خلاف الخط العام للمرجعية الشيعية والخطوط الخاصة

خلاف الخط العام للمرجعية الشيعية والخطوط الخاصة
د. علي المؤمن
الخلاف داخل الحوزات العلمية لم يكن يوماً جغرافياً أو قومياً أو مناطقياً؛ إلّا في مخططات الخصوم والأنظمة ووسائل الإعلام الطائفية، أو لدى المنفعلين وأصحاب المصالح؛ لأنّ الحوزات العلمية في بغداد والنجف وقم والحلة وجبل عامل وكربلاء ومشهد وإصفهان وسامراء والكاظمية والأحساء والبحرين، لا تزال تستخدم المناهج الدراسية والسياقات العامة والأفكار نفسها، إلى حد التطابق غالباً، وتعتمد سبل التعاون والتبادل والتكامل نفسها، منذ 1200 عام وحتى الآن؛ حتى يمكن القول إنّها حوزة علمية واحدة، فيها فروع مناطقية منتشرة في بلدان الكثافة السكانية الشيعية. وقد يتألق فرع على حساب الفروع الأُخر في زمن معين، وقد يأفل ويضعف بعضها مقابل صعود آخر. وهذا التألق والصعود والنمو أو الأُفول والضعف والانكماش يرتبط بظروف خاصة بالفرع الحوزوي حصراً أو بانتقال بعض المراجع والفقهاء من فرع إلى آخر.
أمّا الخلاف الحقيقي داخل الحوزات العلمية، فهو يتصل بالخلاف حول تطبيقات الالتزام بمنهجية عمل الحوزة وسياقاته المتعارفة، وأهمها طريقة طرح بعض علماء الدين أنفسهم كمجتهدين ومراجع خارج السياقات والمعايير المتعارفة، وطرح بعض الأفكار المتعارضة مع مشهور المذهب، أو ممارسة سلوكيات ترتبط بالشأن العام تتعارض مع الخط العام الذي تمثله المرجعيات العليا المتصدّية؛ الأمر الذي يساهم في تمزيق الواقع الشيعي.
وقد يتفاقم هذا التعارض في الأفكار والسياقات والسلوكيات لدى بعض علماء الدين إلى المستوى الذي يحوّلهم إلى خط عرَضي خاص، مقابل الخط المرجعي العام في النجف أو قم. وهو ما حصل ـ مثلاً ـ مع الشيخ محمد الخالصي في الكاظمية خلال عقد الخمسينات وبداية عقد الستينات من القرن الماضي، مقابل مرجعية السيد محسن الحكيم التي تمثل الخط المرجعي العام؛ حتى أخذ خصوم الشيخ الخالصي يتهمونه بالتسنن، وهي تهم فيها كثير من المبالغة. وکان له جماعة خاصة تنسب إليه، عرفت بجماعة الخالصي، وقد ضعف خط الخالصي كثيراً بعد وفاته في العام 1963.
وحصل الأمر نفسه مع السيد محمد الشيرازي (1) في كربلاء منذ بداية عقد الستينات، حين كان شاباً (32 عاماً) وطرح نفسه مجتهداً ثم مرجعاً، خلفاً لوالده المرجع الديني السيد مهدي الشيرازي، خارج السياقات الحوزوية المتعارفة، وتحوّل تدريجياً إلى جماعة خاصة تعرف بجماعة الشيرازي، تقابل مرجعيات الخط العام المتمثلة في السيد محسن الحكيم والسيد الخوئي. وقد ظلت مرجعية النجف تشكك في اجتهاد السيد محمد الشيرازي، فضلاً عن مرجعيته. وبالتالي؛ مثّلت الجماعة خطاً خاصاً في مقابل الخط العام للمرجعبة في النجف، وفق الأعراف الحوزوبة وسياقاتها.
وهناك علماء دين آخرون يمارسون حالياً نشاطهم الديني في النجف وكربلاء وقم ولبنان ولندن، وبات لهم خطاً خاصاً يتعارض مع الخط العام للمرجعية الدينية والنظام الاجتماعي الديني الشيعي، إلّا أنّ هذه الخطوط لم تتحول بعد إلى جماعات مؤثرة دينياً في الشأن الشيعي العام، وليس لها امتدادات جغرافية ملموسة.
وقد ظلت بعض جماعات الضغط والمصالح في الحوزة العلمية تستغل معادلة الخط العام والخطوط الخاصة، وتحاول أن تعمم مفهوم الخط الخاص أو الجماعة الخاصة على فقهاء آخرين يتميزون بفاعليتهم الفكرية وحراكهم النهضوي الإصلاحي، برغم عدم انطباق معايير الخط الخاص عليهم بتاتاً. ولكن سبب هذا التعميم يعود إلى التعارض بين حراك هؤلاء الفقهاء والمراجع النهضويين، وبين مصالح بعض جماعات الضغط. وربما كان الشيخ فضل الله النوري في إيران والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء من أوائل الفقهاء المعاصرين الذين تعرضوا لهذا اللون من الشبهات. إلّا أنّ الإمام الخميني والسيد محمد باقر الصدر هما أكثر مرجعين معاصرين واجهوا شبهات تكوين خطوط عرَضية خاصة، منذ عصور مرجعيات السيد حسين البروجردي، والسيد محسن الحكيم، والسيد الخوئي.
والحال؛ أنّ ممارسة هذا اللون من الحراك المتمايز عن الحراك المرجعي السائد، هو نوع من أنواع الاجتهاد في تشخيص المصالح والمفاسد؛ لطالما كان هذا المرجع والفقيه قد درس في الحوزة بشكل طبيعي تقليدي، وحصل على درجة الاجتهاد من أحد أساتذته المعترف باجتهادهم وفق العرف الحوزوي، ثم طرح مرجعيته وفق السياقات التقليدية المتعارفة أيضاً. وبعد ذلك لا يضره أن يمارس الحراك العام وفق اجتهاده، في حدود عدم التضارب مع التوجهات العامة للمرجعية العليا، وعدم خلق شقاقٍ في المجتمع الشيعي.
وتتلخص معايير التزام عالم الدين الشيعي بالسياقات الحوزوية المتعارفة والخط المرجعي العام بما يلي:
1ـ التدرج الطبيعي لعالم الدين في الدراسة الحوزوية.
2ـ حصول عالم الدين على درجة الاجتهاد من أُستاذه المعترف باجتهاده حوزوياً، أو شهادة أهل الخبرة (المجتهدون العدول) باجتهاده.
3ـ عدم خروج عالم الدين على الإجماع العقدي والفقهي في القضايا الأساسية.
4ـ عدم خروج عالم الدين على المرجعية العليا في القضايا الأساسية ذات العلاقة بالشأن العام، حتى بعد أن يحصل على الاجتهاد ويطرح نفسه مرجعاً للتقليد وتتوسع مساحات نفوذه الديني.
5ـ إلتزام عالم الدين بالسياقات المتعارفة في مرحلة نشر رسالته الفقهية العملية وإعلان مرجعيته ونشر وكلائه.
وإذا لم يلتزم عالم الدين الشيعي بهذه المعايير الخمسة؛ فذلك يعني أنّه يمثل خطاً خاصاً عرضياً لا ينسجم مع الخط العام للمرجعية والحوزة. ويمكن من خلال تطبيق هذه المعايير على بعض الحالات السابقة والقائمة، معرفة مصاديق الخطوط العرَضية الخاصة.
خلاف المنهجيات المحافظة والإصلاحية والثورية في الحوزة العلمية
الخلاف الاجتماعي أو السياسي أو السلوكي بين الفقهاء والمرجعيات الدينية أمر طبيعي ومتعارف، شأنه شأن أيّ خلاف إنساني، شرط أن لا يتسبب في انشقاق الواقع الشيعي وتشرذمه؛ أي أن يبقى محصوراً في حدود الدوائر الحوزوية ذات العلاقة؛ بل إنّ من أكبر الكوارث أن يتم الاحتكام في الخلافات الحوزوية إلى الشارع المتدين أو جمهور المقلدين والأنصار؛ ليحولها المنفعلون والجهلاء إلى معارك، كما حصل في فترات زمنية سابقة ولاحقة، ومنها الخلافات بين الأخباريين والأُصوليين في كربلاء وإصفهان والنجف طوال قرن وأكثر، والخلافات بين أنصار المشروطة والمشروعة في طهران والنجف في أوائل القرن العشرين، والخلاف بين الخالصيين وأنصار مرجعية النجف في الكاظمية في خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي، والخلافات بين الشيرازيين وأنصار المرجعية النجفية في كربلاء والكويت والبحرين وقم طوال ستة عقود، والخلاف بين أنصار السيد محمد کاظم الشريعتمداري (1906 ـ 1986م) وأنصار الثورة الإسلامية؛ لا سيما في تبريز وقم في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ثم بين أنصار الشيخ المنتظري وأنصار المرجعية العامة في قم وإصفهان، أو بين أنصار السيد محمد حسين فضل الله وأنصار بعض مرجعيات النجف وقم في الفترة نفسها، وكذلك الخلاف في النجف وغيرها بين أنصار السيد محمد الصدر وأنصار بعض مرجعيات النجف في تسعينات القرن الماضي، ثم امتدادها إلى مرحلة ما بعد سقوط النظام البعثي في العام ٢٠٠٣.
هذه الخلافات، الصحية أحياناً؛ كونها تحرك الركود والجمود، كان يمكن أن تمر بشكل طبيعي، ككل الخلافات المتعارفة الأُخر بين الفقهاء والمراجع في المسائل الفقهية وفي تشخيص المصالح والمفاسد؛ فيما لو تمت إدارتها إدارة حكيمة، ولم تستثمرها جماعات الضغط والمصالح الداخلية، كمادة دسمة تعتاش عليها، ولم تنزل إلى الشارع وتتحول إلى فتنة اجتماعية، ولم يسمح للخصوم الخارجيين باستغلالها وتأجيجها بهدف تضعيف الحوزة والمذهب والطائفة.
بيد أنّ الجانب المهم في هذا اللون من الخلافات؛ هو أنّه لا يؤثر في الأبعاد العلمية وأحجام النفوذ الديني للفقهاء والمراجع المعترف باجتهادهم ومرجعياتهم حوزوياً، ولا يكرس توصيف بعضها خطاً عاماً والآخر خطاً خاصاً، كما فصّلنا سابقاً؛ أي أنّها لا تشبه الخلافات بين المرجعيات التي تمثل الخط العام، والخطوط الدينية العرَضية الخاصة التي لا يعترف الرأي العام الحوزوي باجتهاد أصحابها ومرجعياتهم.
وهناك أمثلة قريبة تاريخياً بشأن الخلاف الصحي المتعارف بين المرجعيات في الموضوعات الفقهية والنظرة إلى الشأن العام، ومن أهمها ظاهرة الثنائية بين مرجعية السيد محسن الحكيم الإصلاحية ومرجعية السيد الخوئي المحافظة في خمسينات وستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، والتي استطاع خلالها السيد محمد باقر الصدر إيجاد منهجية ثالثة فاعلة، لكنها لم تكن منظورة حينها؛ إذ ظلت تتمظهر ـ غالباً ـ في الفعاليات والنشاطات المحسوبة على مرجعية السيد الحكيم وجماعة العلماء في النجف الأشرف والحركة الإسلامية المنظمة ومؤسسات منتدى النشر. أي أنّ واقع الاجتماع الديني النجفي أصبح ينقسم في عقد الستينات ومطلع السبعينات من القرن الماضي إلى ثلاث منهجيات رئيسة:
1- المنهجية الوسطية الإصلاحية المتمثلة في مرجعية السيد محسن الحكيم، وقاعدتها: ولاية فقيه واسعة في الأُمور الحسبية ورعاية النظام العام، وسمتها التطبيقية: إصلاح شامل في الأُمّة وإصلاح مقيد في السلطة. ومن الفقهاء المتماهين مع هذه المنهجية في النجف: الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ مرتضى آل ياسين، والشيخ محمد أمين زين الدين، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد عبد الله الشيرازي، وحالياً السيد علي السيستاني. وتماثلها في قم مرجعيات السيد محمد رضا الكلبايكاني، والسيد محمد كاظم الشريعتمداري، والسيد شهاب الدين المرعشي النجفي. وهي منهجية متأثرة بمدرسة الشيخ الآخوند الخراساني، والشيخ فتح الله الإصفهاني، والشيخ الميرزا النائيني، والسيد أبو الحسن الإصفهاني.
2- المنهجية التقليدية المحافظة المتمثلة في مرجعية السيد أبو القاسم الخوئي، وقاعدتها: ولاية فقيه محدودة في الأُمور الحسبية، وسمتها التطبيقية: إصلاح تقليدي في الأُمّة وانكفاء في موضوعة السلطة، وهي متأثرة بمدرسة السيد محمد كاظم اليزدي والشيخ ضياء الدين العراقي. ومن المتماهين مع هذه المنهجية في النجف: مرجعيتا السيد عبدالهادي الشيرازي، والسيد محمود الشاهرودي، وتماثلهما في قم مرجعيتا الشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد حسين البروجردي سابقاً، والشيخ حسين الوحيد الخراساني حالياً.
3- المنهجية التغييرية الثورية المتمثلة في الفقيه الشاب السيد محمد باقر الصدر، وقاعدتها: ولاية فقيه عامة ورعاية مطلقة للشأن العام، وسمتها التطبيقية: إصلاح شامل في الأُمّة وتحوّل جذري في السلطة وانخراط في العمل التغييري الثوري. أمّا في قم فإنّ هذه المنهجية أسسها الإمام الخميني، وأبرز المراجع المتماهين معها هم تلاميذ السيد محمد باقر الصدر والإمام الخميني، ولا سيما السيد محمد الصدر، والسيد محمود الهاشمي، والسيد كاظم الحائري، والشيخ حسين علي المنتظري، والسيد علي الخامنئي، والشيخ جعفر السبحاني، والشيخ محمد الفاضل اللنكراني، والشيخ عبد الله الجوادي الآملي. فضلاً عن مراجع آخرين أحياء تتلمذوا في مدرسة السيد حسين البروجردي؛ لكنهم خالفوا أُستاذهم في وسائل التعامل مع القضايا العامة، وفي مساحات مبدأ ولاية الفقيه؛ فقالوا بولاية الفقيه العامة، وانخرطوا في الحراك الثوري التغييري الذي قاده الإمام الخميني، كالشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، والشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني؛ برغم أنّهم ليسوا من تلاميذ الإمام الخميني.
والملاحظ في النجف في ستينات القرن الماضي، أنّ المنهجيات الفقهية والتطبيقية المتفاوتة الثلاث، والمتمثلة في: السيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد باقر الصدر، كانت تتبادل الحماية والدعم والتأييد. وحصل الأمر نفسه في أوائل عقد الستينات من القرن الماضي؛ حين مارست مرجعيات قم المحافظة والإصلاحية دور الحماية لمرجعية الإمام الخميني التغييرية الثورية.
وقد يرى بعض المراقبين مفارقة في هذا المجال؛ فكيف يدعم التيار الديني التقليدي المحافظ تياراً إصلاحياً وآخر ثورياً، أو العكس؟! لكن من يعرف قواعد تفكير المرجعية العليا التي تمثل الخط العام، وأساليب حركتها؛ سيدرك بأنّ هذه المرجعية تمارس ـ عادة ـ دور الأُبوة لكل التيارات والوجودات في الوسط الشيعي، وتعمل على حمايتها وعدم التفريط بها، وشدها إليها بهدوء وصبر؛ للحؤول دون انكفائها خارج النظام الاجتماعي الديني الشيعي، سواء كانت المرجعية العامة نفسها ثورية أو إصلاحية أو محافظة (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) «الشيرازية» هو الخط الديني الخاص المنسوب إلى آية الله السيد محمد الشيرازي. أمّا مفردة «الشيرازي»، فهو لقب عام، ويطلق على المنتسبين إلى مدينة شيراز الإيرانية، وهي المدينة التي أنجبت فقهاء ومراجع شيعة كبار خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، أبرزهم: الميرزا السيد محمدحسن الشيرازي، والشيخ محمدتقي الشيرازي، والسيد عبدالهادي الشيرازي، والسيد عبدالله الشيرازي. وليس بالضرورة أن يكون الملقبون بالشيرازي من الأُسرة نفسها أو أنّهم أقارب، أو من المدرسة الفقهية نفسها، بل هو مجرد انتساب إلى المدينة شيراز.
(2) علي المؤمن، جدليات الدعوة، ص178 ـ 186.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here