سياج الحديقة المطلي حديثا باللون الأصفر الفاقع كان متكأنا البارحة، كنا السبعة من صبية المنطقة متقاربي الأعمار، ويا للصدفة الغريبة فنحن نتشابه بالكثير من الملامح والأجساد لا بل حتى الثياب التي نرتديها كانت متقاربة في خطوطها وألوانها، لا أعتقد أن ذلك قد جاء مصادفة، فقد نشأنا في بيوت متلاصقة متداخلة لذا كنا مثل عائلة واحدة. من النادر أن نختلف على ما يكون بعيدا عن مشتركاتنا وطباع وسلوك أهلنا، حتى المزاج نتشابه فيه، رغم كثرة ما كنا نتشاجر حوله، والذي يعتبره أهلنا عراك صبية في بيت واحد، وما عادوا يولونه أهمية أو حتى انتباه. جميعا خرجنا بمزاج لا يختلف عن بعضنا البعض سوى ما ينقاد لخليط من الجينات المتلاقحة والمتوارثة. حقيقة الأمر لم افهم هذا اللغز المحير، ولكن هذا الموضوع يتحدث عنه أخي الكبير مشرق بإلحاح مشوب بالتهكم، ويؤكده دائما مشرق الآخر ابن خالتي حليمة، ربما تلك المعلومة من مساوئ التعليم الذي زج فيه المشرقان نفسيهما. يشاطرني الاعتقاد بتشابهنا مَن يتفرس فينا أو يتحدث معنا، وما زاد من تشابهنا، أننا ولحد اليوم أبناء لآباء عاطلين عن العمل. آباؤنا المرميون خارج الزمن لم نعرف عنهم غير العمل في حِرف لا يفصحون عنها، وتلك المهن محدودة وموسمية وتبور في الكثير من الأحيان، حسب ما يعلنون، وما لا يعلنون. لا بل تتعرض للمد والجزر والعرض والطلب مع وضع المدينة لا بل البلد بأكمله.هكذا يقولون ويبررون بطالتهم الدائمة، واختفاؤهم الزمني القصير عنا. فالأوضاع السيئة للسوق جعلت الكثيرين من سكان الحي يفضلون الدردشة فوق أرصفة الشوارع أو عند أبواب البيوت، هكذا يعلنون، ونحن ليس بعد أهلا لمناقشة مثل هذا الأمر أو الظن بغيره.
هكذا كانت الأيام لا بل الأشهر تسقط سهوا أو تعمدا من حساب الجميع. تدار بينهم ونستمع لها في الليالي المقمرة، تلك الحكاية المملة الرتيبة والسخيفة، يقال فيها دائما. آباؤنا كانوا قد قدموا إلى هذا الحي من كل فج عميق، من مدن الشمال بجلال جبالها مثلما يقولون، من مدن الملح في الجنوب مثلما يصورون، من مدن الشرق حيث يستوطن الناس دون تعريف، كما يدعون، ومن الغرب أتوها حفاة بثياب رثة ودفوف ومزامير تعلن عن نفسها من بعيد. تجمعوا في تجاويف هذه البيوت الكالحة الألوان القميئة المؤسية، ليتعارفوا ويتقاسموا مصيرا واحدا.هكذا يرون ونحن نستمع ببلاهة لبدعهم،وعلينا أن نورث لأبنائنا ذات الحكاية دون تحوير أو سهو، هكذا كان وسوف يكون حينا وسكانه.
دون وجل ذهبت بظنوني حول علاقتنا ووجودنا في الحي، نحن الذين يسمينا الكبار توددا عصابة صغار الذئاب، هل كنا فعلا ذئابًا ؟ من الجائز ذلك، فنحن مثلها نتشابه في السحنة وردود الفعل والعيون الصغيرة المتقدة، وأحيانا بكثرة وليونة حركات الجسد. ولو كان الفرو يغطينا مثلها لما ابتعدنا كثيرا عن شراهتها ووحشيتها.
البارحة كنا نحن المتشابهون السبعة والمساء يدفع حمرة الشمس خلف نخل البستان القريب، نتضاحك ونلهو ونتنصت أصوات الأمهات المناديات على أطفالهن أن لا تبتعدوا عن الأبواب، فنشعر بأن التحذير ما زال يشملنا رغم تسميتنا بالذئاب، فتضغط أصابعنا على حديد السياج البارد ضجرًا.
ـ مدينتنا الأخرى كانت كبيرة قبل أن نأتي إلى هذا الحي.
ـ وكيف عرفت ذلك وأنت ولدت هنا ؟
ـ لا يهم ذلك فأمي حدثتني عن مدينتنا الكبيرة.
ـ وما كانت تفعله أمك هناك.
ـ حدثتني أمي عن جدي صاحب الثروة والبساتين والذي ما زال يعيش هناك.
ـ صاحب الثروة والجاه .. من أين جاءت خالتي حذام بتلك الحكاية؟! .. اذهب واسأل أباكَ الفاجر عن الحقيقة .. ابن القحبة ..
ـ ومَن يا ترى أبوه فيهم هههههه ؟
فضج الشارع بضحكاتنا وتشابكت أيادينا بالعراك. لم تكن مفردة ابن القحبة لتعني شيئا ملوثا في حينا المخبول، فهي تتردد أبدا مثل كلمتي نعم وكلا، بل كانت مفردة تلوكها الألسن بتلذذ ولا تعني على الإطلاق واحدا منا دون سواه. تنسل من بين شفاهنا وتتكرر دون توقف أو حتى دالة، مجرد كلمة عابرة كنا نلوكها وصدورنا مليئة بالهزل. ولكنها مثيرة وضاجة ومشاكسة هكذا عرفناها. مَن منا نطق بها أولا ؟ ومن هو المعني بها لا يهم، فنحن خليط هجين بسحنة متشابه. آباؤنا المنكسرون لا يبذلون جهدا في البحث عن أجوبة لكل ما يحدث، يتنفسون الجنس ودخان السجائر ويرتشفون بقايا الخمر الذي يعافه الزبائن. أمهاتنا مثل دجاجات ينخن بسهولة لأي ديك يراودهن عن أنفسهن، فتنشطر بيضاتهن عن أفراخ مثلنا يدعون بعد حين بعصابة صغار الذئاب. آباؤنا يفسحون المجال للأغراب، وينسلون تباعا خلف الأبواب يتنصتون التوجع والآهات مثلما يتمايلون مع المزامير وصوت الصناجات والدفوف، ومهمتنا نحن عصابة صغار الذئاب ، ملء الحي ضجيجًا ومراقبة البعيد.
أخي الكبير مشرق وابن جارتنا مشرق الآخر وابن أختي الكبرى المسمى مثلهم مشرقا ، كانوا في وقت مضى عصابة صغار الذئاب، ومثلما يحفظون الحكايات ذاتها قبلهم كان آباؤنا أيضا. سلسلة طويلة من ذئاب تكبر وتكبر. ولكن لم يفصح أخي مشرق وقتها عن مغزى جملته التي أخبرني إياها حين قال.
ـ نحن جميعا أبناء الله والدولة ذئاب كنا أم دجاجات.
وراح في هستيريا من ضحك مجنون.
بقلم :فرات المحسن
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط