في ضيافة ألبرتو مانغويل

في ضيافة ألبرتو مانغويل

قال الراوي وعلى لسان كريتون، وهو إحدى شخصياته:
(ليس ثمة خطيئة أعظم من الجهل).

عديدة هي مواهبه وإهتماماته اﻷدبية، لذا تألفه طائفاً بجناحين من البهجة، بين حدائق شُيدَتْ من نور ومن بليغ الكلام، بحثا عن حلو ما قيل من قبله. سيقطف من هذا البستان زهرة ومن ذاك إستراحة لمساءاته. أو تراه مستظلا بزخات مطر ربيعي ليهدأ قليلا كي يواصل مشواره. انها رحلة بحث قد يجدها البعض مضنية، غير انه يراها مبهجة لا تدانيها سعادة، فأجمل اللحظات حين تكون برفقة ما تقرأءه، تأنس بصحبته وتغفو على حروفه وقد يفتح لك بابا من حلم ما إنفكَّ يراودك.
إننا نتحدث هنا عن مانغويل البرتو، اﻷرجنتيني الولادة، الكندي الجنسية. جَمعَ بين يديه مختلف أنواع الفنون وألوان من الراحة. في صبره وأناته ودقة إشتغاله، يشبه حاطِب الليل وجامع المحار، هذا ما أنبئنا به محياه وما أنبئتنا به سكينته. وعلى الناحية اﻷخرى ولذات اﻷهداف التي رسمها له، فستجده دؤوب في ترحاله وتنقلاته، يشده الغوص في عالم رأى فيه سلواه ومتعته، فتألفه في بحثه كما ذاك الذي يجول حول محراب، شديد الجلالة.
يدور (الكاتب) برغبة وشوق عارمين بين درابين وحارات وزوايا، يظنها البعض مقفلة مقفرة، ويراها زاهية يانعة. انها خبايا وخفايا رفوف، ضمَّت بين جنباتها أقدس الحروف وأحلى ما كتبه بني البشر. سيغرف بكأسه الأثير من هذه الضفة ومن اﻷخرى أيضاً، مقلباً أوراق صحائفه تحت شجرة صفصاف شاهقة باسقة، جميلة المحيا، ظليلة.
في كتابه الموسوم بيوميات القراءة والذي سنأخذه نموذجا لكتب التشويق والدفع للقراءة، سيحاول الكاتب من خلاله نسج علاقة من نوع ما بين القارئ وصاحب النص، وقد يعتبره شرطا أو عقدا بينهما، يهدف في نهاية المطاف الى حسن التلاقي. والمقصود هنا ليس أي كتاب بل ذاك الذي سيدخل في دائرة إهتمام القارئ ويستجيب لرغباته وبتعبير أدق ما يدخل في دائرة إهتمامه. وعن هذا الشق تحديدا سيرد على الصفحة29 من الكتاب النص التالي: ربما كان على كتاب ما يستهوينا، أن نقيم صلة من التوافقات بين خبرتنا وخبرة الرواية، بين مخيلتين وتلك التي على الورق.
في موقع آخر من الكتاب، سيدخلنا الكاتب بل سيلفت إنتباهنا الى محور آخر من شروط القراءة، وهنا وعلى ما أعتقدسيدفع بكامل المسؤولية على القارئ نفسه، ليحمله وزر طبيعة النص المكتوب وضرورة شحذ قواه ليحقق الجدوى المتوخاة من القراءة. وعن ذلك وعلى الصفحة 42 من الكتاب سنقرأ: عندما يكبر المرء فإنَّ الذاكرة بدورها يمكن أن تسلب الكثير من المتعة، كون القارئ جاهلا بما سيحدث تالياً.
في سياق كتابه هذا والذي هو مدار حديثنا، وفي صفحات متقدمة، سيتناول الكاتب طرح بعض اﻷنماط الشخصية التي وردت في بعض اﻷعمال التي سبر أغوارها، أو يكون قد تعمد إستحضارها دعما لوجهته وأهدافه، ومن ثم القيام بتحليلها وفي ضوء علم النفس، واقفا على أهم ما يميز إحداها عن اﻷخرى. وعن هذه النقطة، سيأتـي البرتو مانغويل على ذكر بعض اﻷمثلة والإستشهادات. فمثلا على الصفحة 46 سنقرأ النص التالي:( إنَّ إرادة الإنسان تحكم الحياة، مركزا على مفردة الإرادة). وفي موقع آخر سيحاول أن يبرز دور الحظ في تحريك الكثير من القضايا. وثالث الإستشهادات سيتوقف الكاتب عند مفهوم القدر، فهو وعلى حد قوله ســ(يطمس معالم الخط الفاصل بين الإنسان والبهيمة).
وإستطرادا لما فات وخلاصته، فسيوصلنا الكاتب الى النهاية الشهيرة لرواية مزرعة الحيوان لجورج أويل، والتي أراد من خلالها تجسيد مبتغاه:( نقلت المخلوقات التي كانت في الخارج نظرها من الخنزير الى الإنسان، ومن الإنسان الى الخنزير، ومرة أخرى من الخنزير الى الإنسان، ولكن كان من المستحيل أن نقول أي واحد منهما أي واحد كان)ص47. وبذاسنعود وفي نهاية التناص اﻵنف الى فكرة التماهي ما بين الإنسان والبهيمة.
وعن شخصية القارئ النهم، فسيحدثنا المؤلف وفي موقع متقدم من كتابه عن أحدهم وسيسميه بـ(ك). هذا النموذج وعلى حد قول روبرتو مانغويل، قد نجح أخيرا في جمع مقدار من المال، كافٍ لشراء مجموعة من الكتب المفضلة لديه، والتي ما إنفكت تشاغل فكره صباح مساء، فكم من مرة راح متحينا الفرص لإقتناءها غير انها سرعان ما كانت تفلت من بين يديه، وها هي اللحظة قد حانت ولابد من إقتطافها قبل أن تضيق اليد ويفوت اﻷوان.
ومن غير تردد راح هذا الـ(ك) مخرجا من جيبه كل ما لديه من مالٍ كان قد إدخره لقاء ما أسماه حلمه، ومن قبل أن يتراجع صاحب المكتبة أو يعيد النظر في المبلغ الذي إشترطه لقاء الكتب التي ستكون بحوزته بعد لحظات. حتى اﻵن تجري اﻷمور على نحو من السلاسة والشعور بالرضا. الاّ أنَّ المفاجئة التي ستحصل ولم تكن متوقعة، أن صاحبنا لم يحسب حساب عودته الى البيت، خاصة وان جيبه قد أفرغ تماما من المال. واﻷنكى من ذلك أنَّ الكتب التي إشتراها ربما بلغ وزنها (ما يقارب الخمسة والعشرين كيلو غراما)ص57، وليجد نفسه أمام إختبار صعب، فأما التخلي عن الكتب وإرجاء شرائها الى أجل غير مسمى، أو قبول التحدي وهذا ما حصل، حيث حمل الرجل على أكتافه وظهره تلك اﻷوزان، قاطعاً بضعة كيلومترات على قدميه وصولا الى بيته. ومن بعدها وما إن بلغ هدفه، ستغمره السعادة، وليبقى حتى الصباح بصحبة زائره الجديد، الشديد اﻷناقة والقيمة.
في سياق لاحق سيتوقف الكاتب عند بعض الفقرات التي تحمل دلالات خاصة في رواية طفولة شاتوبريان لفرانسوا رينيه، لما لها من أهمية وصلة مع طبيعة الموضوع الذي يسعى مانغويل الى إشباعه ومن كل أطرافه. فعلى الصفحة 89سيرد هذا النص(سوف أسرق بقايا شمعات صغيرة من الكنيسة كي أقرأ ليلا الوصف المغوي لإضطرابات الروح). في هذا التضمين وعلى الرغم من قدسية المكان(الكنيسة)لاسيما ونحن نتحدث عن الزمن الذي كُتِبَتْ فيه الرواية، والذي يعود الى أكثر من مئتين وخمسين عاما، حينما كان لهذا المكان القول الفصل والكلمة اﻷخيرة. ومن جديد نقول: في ظل هذه الظروف واﻷجواء وما يحيط بها من قداسةستحدث عملية السرقة، إن جاز لنا تسميتها. كل ذلك من اجل تحقيق هدف، رآه المؤلف أسمى بل وأكثر قداسة من الكنيسة نفسها الا وهو فعل القراءة، ليؤشر الكاتب الى مدى أهميتها ودرجة إنحيازه لها، ضاربا عرض الحائط كل الإعتبارات واﻷعراف التي كانت سائدة آنذاك.
قبل نهاية الجزء اﻷول من كتابه يوميات القراءة، سيأخذنا البرتو مانغويل الى مكان آخر لا يقل أهمية عن موضوع القراءة، الا وهو الكتابة. فبصرف النظر عمّا سيدونه الكاتب ومدى قيمته وطبيعة موضوعه ونوع جنسه اﻷدبي وحجمه وما الى ذلك من إعتبارات، فما يهم مانغويل هو عقد نوع من المفاضلة بين مَن يَكتبْ وبين مَنْ لا يكتب، ليعلن انحيازه بكل تأكيد الى الفئة اﻷولى.
غير انه وبعد وصوله القرار الذي أنف ذكره، سيذهب نحو شكل آخر من المفاضلة، الا وهو: أي نوع من الكتابة هو المطلوب! هنا سيأتيك الجواب سريعاً، فبالنسبة له وللأغلبية الساحقة من المتلقين على ما أعتقد بل وأجزم، سيحدثنا عن شروط خاصة وقد تكون قاسية، ربما لم تتوفر في أي كاتب، والحديث هنا عمَّنْ اجتاز المراحل اﻷولى للكتابة، يوم كان قلمه لا زال غضا، ومن ثم دخل مراحل متقدمة ولنسميه محترفا. فعن اﻷخير لا يستطيع أن يجامل وبأي شكل من اﻷشكال، فليست كل الكتابات ستروق له، وبذا سيضعنا مانغويل أمام نوع خاص من الكتابة، وسيوقفنا أمامها بمسؤولية، فهناك (من الكتاب من أستطيع قرائتهم وسط الصخب، أمّا بالنسبة لشاتوبريان ــ صاحب كتاب مذكرات من وراء القمر ــ فأحتاج الى الهدوء كي أجلس معه)ص93. بهذا التضمين وكي لا يفوتنا التذكير، فإنَّ طبيعة النص وموضوعه فضلا عن عوامل أخرى وإذا ما اجتمعت وتضافرت، فستكون لها الكلمة الفصل واﻷهمية الكبرى في شد القارئ وجذبه الى حيث يريد الكاتب.
في الجزء الثاني من الكتاب والذي يبدأ مع العام 2003، سيتوقف البرتو مانغويل عند أحدى الكاتبات المهمات وقتذاك، حيث وصفها باللامعة والحيوية لشدة إنبهاره بها، إنها الماركيزه دي سيفينيه، الفرنسية الجنسية، البرجوازية في إنحدارها الطبقي وفي طريقة حياتها. داعيا القراء الى حفظ كتابها الذي حمل اسم رسائل مدام دي سيفينييه، رغم مرور قرابة اﻷربعة قرون على إصداره. وهو عبارة عن مجموعة من الخطابات والنصائح، كانت الكاتبة قد وجهتها الى إبنتها، بسبب تعلقها الشديد بها.
وعلى ذات الصعيد وبذات المنحى، سيستمر مانغويل في رصده لمجموعة من الكتب التي شدَّت إنتباهه والمضي بالتعاطي معها بجدية، في ذات الوقت سوف لن يغفل عن نقاط التقاطع والإختلاف التي سيشير اليها. ومن بينها كتاب الإعترافات لجان جاك روسو، وهو عبارة عن سيرة ذاتية لحياته، وسيصفه بألـ(العاطفي جداً، فليرمى بعيداً). بهذا الرأي ربما سيكون مانغويل قاسيا في حكمه ولم يكن متوقعا أيضا، بل وقد يراه البعض غير منصف، لا للكتاب ولا لصاحبه رغم أهميتهما في ذلك الوقت وما كان قد شكله نصَّه من ردود أفعال، كان في غالبها منحازا لما خرج من بين يدي الكاتب، لطهر سيرته وصدق ما دونه.
لعل من أهم المدونات التي استوقفت البرتو مانغويل هو كتاب الشعر والحقيقة. ففي معرض إستعراضه سيقول عنه(نصفه جذاب ونصفه جرئ)ص178. داعيا المتلقي ﻷن ينتزع نصفه والإحتفاظ بالنصف اﻷفضل. في هذا الرأي سوف لن يكتفي الكاتب بطرح نفسه بإعتباره قارئا متميزا فحسب ويترك اﻷمر على عواهنه، بل سيواصل (لعبة) النقد المحببة لديه، لتجده متمكنا من قدرة التمييز بين هذا وذاك من النص، ناصحا المتلقي الى أي من الجهات ينبغي له أن يميل، فالبوصلة التي تدلك على الطريق المفضي الى الجمال، سالكة لا تخطئها العين.
في مكان آخر من الكتاب سيمضي مانغويل في تعليقاته الدقيقة الوصف والتعبير، ليضع المتلقي مرة أخرى أمام مسؤولياته، بعد أن يكون قد خط له شروط الكتابة الناجحة. فعلى الصفحة 180 وفي تعليق له على أحدى المدونات كتب يقول: (رويدك، مؤلفه صديق لي، ومع أنَّ الكتاب ينطوي على مقدار قليل من التنميق، وأقل من الذكاء، فهو يحمل ميزة من الحماس والإيجاز، وهاتان الصفتان تكفران مشكورتان عمّا ذُكِرَ، دعه اﻵن وسننظر لاحقا). إنه بذلك لا يحابي أحدا ولا يجامل، فطبيعة النص هي مَنْ تفرض عليه طبيعة الموقف، وهي مَنْ تحدد مساره. أي أنَّ الناقد وبتعبير آخر سيأتي بالمرتبة الثانية ومن قبله النص.
من ضمن القراءات والمراجعات التي لم تغب عن بال الكاتب، والتي تستحق الذكر والتوقف عندها وتسليط الضوء ساطعا عليها، هي تناوله لديوان الشاعر النيكاراغوي روبن داريو وبشكل خاص تلك القصيدة التي وجهها آنذاك الى الرئيس اﻷمريكي الأسبق، فرانكلين روزفلت، فاضحا من خلالها جوهر السياسة اﻷمريكية، القائمة على العنصرية والقتل والتوسع على حساب مصالح الشعوب. ففي وصفه لسياسة اليانكي وفي نقده لهم،كتب الشاعر يقول: انها تؤمن بـالشعار الآتي(حيث تضع الرصاصة، تضع المستقبل)ص219. إستشهاد كهذا سيدلنا مانغويل من خلاله الى موضوع بالغ اﻷهمية، فهو لم يتوقف في مراجعاته للكتب عند جنس بعينه أو يقتصر على موضوع واحد، بل راح أبعد من ذلك بكثير، إذ تجده جائلا بين القصة والرواية والشعر وأخواتها. كذلك فيها من اﻷغراض، وهنا بيت القصيد ما تنوعت وتعددت، كالسياسة والإقتصاد والحرب، معلنا عن تضامنه غير المشروط مع الشعوب التواقة للتحرر.
(ليلة بلا نوم، الليلة الثالثة على التوالي… أنا واثق من أنَّ هذا اﻷرق يأتي فقط ﻷني أكتب)ص234 . النص الفائت، يُعَدٌ خير ما سيختم به الكاتب نصَّه، إذ هو يعطي شكل من أشكال القداسة والرهبة لفعل الكتابة، وهي حقا كذلك، لما لها من أثر في تحديد إتجاهات الكاتب ومسيرته وفي رسم مستقبله. لذا فالقلق سَيباتُ مشروعا ومرافقا لكل فعل جدي ومسؤول، ولعل ليالٍ ثلاث قد لا تكفي لتبديد مخاوف الكاتب الملتزم، الحالم بصياغة نص، مكتمل الشروط.
ومما سيعزز من حالة اﻷرق التي سترافق الكاتب بعد الإنتهاء من كتابة نصه بل وستزيد عليها، هي ليلة نشر الكاتب لمؤلفه، بعد أن يظنه قد بات جاهزا. فقد تصحبها حالة من الإضطراب المشروع، ستثار معها جملة من اﻷسئلة(مع مخاوف وهواجس)ص235، لعلها سترافقه حتى بزوغ ساعات الفجر اﻷولى، وربما سيجد صعوبة في أن يطبق الجفن على الجفن حتى يجفاه النوم.
وفي لفتة أخرى من المؤلف وفي الصفحات اﻷخيرة من كتابه، سيشدنا الى حالة ربما يكون قد تفرد وأمتاز بها عن سواه ولعله من القلائل الذين تنبه لها، الا وهي شكل العلاقة المفترضة وفي بعض من مفاصلها، بين كاتب النص وقارئه ومن زاوية قد لا تخطر على بال أحد، حيث يقول:(إنَّ أسوأ عيب في هذا الكتاب هو أنت أيها القارئ). ثم يأتي على تفسير ما ذهب اليه وفي ذات الصفحة، ليوجه كلامه الى المتلقي:(أنت في عجالة من أمرك كي تكبر، والكتاب يتقدم ببطء)ص236.
وعلى ما أعتقد فإن فكرة الكاتب ومقصده، لو دققنا فيها قليلا ستبدو واضحة، إذ أراد من القارئ أن يستوعب النص بهدوء وروية، كي يصل مبتغاه وبما ينسجم ويتلائم ورغبة الكاتب وما يدور بخلده، وبإيقاع يتناغم معه، يشبه في ذلك ما يقوم به المايسترو من دور وما يصدره من إيعازات ﻷعضاء فرقته، مخافة الخروج عن قواعد العزف. وبذا سيكون القارئ جزءا من النص بل ومكملا له، يستوعبه ويتحرك معه. وربما سيستدعي منه التوقف في بعض المناطق والتأني في أخرى، وصولا الى التحليق سوية وبجناحين من الخفة والتناسق.

حاتم جعفر
السويد ــ مالمو

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here