دولة سومر، النبع الاول في تاريخ الحضارة الانسانية !

دولة سومر، النبع الاول في تاريخ الحضارة الانسانية !

اولى المؤسسات الحكومية ! (*) د. رضا العطار

ان نمو الانسان الاجتماعي والروحي لهو في الغالب بطيء، منحرف يصعب تتبعه وتقصّيه. وقد تكون الشجرة المتكاملة النمو منفصلة بعيدة عن بذرتها الاصلية بألوف الاميال والسنين. خذ مثلا اسلوب الحياة المعروف بأسم ( الديمقراطية ) ومؤسساتها ونظامها الاساسي وهو المجلس السياسي. ففي ظاهر الحال يبدو هذا النظام وكأنه قاصر على حضارتنا الغربية وانه ثمرة من ثمرات القرون الحديثة، اذ منذا الذي يتصور ان برلمانات سياسية كانت في الوجود قبل الوف كثيرة من السنين ! وفي جهات من العالم ليست لها صلة بالمؤسسات الديمقراطية اصلا.

لكن الاثري الصبور ينقب ويتعمق في الحفر ويوسع فيه ولا يعلم مطلقا ماذا سيجده ويعثر عليه. ولكن بفضل جهود فرقة ( الرفش والمعول ) اصبح في وسع علماء الاثار ان يقرأوا محضر مجلس سياسي انعقد قبل نحو خمسة آلاف عام في العراق القديم قبل اي مكان آخر. وكان لايختلف عن برلماننا في الوقت الحاضر كونه كان يتكون من مجلسين: مجلس الشيوخ ومجلس النواب الذي كان يتكون من المواطنين الذكور القادرين على حمل السلاح.

ففي اي جزء في العالم انعقد اول مجلس ( برلمان ) لم يكن موضع انعقاده في الغرب ؟ بل ان ما يثير الغرابة والدهشة ان يكون ذلك البرلمان العتيق قد عقد جلساته في ذلك الجزء من قارة آسيا المسمى بلدان الشرق الأوسط، موطن الطغاة والمستبدين المأثور، وهو جزء من العالم كان المعروف عنه ان مفهوم مجالس نواب الشعب مفقود عندهم اساسا !

اجل انه في تلك البلاد المعروفة قديما بأسم ( سومر ) الواقعة في جنوب نهري دجلة والفرات، تمّ انعقاد اقدم مجلس سياسي معروف في الالف الثالث ق م . فلقد كان يقطن هذه الرقعة من الأرض شعب انشأ ونمى ما يرجح ان تكون ارقى حضارة انسانية في العالم المعروف حينذاك.

كانت بلاد سومر تفخر وتتباهى بمدن كبيرة عديدة تتركز حول مبان عامة كبيرة وذات شهرة واسعة. وكان تجارها النشطون يزاولون التجارة في البر والبحر مع الاقطار المجاورة. واستطاع مفكروها والمشتغلون بالعلوم العقلية ان يخلقوا مجموعة من الافكار والاراء الدينية تقبلها البشر ككتاب مقدس. وتغنى شعرائها الموهوبون بهيام وحماس بأمجاد آلهتها وابطالها وملوكها.

اما خير ما فعله السومريون هو انهم انشأوا وطوروا بالتدريج طريقة للكتابة بقلم القصب وعلى الطين، مكّنت الانسان لأول مرة في التاريخ من ان يدون ويخلد اعماله وافكاره وآماله ورغباته واحكامه ومعتقداته، وعلى هذا فليس من المستغرب اذا كان السومريون قد احرزوا في حقل السياسة ايضا تقدما مهما. وانهم بوجه خاص ساروا في الخطوات الاولى نحو الحكومة الديمقراطية. بالهيمنة على سلطات الملوك والاعتراف بحقوق المجالس السياسية.

كانت بلاد سومر مؤلفة من عدد من الدول المتنافسة على كسب السلطة والسيطرة على جميع البلاد، وكانت دولة كيش اهمها وهي التي تسلمت الملوكية من السماء بعد الطوفان – هذا ما ترويه الاساطير – لكن كانت هناك ايضا دولة ارك الواقعة بمسافة بعيدة الى الجنوب من كيش وكانت تتعاظم في السلطان حتى بلغ بها الحال ان اخذت تهدد دولة كيش. فأدرك ملك كيش مبلغ الخطر وهدد ارك بشن حرب عليهم اذا ابوا الاعتراف به سيدا عليهم. وفي هذه الأزمة العصيبة، لجأت حكومة ارك الى اخذ رأي الشعب، وبناء على ذلك التأم مجلسا العموم والشيوخ ليقررا اي السبيلين يختاران: الخضوع والتمتع بالسلم، او الحرب للحفاظ على الاستقلال.

ورويت قصة النزاع في قصيدة سومرية من نوع الملاحم كان ابطالها ( أجا) حاكم كيش وكلكامش حاكم ارك. حيث تبادلا الرسل الذين حملوا معهم الانذار. وعندما لم تجدي المفاوضات بينهما نفعا تقدم آجا واحتل مدينة ارك.

يوجد الان احد عشر لوحا دونت فيها هذه القصيدة التي تروي لنا ما دار في المجلس الذي انعقد، من نقاش، لكن كان في الامكان ان تترجم فقط اربع قطع من هذه الالواح، وبعد اربعين عاما وتحديدا في عام 1943 حين نشر الباحث الاثري ثور كلد جاكبسون من المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو دراسة حول هذا الموضوع بعنوان – الديمقراطية البدائية – اصبح الظرف مؤاتيا للباحث صموئيل كريمر من ان يستنسخ الالواح السبعة الباقية في استانبول وفيلادلفيا. ويُنشر القصيدة المؤلفة من 115 سطرا في مجلة

( الأثار الأمريكية ) مترجمة من اللغة المسمارية السومرية تحت عنوان – نشرة علمية – عام 1949

* مقتبس من كتاب الواح طينية السومريون لصموئيل كريمر جامعة شيكاغو 1963

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here