مفهوم النزاهة، رحلة في الذاكرة !

مفهوم النزاهة، رحلة في الذاكرة ! بقلم د. رضا العطار

خلال الخمسينيات من سنوات اقامتي في المانيا، كان بعض اساتذتي الكرام، يطعًمون محاضراتهم الطبية بشذرات من الفلسفة الاجتماعية، واتذكر ان احداها كانت تدور حول مفهوم السعادة، فتعلمت في حينها ان السعادة اما ان تكون ذاتية مادية صرفة، يسعى صاحبها الى اشباع ملذاته الشخصية ليس إلا، لكن هذا الضرب من السعادة لا قيمة له. واما ان تكون جمعية اي ترمي الى خدمة المجتمع، حينذاك تعتبر السعادة، سعادة روحية وهي السعادة المنشودة، تنشأ حينما يمارس الانسان عملا من شأنه ان يؤدي الى اسعاد نفسه والاخرين كذلك.

لقد الّف الاديب الامريكي دوس هكسلي في القرن الماضي كتابا حول تأثير مادة الميكالين على الانسان، وهي مادة مخدرة، تستخرج من نبات الككتوس، اي الصبًير المعروف بالتين الشوكي، لكنه يختلف عن بقية المخدرات كونه يخدر الجسم فقط، لا العقل، وبذلك يرى الانسان النور اضوء والزهر انضر ووجه الحبيب اجمل والاحساس بالرضى اكمل، وهذا الاسترخاء يجعل صاحبه يشعر بالسعادة – – ونعني هنا السعادة المزيفة – – وواضح ان الرجل السعيد حقا هو ذلك الذي تنبع السعادة الحقيقية من قلبه دون ان يحتاج الى خمر او مخدر.

لذا فاننا نشعر بهذه السعادة عندما يرتقي وطننا ويزدهر المجتمع ويصل ابنائه الى مراتب سامية، كأن يكتشف احدهم دواء لمرض عضال او عندما يكون في استطاعتنا ان نقضي على الأمًية ونكافح التخلف والعقائد البالية او عندما يزول حكم ظالم عن كاهل شعب غُلب على امره، او يعم البشرية بركة السلام ونحو ذلك.

كان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام نموذجا حيا في السعي لتحقيق السعادة الروحية، تجلت في سلوكه، وهي خدمة بني البشر، بغية تطويرهم نحو حياة احسن، فعندما وصل النبي الى مدينة يثرب في عامه الاول للهجرة وجد القبائل العربية في تناحر دائم، كانت قبائل الاوس والخزرج النصرانية، اشدها عنفا واقتتالا، فبدأ النبي الكريم يرشدهم فأسمعهم ما يهذب اخلاقهم، ويصلح حالهم ويطهر قلوبهم ويلم شعثهم عبر توضيح معان بعض الايات القرآنية لهم، وعندما اصغوا فهموا وتعلموا و اهتدوا وتصالحوا مع خصومهم واعتنقوا الاسلام دينا وتحضروا تدريجيا، وعندما بان للعيان حجم التغير الايجابي للقوم، وقد تحرر من تقاليد وعادات الجاهلية، امتلأ قلبه غبطة وشعر بالسعادة الروحية تغمره، فغير اسم مدينة يثرب الى المدينة المنورة اي المدينة التي اصبح شعبها متنورا.

لم تشمل صفة العظمة الانبياء والصالحين فحسب بل اولئك الرجال الوطنيين الذين يقودون شعوبهم بضمير حي ونزاهة مفرطة. فدرب الاستقامة الذي نهجوها، قاد شعوبهم بالتالي الى السعادة الحقة.

اتذكر اني شاهدت في قناة CNN الامريكية في التسعينيات مقابلة صحفية للمستشار الالماني الاسبق السيد كول، بطل الوحدة الالمانية المعروف، جرت في داره في العاصمة الالمانية برلين. فبعد ان وصل الصحفي الامريكي ودخل بيت كول، وجده وحيدا، اي لم يجد عنده من يخدمه، وبعد ان رحب بضيفه، ذهب الى المطبخ بنفسه ليهيئ له القهوة الصباحية. لكن الصحفي شاهد ان هناك رجلا آخر، يدخل المطبخ من الباب المقابل، ويهمّ هو الاخر في عمل قهوته، مما اثار هذا المشهد فضول الصحفي الذي جعله يسأل السيد كول عن هوية هذا الطارئ، فقال له انه جاري، فاستغرب الامريكي لهذا الجواب وقال : وكيف ؟، لِم لَم يكن لكل منكما مطبخه الخاص به ؟ فقال المستشار السابق :

(كانت فكرتي الاولى ان استأجر دارا لوحدي، فيها كل شيء، لكنني وجدت نفسي امام مأزق مادي، بعد ان اكتشفت ان راتبي التقاعدي لا يكفي لذلك، فبدل ايجارها سيرتفع 200 مارك اكثر. وبما اني اريد ان اعيش عيشة مريحة، اقتنعت بالمطبخ المشترك وشكرا.

وهذا يعني ان السيد كول وهو المستشار الذي حكم المانيا الاتحادية سنوات عدة لم يجرأ يوما ان يمد يده على (بيت المال) للشعب الالماني، هذا (البيت)، الذي يدعم ويطور اقتصاديات الكثير من دول العالم، بأمكانياته المالية الهائلة.

اقول ان هذه السيرة المثالية لأمثال هؤلاء الحكام الشرفاء، هي السر في سعادتهم وسعادة شعوبهم، وبالتالي في ازدهار حضارتهم وتقدم بلادهم، كما نراهم اليوم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here