته .

پازوزو؛ الشخصية المرعبة في بلاد الرافدين القديمة ؛ كان الخيار الأمثل في صورة الشر بالنسبة إلى الناس في عصره . رغماً من ذلك ؛ فقد كان يعتبر آمناً ودرعاً واقياً بوجه المصائب لعالم غير مطمئن ؛ ومخيف في كثير من الأحيان .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ستيفن بيرتمان ـ الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .

جيرمي بلاك ـ الآلهة ، العفاريت ، الرموز ، في بلاد الرافدين ـ مطبعة جامعة تكساس ـ 1992 .

گويندولين ليك ـ الجنس والاثارة في أدب بلاد الرافدين ـ راوتليج للنشر ـ 2003 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here