النعيم بين الواقع والطموح

النعيم بين الواقع والطموح : بقلم (كامل سلمان )

لو سألتني ما هو النعيم ، سأجيبك هو الصحة والعافية ، فأنا أشعر بإن النعيم في هذه اللحظة و في كل لحظة هي الصحة والعافية ، ولو سألت الطفل الرضيع عن النعيم فأن لسان حاله بلا شك سيجيب بإنه أحضان الأم ، وكذلك إذا سألت العاشق فإن النعيم هو وجود المعشوقة معه .
إذا النعيم ما يشتد الحاجة اليه عند الفقدان او الابتعاد وعند توفره فلم يعد نعيم بمرور الزمن . سأل اينشتاين كيف ترى الجنة ، أجاب الجنة بالنسبة لي مكتبة كبيرة تحوي جميع الكتب ، لذلك فالإنسان سواء أكان المؤمن او غير المؤمن بالله فالنعيم هو أمنية واسعة تلبي احتياجاته بجميع جوانبها والحصول عليها فوز وسعادة وإذا لم يستطع الحصول عليها فيتأمل ذلك بعد الممات ، القرآن الكريم قد أعطى للنعيم صفة تغطي الاحتياجات المتسلسلة وغير المنتهية للمؤمن عندما ذكرت الآية ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) وكلمة الأنهار هنا بمعنى القدرات والإمكانيات التي تحت متناول اليد وهذا ما يفسر قوله تعالى على لسان فرعون ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) كما شرحه القرطبي وغيره من المفسرين بإن الأنهار في هذه الآية هم القادة والرؤساء والجبابرة يسيرون تحت لوائي لإنه في الحقيقة لا توجد أنهار ماء تجري تحت فرعون والمعروف عن مصر فيها فقط نهر واحد هو نهر النيل وحتى ان وجدت الأنهار فلا معنى لها في الشرح والتفسير ، وكذلك الآية ( ان المتقين في جنات ونهر ) اي بمعنى الجنات التي تحوي كل شيء وكلها تحت الأمر والطلب وايضا تفسير الآية ( متكئين على الأرائك) اي بجلوسهم المريح يستطيعون الأمر والنهي ولهم السلطة العليا ، إذا النعيم هي حاجة اشباع جسدي ونفسي وفكري وعندما يكتمل هذا الإشباع يظهر نعيم جديد حسب الحاجة المتجددة ، اما ماذكر في القرآن من أنهار من عسل مصفى وأنهار من الخمر واللبن وغيرها فإن كلمة الأنهار هنا دليل الوفرة والكثرة وليس بمعنى النهر الذي يجري أمامنا كأنهار الماء في الدنيا ، والعرب يعبرون عن كثرة الخير بالنهر ويقولون نهر من الخير او نهر من العطاء .
النعيم هو حلم كل إنسان في الدنيا ودائما يحلم بوجود النعيم الذي ينقصه ويشعر بوجوده تتكامل حياته وتسعد ايامه ، فمن هنا تسعى بعض الأصناف البشرية الحصول على النعيم في الدنيا بأي طريقة كانت حتى وان كانت طرق دموية او لا أخلاقية مثلما يشير اليها ميكافيلي بأن الغاية تبرر الوسيلة وميكافيلي لم يذكر هذا الكلام الا بعد دراسة أحوال تلك الاصناف البشرية في التاريخ ، وهذا ماحصل في جميع الحروب والغزوات والفتوحات والأحتلال وما حصل فعلا عندما قام الاوربيون باجتياح ارض الامريكيتين التي سموها بأرض الاحلام ( دريم لاند ) اي ان جميع الاحلام التي راودتهم وتمنونها سيجدونها في الاراضي الامريكية لذلك لم يتوانون في قتل وابادة سكانها الاصليين لتحقيق مآربهم وهذا ما فعله العرب في فتوحاتهم بتحويل الأمصار التي يحتلونها الى مرتع لسبي النساء وجعلهن جواري والتمتع بالغلمان لإشباع نزواتهم وجعلها في نعيم مقيم ، فهذه من طبائع بعض الاصناف البشرية ، فلا غرابة ان يتحول المعارضون لنظام الحكم الى فاسدين وسراق ومجرمين. عندما يتسيدون على الحكم وبعد ان يتذوقون النعيم . الأنسان بطبيعته لا يتوقف عند نعيم محدد فالنعيم يقفز الى نعيم آخر خاصة بعد ان يجد الإنسان في نفسه الزهو والغرور والسلطة وحلاوة النعيم فهذا طموح متجدد ومستمر .
الباحث عن النعيم بطرق لا أخلاقية سيكون بتحقيقه للنعيم مقرون بسلب حقوق الآخرين والاعتداء عليهم ومن هنا تبدأ الصراعات الدموية وبما ان المسلوب حقه يكون ضعيف في باديء الأمر فإنه سيبحث عن الطرق والأساليب التي تمكنه من استعادة حقه اولا وعندما يستقوي سيأخذ دور المعتدي استجابة لمبدأ المغلوب يتعلم من الغالب وعندما يتحول المغلوب الى الغالب سيعيد نفس دورة الحياة التي بدأها الغالب ولكن هذه المرة اشد قوة وأشد تنكيلا لكي لا تعاد الكرة عليه في المستقبل فيعمد على أستئصال جذور المعتدي الأول ليطمئن قلبه لقادم الأيام .
في بعض المجتمعات أدرك العقلاء هذه الدائرة المتكررة وغير المنتهية فعمدوا الى وضع الحلول العقلانية لها فمثلا في الولايات المتحدة الامريكية قامت الحكومة الامريكية بإعطاء الهنود الحمر وهم السكان الأصليين لهذه البلاد حقوق وامتيازات قانونية تفوق حقوق المواطن الامريكي العادي فأصبح الهندي الاحمر يشعر بارتياح كبير وانتصار معنوي ونفسي عندما وجد نفسه السيد الاول في المجتمع الجديد فأضحى راضيا مقتنعا ومتقبلا للأوضاع الجديدة بل ومناصرا لها متناسيا هموم الماضي وبنفس الوقت تكون الحكومة قد حققت انجازا تأريخيا كبيرا وتصحيح للخطأ الماضي الذي أرتكبه الاولون ، والكل يعرف ان الهنود الحمر لم يعد لهم القوة لإعادة دورة الحياة ورغم ذلك فإن عقلاء الحكومات الامريكية كانوا ينظرون للامور من زوايا اخلاقية وإنسانية ومنطقية . في مجتمعنا الحكمة تكاد تكون معدومة لإنه لا يوجد دور للعقلاء فقط غريزة الانتقام والمخلفات النفسية المريضة هي التي تعمل وهذا يفسر ان النعيم الذي نالوه بغير حق عديم الطعم ولم يكن مساويا للاحلام التي راودتهم طوال السنين فكل شيء امامهم يمثل تحدي قد يسلبهم ما أكتسبوه وما وجود المليشيات والاحزاب الا توضيح للحالة التي يعيشونها .
نحن بحاجة الى دور العقلاء في المجتمع والعقلاء وحدهم القادرون على الرؤيا الصحيحة للمستقبل وبدونهم تبقى الحياة في دوامة صراعات دموية عقيمة يكون فيها الغالب والمغلوب كلاهما خاسر والرابح هو الطرف المتربص من بعيد ، العقلاء هم الحل وهم المفتاح الصحيح لفتح الابواب المغلقة والحاجة اليهم ملحة وان عملية اشراكهم في القرار ليست منة بل ضرورة اكيدة ، فالمريض المصاب بداء عضال يحتاج الى طبيب اختصاص ولا يحتاج الى عويل وبكاء ، المشكلة ان كل من يدير الامور يعتقد انه الشخص المناسب للحالة وان تفكيره هو الصحيح دون الرجوع الى نتائج تفكيره على ارض الواقع ، كلنا عقلاء وكلنا اصحاب رأي ولكن لسنا كلنا نصيب ، الاصابة والسهو مقرونة بالنتائج فقيمة العمل تحدده نتاج العمل وليس شكل العامل وملبسه ، فالنعيم ليس ان تعيد الماضي الى الحياة فالماضي هو ماض وهو ميت وان اشخاصه ورموزه لم يبقى منه شيء وان محاولة احياءه يعني بكل بساطة احياء لقيم القتل والانتقام الذي لا مبرر له واحضار للالم والحزن وقضية احضار الماضي لا يمكن تفسيرها الا بشيء واحد وهو اعطاء صبغة شرعية للبربرية والافعال الشنيعة التي ترتكب في الحاضر والحفاظ على النعيم المكتسب لإن دعاة الماضي ليس لديهم عذر لتغطية افراطهم بالافساد وليس لديهم لغة يحاكون بها الحاضر . فكلما اقتربنا من الماضي ابتعدنا عن الحاضر وضاع منا المستقبل ، ان ماضينا ليس فيه شيء يدعو للتفاخر فهو ماض مخزي وان الاصرار بأن الماضي يعيد نفسه وتعاد امجاد الخلافة والجواري والغلمان يصطدم بواقع عنيد لا يتقبله بتاتا لأن المجتمعات البشرية اصبحت شعوبها هي من تقرر المستقبل وليس قادتها ونحن لسنا اقل شأنا من باقي شعوب الارض فمن لا يحترم الشعب فلن يجد له مكانا بين صفوفه .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here

By continuing to use the site, you agree to the use of cookies. more information

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

Close