ما بعد المقاطعة .. مهمات جسام

ترتبط الغاية الأساسية من المقاطعة، باعتبارها تكتيكا انتخابيا، برؤية سياسية ستراتيجية تقوم على كون البلد لابد أن يشهد تغييرا في مسار العملية السياسية القائمة على المحاصصة، الى جانب معالجات جذرية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

ويرتبط هذا من جانبه بتعدد الأزمات التي تعكسها الممارسات والتجاوزات والاوضاع التي تتحدى ارادة الناخب، من تزويرٍ ونشر للسلاح واستخدام للمال السياسي، وتوظيف للمواقع التنفيذية ومواردها لأغراض انتخابية، واعتماد مفوضية غير مستقلة، اضافة الى عدم تطبيق قانون الأحزاب. ناهيكم بالطبع عن تفشي الفساد على مختلف المستويات، وتعاظم معاناة الملايين بسبب غياب الخدمات الأساسية وتهالك النظام الصحي في ظل تفشي الكورونا، فيما ينهار النظام التعليمي، وتنتشر البطالة في صفوف الشباب خصوصا.

هذه الأوضاع الاستثنائية، بل المأساوية، تعيق جميعا بالطبع اجراء انتخابات حرة نزيهة. وبالتالي فان المقاطعة هي شكل من أشكال الضغط السياسي والجماهيري على كل المنظومة السياسية بهدف دفعها في اتجاه التغيير، انطلاقا من القناعة بأن ظروف الانتخابات الراهنة لا توفر ما يفضي الى تحرك حقيقي صوب التغيير.

من هنا جاءت ضرورة اتخاذ موقف أكثر حزما، ارتباطا بتصوراتنا التي ترى أن البلد لا يمكن أن يستمر على هذا النهج، وما يقود اليه من تدهور على المستويات كافة.

وغني عن القول ان مقاطعة الانتخابات المبكرة المقرر اجراؤها في العاشر من تشرين الأول المقبل، ليست رفضا للعملية الديمقراطية ولا للعملية الانتخابية، بل هي على العكس تماما تهدف الى تصحيح مسار هذه العملية، عبر تخليصها من كل العوامل التي تعطل الارادة الحرة للناخب، متمثلة في التنظيمات المسلحة وانتشار السلاح والمال السياسي والتزوير، وعدم استقلالية مفوضية الانتخابات وعدم تطبيق قانون الانتخابات واستخدام المتنفذين سياسيا للسلطة ومواردها. وكل هذه الممارسات والظواهر، التي تكشف عن ارتفاع متزايد لنسبة العزوف عن المشاركة في الانتخابات، فضلا عن ضعف إداء البرلمان في المجالين التشريعي والرقابي، شهدتها الانتخابات في جميع الدورات السابقة، وما زالت حاضرة وربما تفاقمت في الانتخابات الحالية، حتى باتت تشكل تهديدا حقيقيا للانتخابات ولمصداقيتها وللعملية الديمقراطية، بل ولمستقبل البلاد ووجهة تطورها الاجتماعي السلمي.

إن غياب الشروط الضرورية لمشاركتنا في الانتخابات والتي اكدناها اكثر من مرة، وعجز الحكومة عن تأمينها، يضاعف احتمالات اعادة منظومة المحاصصة ونهجها، وبالتالي اجهاض الغرض الأساسي من اجراء الانتخابات.

كما أن مقاطعة الانتخابات تنطلق من حقيقة أنه لا يمكن أن نتوقع عملية ديمقراطية مستقرة، في ظل واقع اجتماعي اقتصادي يسير من سيء الى أسوأ، حيث التردي المريع في الأحوال المعيشية لقطاعات واسعة في مجتمعنا، وسط تفاقم الأزمات في سائر الميادين.

وهكذا فالمقاطعة هي جرس انذار من ناحية، وهي من ناحية ثانية نداء عمل وفعل سياسي، يهدف الى تعبئة وتفعيل كل عناصر الضغط المجتمعي، وحراك الجماهير الغفيرة المكتوية

بالأزمات، والمتطلعة الى خلق شروط تكون فيها الانتخابات المعبر الأمين عن رأي وإرادة الناخب بصورة حرة، تفتح بوابة للتغيير الحقيقي.

إن الأهداف السياسية المباشرة المتوخاة من المقاطعة تتمثل في الدفع باتجاه خطوات فعلية شاملة، لمعالجة كل المطالب التي أوردناها وسجلناها على العملية الانتخابية وتأثيراتها السلبية الخطيرة على الارادة الحرة للناخبين.

وعلى الصعيد السياسي تهدف المقاطعة الى المساعدة في ايجاد اصطفافات شعبية واسعة، على أرضية مشروع برنامجي وطني ديمقراطي يسعى الى التغيير. واننا لنجد أن الكثير من عناصر هذا المشروع مجسدة في المطالب العادلة لانتفاضة تشرين.

إن أمامنا اليوم مهمات جسام، ونحن نطرح بديلنا الذي يتعلق بالنهج السياسي والبيئة السياسية، والمتضمن حلولا للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية، واقتراحات ملموسة في ما يتعلق بالمنظومة الانتخابية.

وإننا لعاقدون العزم على العمل، بمختلف الوسائل السلمية، لتعبئة القوى السياسية الرافضة لنهج المحاصصة والفساد، وقوى الحراك الاحتجاجي، لتصعيد الضغط معا على كل المنظومة السياسية، التي تقف موقف الكابح والمعرقل للتغيير، وهو الذي بات ضرورة ملحة لانقاذ البلاد من الأزمات الطاحنة، ووضعها على طريق التحول السلمي نحو الديمقراطية الحقيقية، متمثلة في اقامة الدولة المدنية على قاعدة العدالة الاجتماعية.

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here