قيل لي
قيل لي، وأنا أقترب من مكتب السفر، وكان هذا كل ما جاء عبر هاتفهم، أن كل شيء هادئ،بلهفة ترقب، وفي انتظار. كم جميلة العودة بعد شح ويباس سنين الغربة الطوال؟
الرسالة الأخيرة منهم حملت الكثير من الأشواق ولوعة محبين، وأجمل ما فيها، كان همس حب صادق.
صدقت فقادتني نفسي للبحث عن بطاقة للسفر. آخر الأيام قبل السفر كنت عبدًا لجهاز الحاسوب فلم أفارقه طوال ليلتين. بحثت في طياته عن بطاقة سفر أردتها أن تكون مباشرة لمدينتي، ولكن جهودي ذهبت سدىً. ففي مدينتي لم تضع سلطاتها المحلية في حساباتها عودتي لذا استغنت عن المطار.
في المكالمة الهاتفية الأخيرة قيل إن المدينة ترتل أناشيدي وأن الشوارع معشوشبة لأجلي، وبكاء الصبايا كان ندى الحدائق وعطرها، قيل ذلك في الهاتف، فأوغلت في صمتي الودود وصدقت بكامل جوارحي كل نثار الحكايات، وامتلأ قلبي ولهًا.
عجولاً كنت فأفشيت سري لشرطي ارتدى رتبة سادن، أسمعته بعض أناشيدي، هو من هاتفني وطلب مني العودة.
ربما ؟! لا أتذكر ذلك جيدا.
أكان أبي؟ اعتقدت ذلك.
حبيبتي !؟ جائز.
أم هو صاحبي الذي نسيت اسمه عند التجوال دون حساب، في عشرات المدن الباردة.
كلا سمعت صوتًا أجشًا ميزته دون غيره، إنه أستاذي في آخر صف جامعي كنت قد هربت ودفاتري منه قبل نهاية الفصل الدراسي…
قيل إن النخيل بكاني حين تذكر حادثة هروبي، وما زالت هناك شتائم تطلق ضد من تسبب في نفيي وتغربي. قيل لي إن المدينة ما زالت تحمل حزن فراق ولوعة اشتياق وتهمس بأناشيدي. كل هذا بعد عقدي السابع الذي شربت نخبه قبل شهر مضى، وكنت حينها وحيدًا أطالع قطرات المطر الثقيلة وهي تقرع زجاج نافذتي بصخبها. قيل وكتب على لوح بريدي الالكتروني، بأن هناك من يسبح في النجوى والشجن حين يقرأ أناشيدي.
قيل وقيل وقيل الكثير.
حطت قدماي فوق إسفلت الشارع فسمعت وحشة الصمت تنط من بين فخاخ النوافذ.
ـ ارجع لفردوسك ودعنا في جحيمنا.
ـ عد لعاهراتك ولا تأت لتلوث شرف بناتنا.
ـ أدر ظهرك وتأبط أشعارك الكسيحة واحرقها قبل أن نطفئ بها سجائرنا.
سمعت نباح كلاب تجر عربة مزركشة يرن فيها ألف ناقوس. ترصدتني عيون الكلاب الخرساء، توقفت أمامي، كانت الشوارع معشوشبة بالفراغ المكين، وحدي بحذائي المطلي حديثا، كنت أقرع الأرض وأسمع رجع صداه، بحثت في جيب السروال عن بطاقة العودة دعكتها بقوة.
كنت خائفا أن تلتهمها الكلاب.
قيل لي فصدقت
مزحةً كانت تملؤها الأكاذيب
تناهى لي من بعيد صوت كركرات طفولتي.
قيل لي …….فبكيت
فرات المحسن
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط