من الأشياء الأكثر إثارة في هذا العالم تأتي – الماسونية – كلفظ وكمعنى
وكدلالة ، والماسونية : شأنها كشأن الكثير من
الحركات التي أصابها من التدليس والتشويه والتضليل ما
أصابها سواء في أهدافها أو في مراميها ، وقد برع في
ذلك كهنة الأديان الذين لعبوا دوراً مزدوجاً في
هذا التشويه وهذا التضليل ، وحسبنا تلك
الإصدارات والبيانات والأحكام التي صدرت عن الكنيسة على نحو مباشر
أو من خلال الرعاة الذين لم يألوا جهداً في تأليب الرأي العام في ظل من
التهريج و العداء المفترض للدين أو للثالوث ، ومن هنا أتخذها
البعض خصماً ودعوا لمحاربتها تحت عناوين ومسميات شتى ، ومع هذا
ثابرت الماسونية في توضيح ما تريد بيانه وإبلاغه عبر
الحوار والكلمة الطيبة ، مما تسنى للكثيرين رفع هذا
الإلتباس الذهني ومشاهدة الواقع كما هو من حيث كونها تنظيم
إنساني إجتماعي هدفه نشر الوعي ورفع سوية الجماعة البشرية ودعم
توجهاتها لما هو نافع وبنّاءَ .
إذن فالماسونية هي : – تنظيم إجتماعي إنساني هدفه حماية الإنسان
والدفاع عنه وعن حقوقه وحقه في الحياة – ، ونضيف إلى
ذلك حمايته من التطرف والأفكار الهدامة التي تصنعها سياسات دول
وأحزاب معينة ، مهمتها إيجاد التفرقة و الخلاف بين أبناء الجنس
البشري الواحد ، وقولنا
هذا ينفي صفة كون الماسونية منظمة سياسية أو حتى كونها من
ظمة دينية حتى يتم التشهير بها على هذا النحو الذي نسمعه ، كل هذا
لا يمنع من الإعتراف بان هذا التنظيم يحاول إيجاد طريقاً ما لفهم – عبادة
الإله الواحد – ، وهذه الفكرة لا تطرح على نحو الوجوب
الإكراهي القهري بل تجعل منها قضية فكرية قابلة للحوار والفهم
المتبادل ، مستندة في ذلك إلى المفهوم – قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين – ، وبالتتبع المعرفي لخط سير سلوك هذه الفكرة لم نجد انها تحيد عن ذلك المعنى الرسولي المتداول والذي يقول : – يجب ان يكون الإله واحداً – كذلك ويجب ان يكون الدين واحداً – ، وقضية الوجوب هي قضية معرفية صرفة ، فالإله الواحد والدين الواحد من حيث هي قضية فلسفية كتب فيها وحاور فيها جماعة من قديم الأزمان ، ولازالت تجد لها نصيباً وافراً في هذا الجدل المعرفي ، ولم يقف بوجه هذه القضية مفسروا المدرسة الكنسية من الطرف الثاني ، أولئك الذين يجدون الوحدة تكمن في التعدد في إشارة لمعنى – الثالوث المقدس – . لكن مفهوم الإله الواحد هذا وجد له أصحاب التفسير التاريخي مفهوماً أكثر سعة في معنى – الكائن الأسمى – ، ولكن مامعنى هذا ؟ ، وفي الجدل التاريخي هذا عن وحدانية الإله ذهب جماعة من المشرعين القدامى للقول : – بأن اللفظ ليس غاية بحد ذاته ، و إنما المُراد هو المعنى الكامن فيه – ، أي إن لفظ الله أو الإله ليس غاية نهائية ومطلوبة في التسميه ، لأن المطلوب هو ما بعد ذلك وهو – الايمان – والذي يصح مع كل ما يؤدي إلى معنى وحدانية الإله ، وتسالماً أطلقو عليه ( الكائن الأسمى ) . ومع إن هذا التفسير لمعنى الوحدانية براغماتي بدرجة ما ، لكنه يصح من حيث إنه يعطي مساحة أوسع في إدراك المعنى والمفهوم الحقيقي للايمان بعيدا عن زحمة التسميات والمصطلحات ، وهذا ما قال به – لاري لاندروز – عالم اللسانيات الشهير ، فالمشرع لا يجد حرجاً فيما لو جعل من اللفظ تسالمي يصح مع كل جماعة في لفظها للمعنى المقصود والمراد ، لكن الأهم في ذلك هو نفي التعددية في قضية الإيمان ، من هنا تبدو بعض سدنة الكنيسة وقعوا في إشكالية واضحة ، وهو في الكيفية التي يتم بها الخلاص من الإلتزام بفكرة الثالوث المقدس والإيمان بها .
ولا أجد فيما أذهب إليه من حرج بالقول : – إن الدعوةالماسونية تجد مصداقيتها لدى الفكر الإسلامي الخالص ، وفي دعوته المتكررة لمعنى الإله الواحد ونفي الشركاء – ، لكن هذه الفكرة لدى بعض المسلمين تنطلق في أحيان كثيرة من عداء أو من خلال إحتكار مفهوم الإله الواحد – الله – كمحاولة منهم للتميز والتفرد ، وهذه واحدة من الأوهام الديماغوجية لأنهم تناسوا الشرط الموضوعي في الدعوة القرآنية لوحدة الإله ومراعاة التسهيل في مرام الداعين لها ، أي إن الشراكة في عقيدة الإله الواحد ليست حكراً على هذه الفئة من المؤمنين ، بدليل الشرط والإقتضاء في القرآن المجيد ، على أن ذلك عابراً للحدود وفي ذلك تتساوى الدعوة الماسونية مع الدعوة القرآنية أو إنها تلتزم في ذلك بما ورد في القرآن المجيد كما في سورة البقرة : – إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ – البقرة 62 ، ، وقد تكرر الأمر لكن من يدفع بعكس هذا التوجه هي الزمر الحاكمة التي ادعت وراثتها لله ، فحطمت قيود التلاقح الفكري ولم تسهل مهمة الإيمان بالله . وللحديث بقية
راغب الركابي
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط