صداقة (الزمان) من لندن إلى بغداد

صداقة (الزمان) من لندن إلى بغداد

عبد الحسين شعبان

لعلّي كنت من أوائل المتابعين لصدور صحيفة الزمان في لندن، حيث تأسست في العام 1997 وصدر عددها الأول في 10 نيسان/إبريل، واليوم يصل إصدارها إلى العدد رقم 7000 وهي في عزّ عطائها وارتقائها وتجدُّدها. ومثل هذه المناسبة تدعو للتأمل والتدبّر والنقد، أولاً – لتقييم ما تحقّق من منجز حقيقي، وهو منجز منظور وقائم وكبير، وثانياً – للأفق الذي تفتحه لإعادة القراءة بهدف استشراف المستقبل.
ولا بدّ أن نأخذ سمات الصحيفة وطابعها منذ أعدادها الأولى، لجهة مهنيتها واستقلاليتها وعلاقتها بقضايا التقدم والحداثة، حيث ساهم وضوح رؤية مؤسسها ورئيس تحريرها الصديق سعد البزاز، في توجّهها وتعميق مسيرتها، حتى تصلّب عودها وأصبحت مدرسة حديثة بمنهجيتها والتزامها بقيم الحرية.
وسبق لي أن ذكرت أنني سألت الأستاذ البزاز حين أخبرني برغبته في إصدار صحيفة متميّزة في لندن التي كان قراؤها يتوزّعون على ثلاث صحف كبرى لكل منها لونها الخاص، واتجاهها المتميّز، حيث كانت جريدة “الشرق الأوسط” أول صحيفة عربية في لندن، والحياة ذات النكهة اللبنانية ، والقدس العربي المهتمة بالشأن الفلسطيني والبعيدة عن الاتجاهات الرسمية، والعرب المحدودة الانتشار آنذاك.
قال البزاز أنه يريدها صحيفة عراقية بنكهة عربية مفتوحة للأقلام الشابة وغير التقليدية أو المحترفة، ولا أخفي سراً أنني كنت قد شكّكت بإمكانية نجاح صحيفة بهذه المواصفات في أجواء لندن الثقافية والإعلامية التي تضج بالمعارضات والاتجاهات المتضاربة، فكيف برجل خرج لتوّه من عباءة الإعلام الرسمي يريد إقامة “مملكته المستقلة”. ولعل جزءا من شكوكي كانت تنصرف إلى القرّاء أيضاً بحكم الاصطفافات الحادّة. ولكن سعد البزاز تجاوز تلك العقبات وواجه التحديات مغامراً على طريقته، طارقاً أبواباً لم يطرقها قبله أحد، فحقق نجاحاً منقطع النظير. بل إن بعض مَن هاجمه في البداية، عاد ليطلب ودّه. وقد تعامل البزاز بأريحية وجنتلمانية، وبكل انفتاح وتسامح من دون أية حساسيات أو مواقف مُسبقة، وتلك كانت رسالة الصحيفة الأولى التي هي إعادة بناء الجسور وترميم العلاقة بين العراقيين وبينهم وبين أشقائهم العرب، وقد احتل مكانه بجدارة كما احتلت الصحيفة موقعها بجدارة أيضاً.
انطلقت “الزمان” من مفهوم الاهتمام بالشأن العراقي في إطار الشأن العربي، أي جعل الاهتمامات العراقية جزءا من الاهتمامات العربية، وعدم الانكفاء على القضايا العراقية. فالعروبة الحضارية هي هوّية لغوية وثقافية جامعة ومفتوحة، حتى وإن تباينت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين البلدان العربية، لكن هناك ما يقرّبها للتكامل والتواصل والمصائر المشتركة، خصوصاً وأن اللغة واحدة، والتعبير عنها في الأدب والشعر والقصة واحد، لأن اللسان واحد، حتى وإن كان لكل مفردته وأسلوبه وذوقه، مثلما لكل فرد خصوصيته في هذا الإطار.
وعلى الرغم من أن القضايا العراقية كانت تقع في قمة أولويات صحيفة الزمان وشواغلها، لكن البزاز أدرك ببعد نظر ورؤية متقدمة، إضافة إلى علاقته المتميّزة، أن ثمة صورة أكبر، على العراقيين رؤيتها، وهي عالم عربي واسع وعالم إسلامي كبير وعالم إنساني شاسع. وإن ما تحقّق خلال ما يقارب ربع القرن الماضي، يعود في جزء منه إلى هذه الرؤية الإستشرافية، خصوصاً في ظل العولمة وتأثيراتها وامتداداتها، وقد عمل باكراً على التفكير بعراق محتمل، وعالم عربي متغير، وعالم متواصل وسريع لا ينتظر.
ولم تكتفِ الزمان بالانشغال بالخبر اليومي والطازج، بل خططت لما هو أبعد واستراتيجي، وكان لها قصب السبق فيه لعلاقة البزاز السابقة بأصحاب القرار ومعرفته بآليات عمل الدولة، فضلاً عن صلته بالمثقفين والأدباء التي اكتسبها بمهارة خلال عمله المهني، لذلك فكّر بالاهتمام بقضايا أبعد من الخبر الصحفي، من نشر ثقافة الحوار والسلام والتعايش، إضافة إلى الأدب والفن وتشجيع المبادرات على هذا الصعيد، وصولاً إلى قضايا التنمية واقتصاد المعرفة والعلوم والتكنولوجيا.
فالصحافي حسب ألبير كامو هو مؤرخ اللحظة، والصحافة هي “صاحبة الجلالة” كما يقال أو السلطة الرابعة، والأمر في ظل الثورة العلمية – التقنية، وثورة المعلومات والاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية “الديجيتال” يصبح أكبر بكثير، لأن الإعلام يؤثر في الرأي العام، بل أصبح قادراً على صنعه، فما بالك حين نكون على أعتاب الثورة الصناعية بطورها الرابع.
وإذا كانت الهوّية العربية بارزة في الصحيفة فإنها لم تنس الهوّيات الفرعية، وتوقّفت عند أبواب الشراكة والمشاركة، من خلال الدعوة إلى المواطنة المتساوية والمتكافئة، في إطار التكامل وليس التنافر، والتنوّع في الوحدة، والحق في الاختلاف، بفتح باب للتنوير والحداثة من خلال الإقرار بالتعددية والتنوع وحرية التعبير.
ولعل أهم ما ميّز الصحيفة أنها كانت خارج دوائر الأيديولوجيا وهي مفتوحة للجميع، طالما تمسّك هؤلاء بشروط الكتابة والحوار والاحترام، وقد اهتمت بالبنية الأخلاقية للقيم الصحفية، وبقدر كونها إطاراً موحداً إلاّ أنها تمتاز بتعدّد الأصوات داخلها، حتى وإن ميّزت نفسها، وأظن أن ذلك كان أحد عوامل نجاحها، خصوصاً بالابتعاد عن المحاور والنمذجة والتنميط وتصنيف الآخر على نحو مُسبق لاعتبارات عرقية أو دينية أو طائفية أو سياسية أو غير ذلك، في منهجية تربوية انفتاحية.
كما ساهمت في إثارة قضايا مهمّة وملفات شائكة حتى وإن كان له موقف إلاّ أنها كانت منفتحة على المواقف الأخرى فاسحة في المجال لحوار على صفحاتها تتلاقح فيه الأفكار. ومن تلك الموضوعات: القضية الكردية وقضية الحصار الدولي وقضية الطائفية وموضوع الاحتلال والدستور والاتفاقية العراقية – الأمريكية، والانتخابات وقضايا العنف والإرهاب وتنظيمات القاعدة و”داعش”، إلى التراث الثقافي والآثار العراقية والصروح التاريخية، إضافة إلى اهتمامها بالشباب والمرأة وبالمدينة العربية وعمرانها ومدنيتها. وأعتقد أن كتّاباً بدأوا أولى كتاباتهم في صحيفة الزمان وأصبحوا لاحقاً كتّاباً معروفين.
ويعود ذلك النجاح إلى رؤية مؤسس “الزمان” وصاحبها والفريق العامل معه في لندن، سواء الصديق الكاتب والروائي فاتح عبد السلام صاحب القلم الرشيق والكلمة المؤثرة، أو الراحل نضال الليثي وآخرين، وفي بغداد الدكتور أحمد عبد المجيد الصحافي اللامع والكفاءة المهنية العالية.
وإذا كنت قد كتبت في “الزمان” منذ تأسيسها وإلى الآن، وبكثافة أكبر خلال السنوات العشر ونيّف المنصرمة، فإنني إذ أحيي ذكرى صدورها متمنياً لها استمرار تألقها وازدهارها، فثمة ملاحظات لا بدّ من التوقّف عندها. وأقصد بذلك ومن دون مجاملةٍ، بذل جهد أكبر كيما تظهر الصحيفة بمهنية عالية ولغة سليمة، فقد لاحظت تسرّب بعض المواد التي لا ترتقي إلى المستوى الذي وصلته الصحيفة، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من التدقيق. أقول ذلك كصديق حريص على استمرار صحيفة “الزمان” التي جمعت أقلاماً مبدعة ومثّلت نموذجاً صحافياً راقياً.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here