َ طوال نحو عام، اعتاد المحتجون، الذين اعتصموا بالآلاف في ساحة التحرير أو كانوا يتجمعون في محيطها، على مشاهد الموت وسقوط رفاقهم بالرصاص الحي وقنابل الغاز وبأسلحة القنص، حتى تجاوز عدد القتلى 560 والجرحى العشرين الفاً.
في 22 شباط 2020 نحو الساعة الثامنة مساءً، كان المتظاهر الشاب محمد علي (اسم مستعار) ينتظر بمفرده قرب ساحة كهرمانة وسط بغداد، مرور أي عجلة للنقل العام تقله إلى بغداد الجديدة جنوب شرقي العاصمة، ليكمل من هناك طريقه إلى منزله في شارع فلسطين، لكن العجلة التي ركبها حملته إلى عالم آخر وغيرت حياته إلى الأبد.
كان البرد والظلام يحيطان بالمكان الذي يبعد كيلومترات من ساحة التحرير مركز الاحتجاجات الشعبية وميدان الاعتصامات المطالبة بتغيير الطبقة الحاكمة المتهمة بالفساد، حينما توقفت قربه سيارة بيضاء وفي داخلها أربعة ركاب لم يثر مظهرهم أي ريبة، فانسل محمد فيها سريعاً، وهو يتبادل السلام مع الراكبين قبل ان يسود الصمت.
لم تمر سوى لحظات حتى غيرت السيارة مسارها متجهة نحو شارع ابو نوّاس المطل على نهر دجلة في اللحظة ذاتها التي ظهر فيها من تحت سترة أحد الركاب مسدس كاتم للصوت صوب نحوه مع كلمات بلغة حاسمة “اصمت إن كنت تريد أن تعيش”.
محمد (23 سنة) كان يبحث عن عمل منذ تخرجه من كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد في صيف 2019، ووسط موجة الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح في تشرين الأول 2019، انخرط سريعاً في دعم الحركة الاحتجاجية، وساهم في تأسيس خيام الاعتصام الطلابي في شارع السعدون المؤدي إلى ساحة التحرير. وطوال أشهر عمل بحماسة في جمع التبرعات لتوفير المستلزمات الاساسية من طعام وفرش نوم وادوية وأقنعة الوجه الواقية من قنابل الغاز.
أحصت مفوضية حقوق الانسان العراقية، في مطلع شباط 2020 خلال اربعة أشهر من الاحتجاجات فقط، اختطاف 72 شخصاً (22 أطلق سراحهم) الى جانب 49 محاولة اغتيال راح ضحيتها 22 ناشطاً وصحافياً ومدوناً. لكن الأرقام تصاعدت في الأشهر اللاحقة.
وفي مطلع حزيران 2021 كشف عضو مفوضية حقوق الانسان فاضل الغراوي، عن مصير جميع المفقودين البالغ عددهم 76 مفقوداً، باستثناء 18 منهم ما زالت عمليات البحث والتحري جارية عنهم.
تصفيات بتهمة العمالة
طوال أشهر من توثيق حوادث الاختطاف تحدث نشطاء لكاتب التحقيق، عن تلقي كثير منهم بين ايلول وتشرين الأول 2020 معلومات عن “نيات” جماعة محددة القيام بعمليات تصفية لنشطاء في التظاهرات وان لديهم فتاوى بشرعية القتل بتهمة العمالة لأميركا وبريطانيا ودول الخليج.
في الفترة ذاتها تلقى صحافيون معلومات من أطراف أمنية مقربة من مكتب رئيس الوزراء، تفيد بوجود قائمة تضم نحو 70 اسماً، بين صحافي وناشط، مهددون بالتصفية من قبل جماعات مسلحة مقربة من أحزاب السلطة، بتهمة “تواصلهم مع دول معادية لفصائل المقاومة”.
الأجهزة الأمنية التي عجزت عن حماية المحتجين من فصائل مسلحة “تعتقد أن الاحتجاجات مؤامرة لتهديد وجودها”، يبدو أنها فضلت أن لا تكون شريكة في الجريمة، فسربت أسماء النشطاء والصحافيين المهددين.
تلك المعلومات تسربت بعد أيام من تعرض أربعة من أبرز نشطاء البصرة لمحاولات اغتيال، فقد قُتلت الناشطة في المجال المدني رهام يعقوب (19 آب/ أغسطس) بعد أيام من اغتيال الناشط البارز في حراك البصرة تحسين الشحماني صاحب خيمة “مدنيون” (14 آب)، بينما تمكن من النجاة كل من لوديا ريمون وعباس صبحي. وسبقت ذلك عمليات قتل أثيرت حولها الشبهات.
291 محاولة اغتيال
لم تقتصر عمليات الخطف والاغتيال التي حصلت عقب حراك تشرين 2019 على بغداد والبصرة، بل شملت تسع محافظات أخرى، بحسب وثيقة ضمت أسماء وتواريخ عمليات الاغتيال، وأظهرت أن جل العمليات حصلت بين الرابعة والحادية عشرة مساء، ونفذت بأسلحة رشاشة متنوعة بينها أسلحة كاتمة للصوت.
ضابط في جهاز الأمن الوطني تم التواصل معه مرات عدة قبل أن يوافق على اللقاء في مقهى وسط بغداد، قال وبشرط عدم ذكر اسمه، إن الاغتيالات حصلت بناءً على “عمل منظم قامت به جماعة مسلحة كانت تعمل تحت انظار وزارة الداخلية وبدعم من أطراف سياسية شيعية”.
الوثيقة أحصت 291 محاولة تصفية مباشرة أو بعد الخطف، أدت إلى مقتل 80 ناشطا ومتظاهراً، وإصابة 122 آخرين، إلى جانب نجاة 89 ناشطاً ومتظاهراً من دون إصابة، وهؤلاء توزعوا بين بغداد، بابل، كربلاء، النجف، الديوانية، المثنى، الناصرية، ميسان، البصرة.
انتظار بلا نهاية
منذ نحو عام ينتظر النشطاء نتائج لجنة تقصي الحقائق للكشف عن المتورطين بقتل وخطف المتظاهرين، ولجان التحقيق التي شكلت بعد كل عملية، والتي لم تخرج بتحديد الأشخاص ولا الأطراف المتورطة.
مع صمت الحكومة برزت أصوات في صفوف المحتجين توجه أصابع الاتهام مباشرة إلى أحزاب السلطة وفصائل مسلحة لها ارتباط بالحشد الشعبي، مشيرة إلى أن وسائل إعلام الفصائل وتحديداً كتائب “حزب الله” و”عصائب أهل الحق”، نقلت تصريحات وتعليقات وكتابات هاجمت الاحتجاجات وشككت بدوافع النشطاء، واتهمتهم بالعمالة والخيانة وتلقي الأموال من الخارج.
لكن النائب فاضل الفتلاوي عن حركة “عصائب أهل الحق” يرفض تلك الاتهامات، ويطالب حكومة الكاظمي “بتكثيف الجهد الاستخباري، لتكون هناك تحقيقات قضائية بعيدة عن الضغوطات من اجل الكشف عن القتلة وتقديمهم الى العدالة، ولكي نبعد الاتهامات غير الحقيقية الموجهة الى جهات بعينها”. ويقول إن جهات خارجية عديدة “لديها مصالح في إثارة الفوضى داخل المجتمع العراقي”، مشددا على أن القضاء يجب أن يأخذ مجراه وعلى الجهات المعنية بالتحقيقات كشف ما توصلت إليه. ويؤكد النائب أن الفصائل المرتبطة بالحشد الشعبي بما فيها “عصائب أهل الحق” هي قوة أمنية تابعة للقائد العام للقوات المسلحة واتهامها يأتي لإثارة الخلافات وخلق الفتنة.
ملاحقة عائلات النشطاء
بحسب نشطاء، لا تكتفي الجماعات المسلحة باستهداف الناشطين بل تلاحق عوائلهم ايضا برسائل التهديد لاجبارهم على وقف متابعة ملفاتهم.
تعرضت بيوت نشطاء لهجمات بأسلحة نارية وبعبوات صوتية، كبيت الناشط حسين الغرابي في ذي قار، فيما تلقى آخرون رسائل تهديد. يؤكد الناشط علي مهدي عجيل أن المجموعات المسلحة لا تتوانى عن فعل أي شيء لوقف الاحتجاجات “أنا علقوا في باب بيتي دمية طفل مشنوقة وملطخة بالدماء. كانت رسالة واضحة أنهم يعرفونني ويعرفون بيتي والأولاد وبإمكانهم أن يقتلوا أي شخص إذا لم أنسحب”.
يقول مالك الطيب الذي اغتيل شقيقه الناشط البارز في الديوانية ثائر الطيب في منتصف كانون الأول 2019 بواسطة عبوة لاصقة، والذي تواصل مع العديد من المسؤولين بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الداخلية لكشف قتلة شقيقه، أنه تلقى رسائل تهديد بالتوقف عن متابعة ملف شقيقه: “قبل فترة أثناء عودتي من العمل بسيارتي، قرب مستشفى الحسين، لحقت بي دراجة نارية يقودها شخص ملثم طلب مني التوقف للتحدث إلي. مررت بلحظات عصيبة وأنا اراقبه قبل ان يطالبني بترك الدعوى بشأن الكشف عن قتلة أخي، لأن في ذلك خطراً كبيراً على حياتي. أطلق كلماته وانطلق سريعاً، حاولت تعقبه لكنه دخل إلى الأزقة الضيقة واختفى”.
تتشابه محاولات الخطف في تفاصيلها، كما في نتائج التحقيقات التي تنتهي الى المجهول. ففي خمس قصص اختطاف وثقها معد التحقيق، كان المشهد العام: “سيارة تحمل مسلحين تخطف الناشط من الشارع بعد أن تشهر في وجهه سلاحاً نارياً ليلتزم الصمت، وتؤكد انه سيخضع لاستجواب سريع، وتمر عبر نقاط تفتيش من دون أن تتوقف لتنتهي في موقع احتجاز تتم حراسته من قبل مسلّحين”.
عدادات الموتى
في 30 من تموز 2020 أعلن هشام داوود مستشار رئيس الوزراء أن عدد قتلى الاحتجاجات بلغ 560 شخصاً بين متظاهر ورجل امن، وأنها ستتعامل مع الجميع بصفتهم “شهداء” وستحصل كل أسرة على 10 ملايين دينار كتعويضات. قبلها بستة أشهر وتحديدا في الثالث من شباط 2020 اعلنت مفوضية حقوق الانسان عن مقتل 556 (منهم 17 منتسباً أمنياً) وإصابة 23545 (3519 منتسباً أمنياً) خلال الفترة الممتدة بين الأول من تشرين الاول 2019 و30 كانون الثاني 2020. كما كشفت عن 121 عملية اختطاف ومحاولة اغتيال.
فيما وثق مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بين تشرين الأول 2019 ونيسان 2020، واستناداً إلى أكثر من 900 مقابلة مع أقارب ضحايا وشهود عيان وصحافيين ونشطاء مدنيين وسياسيين، مقتل 487 شخصاً على الأقل، وإصابة 7715 شخصاً بجراح خلال التظاهرات، غالبيتهم من الشباب، فضلاً عن اعتقال حوالي 3 آلاف متظاهر، ما أضاف مخاوف بشأن اعتقالات تعسفية وسوء معاملة، بحسب بيان لـ”يونامي”.
بعد أشهر من البحث والتدقيق والتواصل مع جهات متعددة بينها رسمية واخرى من تنسيقيات التظاهرات، تم إحصاء 561 قتيلاً وإصابة 24 ألفاً و688 شخصاً، بينهم 20 ألفاً و597 متظاهراً و4091 عنصراً أمنياً، إلى جانب 62 محاولة اغتيال، كان آخرها اغتيال ايهاب الوزني في وسط كربلاء.
هل سيحاسَب القتلة؟
حتى بعد اعتقال عدد من أفراد “عصابة الموت” في البصرة المتهمة بتنفيذ سلسلة عمليات قتل بينها اغتيال الصحفي أحمد عبد الصمد وزميله المصور صفاء غالي في كانون الثاني 2020، يشكك نشطاء بارزون بامكانية محاسبة المتورطين، ويرون أن الإفلات من العقاب سيظل سائداً.
لكن عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية والنائب عن البصرة بدر الزيادي، يبدي شيئاً من الأمل، ويصف اعتقالات بعض أفراد عصابة الموت بأنها “رسالة اطمئنان لأبناء البصرة بأن الأجهزة الأمنية قادرة على إلقاء القبض على المجرمين ولو بعد حين”.
ولم يخف طلب بعض القيادات الأمنية نقل المتهمين من البصرة إلى بغداد “لكي لا تكون هناك ضغوط على الأجهزة الأمنية ولا يتم تغيير الإفادات في ظل أي تأثير داخلي أو تدخل خارجي”.
الزيادي الذي أعرب عن أمله بأن تظهر التحقيقات “نتائج أكثر وأكبر حول الدوافع وراء تلك الاغتيالات، وطبيعة انتماءات أفرادها”، يقول إن اللجنة الأمنية النيابية ستفتح الملف وتحصل على معلومات دقيقة من الأجهزة الأمنية، “لكي لا تثبت الاغتيالات ضد مجهول”.
معركة خاسرة
في ظل حكومة عاجزة تغلغلت الجماعات السياسية ذات الأجنحة المسلحة في أجهزتها، يكاد يجمع نشطاء حراك تشرين على استحالة محاسبة المتورطين في عمليات الخطف والاغتيال، ويشككون بأن تفضي النتائج الى اعتقالات مؤثرة ومحاكمات وأحكام رادعة، مشيرين الى فشل الاجهزة في اعتقال متهمين رغم وجودهم في العراق، وان آخرين سيخرجون وسيبرر ذلك بغياب الأدلة.
يقول صحفي معروف في البصرة، رفض الرد على اسئلتنا مرارا، ثم تحدث بشرط عدم كشف أي شيء يدل على هويته: “نحن لا نتحدث لأننا نخشى الموت، لا نثق بالأجهزة الأمنية فهي مخترقة وعاجزة. اعتقلوا هنا بضعة أشخاص هم مجرد أدوات في حين ان كل اجهزة البصرة لم تستطع القبض على رئيس المجموعة الذي كان متواجدا في البصرة. ثم من يقول ان هؤلاء سيحاكمون؟ ربما نستيقظ يوما ونسمع عن إطلاق سراحهم لعدم كفاية الأدلة أو هروبهم! نحن في معركة خاسرة”.
ويضيف: “وصل بنا الحال إلى أنه إذا تم تهديدنا من قبل أشخاص او حصلنا على معلومات مهمة لا نستطيع تبليغ الأجهزة الأمنية بها لأن بلاغاتنا ستسرب الى الجماعات التي لن تتردد في تصفيتنا ولا رادع يمنعها. ايهاب الوزني سلم الأجهزة الأمنية أسماء من كانوا يهددونه. ماذا فعلت تلك الأجهزة؟ لا شيء. هم معروفون ويقومون بجرائمهم علناً والأجهزة تتفرج أو حتى تتستر وتقول إن الأدلة غير كافية”. اليأس من إمكان تحقيق التغيير عبر الانتخابات وقبلها محاسبة الجناة، دفع “البيت الوطني”، إحدى القوى المنبثقة عن حراك تشرين، إلى إعلان مع قوى تشرينية أخرى، عن مقاطعتها للانتخابات. ولا يرى حسين الغرابي وهو أحد مؤسسي “البيت الوطني” جدوى من الانتخابات في ظل عجز الحكومة أمام سطوة الميليشيات وسلاحها: “كيف يمكنني أن أنافسهم وكل أوراق اللعبة بيدهم؟”.
ويرى الغرابي أن هناك “تماهياً” مع الحكومة بالكشف عن المتورطين: “المتورطون هم من الأحزاب التي تمسك بزمام السلطة، جميعها تمتلك ميليشيات ولديها سلاح خارج الدولة والاغتيالات تصب في صالحها لأنها تهدف إلى إنهاء الاحتجاجات عبر ترهيب الأصوات البارزة”.
يتفق النائب عبد القهار السامرائي، مع آراء النشطاء بشأن تقصير الحكومة في كشف الجناة “استبدال حكومة عبد المهدي بهذه الحكومة لم يكن ذا جدوى”. ويضيف أن “ما كان يأمله المتظاهرون لم تقم به هذه الحكومة، لذا هم ناقمون اليوم عليها أكثر من الأمس والقوى التي تعمل خارج نطاق الدولة تزيد من احتقان الشارع”.
• عن موقع “درج”
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط