جرذ حفر الباطن

جرذ حفر الباطن

فرات المحسن

أطل عريف شاكر برأسه عبر الباب الضيق للملجأ وقال :

ــ أتيت لأبلغك بأن عبد الرحمن سوف يذهب غداً بمأمورية إلى بغداد، تستطيع أن تبعث معه رسالة إلى أهلك ، هو من أخبرني بذلك، فقد طلب منه مساعد الفوج نقل وإيصال رسائل جميع من يسكن أهلهم مدينة بغداد، قرار إيصال الرسائل جزء من المأمورية الموعودة.

ـ ربما أفعل، أحاول ،شكرا.

قلت ذلك وأنا أشعر بكدر وخواء يشطر روحي ويشتتها، بعد أن امتدت بنا الأيام في هذه الوحشة الثقيلة القاتلة، ووطأة الخوف طيلة ساعات اليوم، وترقب المجهول الكامن خلف السواتر، يرقب ضحاياه لحين ساعة قدوم حتفهم بالمجان في قفار صحراء حفر الباطن.

ـ فكر بالأمر، غدا فجرا سوف يذهب عبد الرحمن مع سيارة جلب الماء والأرزاق.

قال ذلك وابتعد خارج باب الملجأ.

سحبت بتثاقل ورقة من دفتر مدرسي كنت قد جلبته معي رغبة في تدوين بعض خربشات شعر يستطيبها بعض الأحيان ضجري وضيق في الصدر، ولكني تركته في حقيبة سفري التي طمرها الرمل، دون أن يرى النور منذ ما يقارب الشهر. عند الضوء الشحيح للقنديل المعلق في زاوية الملجأ، تمعنت الورقة جيدا، وانتابتني رغبة لعد رتابة خطوطها، فتوقفت عند منتصف العد، حين سمعت صوت انهيال الرمل من زاوية في سقف الملجأ، حينذاك لاحظت عيون الجرذ الناطة من بين أكياس الرمل والصفيحة الحديدية للسقف. كانت أصابعي تهز القلم هزاً خفيفاً وتسحبه بخدر فوق الورقة، لترسم دوائر متداخلة ووجوه عابسة. راودني الإحساس الغامر القاسي ذاته، الذي ينتابني بين حين وأخر.أحساس بالخواء المضطرب تحت سماء مفتوحة مليئة بالثقوب الفاغرة مثل أفواه سعالي. وحيداً، أسير في متاهة لا حدود تلجمها. ورغم عتمة وثقل سقف الملجأ، فقد شعرت وكأن ضوءا تسلل عبره، وجسدي كان هناك ممدداً فوق الرمل. تنفتح السماء فوقي مثل كوّة موحشة، ترسل إشارات سحرية عبر نفقٍ معتم ، تأتي من خلاله أصوات شحيحة لا تستطيع أذناي تمييزها، فينتابني خوف يخالطه استسلام تام بليد، وكأنّ بي مساً سحرياً يشلّ كل حواسي. إحساس بالخدر التام والرغبة بصمت يخالطه نشيج داخلي.

لا أذكر عدد المرات التي كتبت فيها رسائل. فأنا أمقت كتابة الرسائل. وسبب لي ذلك وفي أكثر من مناسبة العديد من الإشكالات. فأنا لا أجيد الحديث عن أمنيات وتمنيات وتدبيج تحيات، أو التعبير الدقيق عن المشاعر، وأجد صعوبة في سرد الوقائع ووصف الأماكن. وفي أغلب الأحيان أجدني عاجزاً كلياً عن كتابة ما نويت الحديث عنه، فأرجئه للقاء مباشر واعتذار يكون وفي كثير من الأحيان غير مقبول عند الآخرين.

تركت الورقة جانباً وطالعت مكان الجرذ الفارغ. شعرت بحاجتي الملحّة للحديث معه، محاورته عن شيء ما،عن حياتي أو حياته،مشاعرنا المشتركة في هذه الوهدة المفزعة، عن الذي يعشقه والذي أمقته. عن عالم الصحراء المتقلب بين الحر اللاهب والبرد الموجع، عن الجوع والعطش، عن هذه الحرب القذرة البعيدة جدا عن خيارنا وأمنياتنا. من يدري فربما يعرف أكثر مني سببا لوجودنا معا في هذا المكان الموبوء بالموت المجاني. وربما يخطو الآن برهبة وحذر لاكتشاف حسن نية البشر أو شرورهم تجاهه.

ولكن كم يبلغ من العمر الآن ؟ أنضج أم الوقت ما زال مبكراً ليعرف أن قدميه زلتا عن الطريق وقادتاه مبكراً حيث المكان الخاطئ، بالضبط إلى مكمن القتل. ولكن حقيقة الأمر أن البشر وحدهم بحثوا عنه وقرروا اقتحام خلوته الصحراوية، عن عمد حدث هذا، أم تراها صدفة حين زجوه عنوة في نزاعاتهم، وجعلوه يلتهم طعامهم الزقوم. هم وليس سواهم، من سيقوده لحتفه، إما تخمة أو قتلاً. ولكن أين تراه مختفيا الساعة. ألديه أحد غيري يحاوره في هذه الأرض القاحلة المجدبة. أتراه يشعر بعظم مسؤوليته فيمضي يتفقد ملاجئ الجنود كمبعوث للرب يحثهم على الاقتناع بما جاد به قدرهم، أم مل التطلع في وجهي العابس. لمَّ لا يأتي لمناجاتي، فقد كرهت ومللت الوحدة والانتظار المغمس بالخوف.

سمعت خشخشة الورقة فشاهدت وجهه المدّبب الجميل. كانت الورقة بين أسنانه يسحبها متراجعاً فوق الفراش المغطى بالرمل. مبتعداً بها نحو الزاوية. تشبث بالورقة أول الأمر، حين حاولت سحبها منه، ولكنه فجأة تخلى عنها قاضماً بأسنانه الصغيرة زاويتها، ثم هرب مختفياً بين الأكياس عند سقف الملجأ. شعرت ببعض راحة وشيء من رضا لمثل هذه الدعابة، فقد كنت في أمسّ الحاجة أليها وبالذات في هذا الوقت ، لذا أمسكت قلمي وبدأت الكتابة.

أمي الحبيبة

تحية طيبة

أرجو أن تكوني بخير وصحة تامة. أنا لحدّ الآن بصحة جيدة وصاحبي بصحة وعافية أيضاً، ويمازحني طوال الوقت.

أشعر بحاجة شديدة لرؤيتك.

قبلاتي

ابنك المحب

حفر الباطن ظهر يوم 23 /2 / 1991

* ليل 23 على 24 شباط /1991 بدأ هجوم التحالف البري لطرد الجيش العراقي من حفر الباطن ودولة الكويت.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here