لتكن الثورة التركية لنا عبرة !

لتكن الثورة التركية لنا عبرة ! * د. رضا العطار

كانت الثورة التركية التي اشعلها مصطفى كمال اتاتورك عام 1921 اكبر من الثورات المألوفة، لأنها لم تقتصر على التغيير في نظام الحكم بل تجاوزته الى التغيير في البنية الاجتماعية للمجتمع التركي.

كانت تركيا الى قبل 1914 امبراطورية واسعة، تضم اقطارا عربية يتولى الحكم فيها ولات اتراك. وكان السلطان اي الامبراطور في القسطنطينية اي اسطنبول الحالية، خليفة المسلمين، رغم انه كان في الغالب ابن جارية اوتي بها من صربيا، بلاد اوربية لا تمت بالاسلام والمسلمين ولا بالعرب بصلة، له سلطة دينية و سياسية مطلقة. فكان على العربي المسلم، اينما وجد، ان يرفع يده في الصلاة، يدعو الله ان يحفظ (الخليفة).

وكانت هذه الامبراطورية تحيا الحياة الشرقية كما نفهمها من ضرب الحجاب على المرأة والتسري والانتاج الزراعي دون الانتاج الصناعي والحكم الاستبدادي الذي يستند الى ارادة الخليفة دون البرلمان، ومكافحة الأراء الأرتقائية وتقييد الأفواه و الصحافة.الخ

وكانت احوال هذه الامبراطورية تنذر بالفناء قبل موتها بمائتي سنة، اذ لم يكن لها من عناصر البقاء شيء يذكر. ولكن تحاسد الدول الطامعة على اقتسامها كان يمنعها كلها من الشروع في هذا الاقتسام. ثم خوفها من ان يكون في موت الدولة العثمانية فتح الطريق لخروج الروس الى البحر الابيض المتوسط. هذا الخوف الذي كانت تحسه بريطانيا وفرنسا، ولذا كانتا تبقيان على الدولة العثمانية كحاجز يمنع روسيا، هذا العملاق الضخم، من تحقيق هذا الأختراق. بل ان الامم الاستعمارية كانت تجد في بقاء الدولة العثمانية، وهي في انحلالها وفسادها، فرصة لأستغلال الاقطار العربية التي كانت تعد جزءا منها.

كل هذه العوامل جعلت الامبراطورية العثمانية تعيش اكثر من عمرها المحتوم حتى اذا جاءت الحرب العالمية الاولى وانضمت الى المانيا ضد الامم الغربية، قامت الاخيرة في تحريض الدول العربية على الدولة العثمانية. بهدف اسقاطها. فتقربت بريطانيا الى الملك حسين، شريف مكة، تطلب مساعدته مقابل منحه الاستقلال بعد انتهاء الحرب، فانخدع الرجل بعهودها. واشترك في حرب التحرير بجيش من البدو قوامه خمسة آلاف فارس بقيادة ابنه الأمير فيصل، ومرافقة الضابط الانكليزي لورنس. لكن الذي حدث بعد نيل الانتصار. انه لم تكتفي بريطانيا في نكث العهد الذي قطعته مع العرب انما قامت على تقسيم سوريا الكبرى الى اربعة دول طبقا للسياسة الاستعمارية التقليدية فرق تسد، مما احدثت للعالم العربي شرخا تاريخيا اليما.

الى جانب ذلك كانت الدول الاستعمارية تسعى الى عقد اتفاقات سياسية لتحطيم الدولة العثمانية ولكن مع الابقاء على حياتها لتظل حاجزا ضد روسيا. ولذلك راينا ايطاليا وفرنسا وبريطانيا تحتل بجيوشها الممتلكات العثمانية، كما راينا اليونان تحتل مدينة ازمير التركية، لكن مع بقاء السلطنة.

كان كيان الامبراطورية العثمانية من قش، يتولى عليها سلطان من قش وتحيا ثقافة القش. كانت قد اعطت كل ما طلبه المنتصرون منها.

لكن بقى رجل، كان يفهم الحضارة العصرية، كما يفهم ان بلاده متخلفة و بعيدة جدا عن ركب الحضارة الحديثة. وان ضعفها القائم لا يعالج وكذلك فنائها القادم لا يمكن اجتنابه، ذلك لأنها غير عصرية. وكان هذا الرجل ( كمال اتاتورك ) ينشد فوق الاستقلال لتركيا مجتمعا عصريا.

انه كان يفهم الحضارة على انها ليست شرقية او غربية وانما هي وحدة تتألف من درجات وان اعلى درجاتها توجد في الامم الغربية واسفل درجاتها في الامم الشرقية لا لأن الشرقيين يختلفون عن الغربيين في الميزات العنصرية، ولكن لانهم تركوا الحكم في ايدي الملوك المستبدين الذين حطموا قوى الشعوب بالفقر والجهل والمرض.

وكان كمال اتاتورك يتولى قيادة الفيلق الذي يرابط في الاقليم الشرقي من الاناضول. فلما سلم السلطان بطلبات الدول الغربية، اعلن هو انه لن يسلم. ثم زحف بفيلقه على ازمير وطرد اليونانيين منها. لكن السلطان بدلا من ان يكافئه لطرده الغزاة من وطنه اعلن مكافئة نقدية لمن يغتال اتاتورك.

لكن اتاتورك بقوة الحق وبحق القوة استطاع ان يتغلب على السلطان ويخلعه ويخرجه من قصره برفقة جيش من الجاريات والغلمان. واجبر الدول الغربية – بعد ان انتصر عليهم في حرب بحر الأرخبيل الضروس – ان يستبدلوا معاهدة فرساي المذلة بمعاهدة لوزان المنصفة ثم شرع اتاتورك بتغيير الحكومة والمجتمع التركيين.

كما شرع الناس يتعلمون ويعملون بدلا من التزيّ بالاحمر والاخضر والتبختر في الطرقات وقضاء الوقت في الحديث عن ملذات القصور، واصبحوا مواطنين منتجين، يكسبون الحكمة من الكد والعرق. فبعد ان كان الدين يشغل الشعب بمسائل الغيبيات و أمور الحلال والحرام، صار ديدن الشعب الفصل بين الخطأ والصواب، وهما يقرران الحق في المناقشة والرأي الأخر. ثم تُرجم القرآن الى اللغة التركية فعلم الاتراك لاول مرة حقيقة دينهم بعد ان كانوا يجهلون معانيه باللغة العربية.

والغى اتاتورك المحاكم الشرعية التي لم يعد لها بقاء مع الزواج المدني، ولم يعد في تركيا امام الدولة مسلم او مسيحي او يهودي او ملحد لان الجميع اتراك فقط.

لقد كان نظام الخلافة السابق يلتزم المرأة بالحجاب في صرامة عجيبة حتى لم يكن يجوز للزوجين ان يقعدا جنبا الى جنب في عربة واحدة تسير في الشارع. فألغى اتاتورك الحجاب كله. واستخدم المرأة في وظائف الدولة، فكانت – خالدة اديب- اولى الوزيرات.

وترجم قوانين سويسرا المدنية والجنائية الى اللغة التركية وجعلها الاساس للقضاء في المحاكم. والغى التكايا والاربطة والطقوس الدينية السخيفة. واحال قصور السلاطين الى متاحف تجذب السواح وتدر على الدولة بالارباح. والغى جميع الامتيازات الاجنبية بلا مفاوضة.

واستبدل الحروف العربية بالحروف اللاتينية. لكن عندما استبدل القبعة بالطربوش، ثار عليه المشايخ، فشنقهم جميعا. كانت سياسة اتاتورك مع رجال الدين تتسم بقسوة متناهية، يتعذر تصورها. ان الذين احتجوا و عارضوا برنامجه الأصلاحي والتغيرات السياسية التي قام بها، من خطباء المساجد والكتاب والشيوخ والمعممين من رجال الدين ، الذين وقفوا في وجهه، وكان عددهم بالألاف، اركبهم سفن غير صالحة للأبحار، ليستقروا في اعماق بحر مرمرة.

اما في جانب اعماله الاصلاحية فإنه عمم المساواة بين الجنسين في الانتخابات لأول برلمان عصري، كما عمم المساواة في المواريث بين الرجل والمرأة. وامم الكثير من الشركات. وابطل الرتب والالقاب.

وقال في احدى خطبه ( ان سيد البلاد ليس رئيس الجمهورية، انما الفلاح )

وليس في تاريخ العالم كله ثورة استوعبت كل هذا التغيير في النظام الحكومي والشعبي.

هكذا اصبحت تركيا دولة عصرية مستقلة ذات سيادة، كما اصبح الاتراك في مدنهم ومزارعهم ومصانعهم وبيوتم، حتى في اخلاقهم أمّة عصرية حرة، لا تسكر بعقائدها و لا تبالي بغيبياتها و تقاليدها الماضية، انما تعيش بالعقل والرأي السديد.

ولأمانة التاريخ يقول كاتب السطور: عندما تركت مدينة اسطنبول عام 1953 الى المانيا، كانت معالمها لا تزال شرقية متأخرة، حتى ان معظم ارجاء المدينة كانت تذكرني بالأحياء الشعبية الفقيرة في بغداد. ولكن ما اشد كانت دهشتي عندما زرت اسطنبول ثانية عام 2003 اي بعد خمسين سنة وانا قادم من اوربا، شاهدتها وكأنها امتداد لمدن اوربا في تطورها وعمرانها، شاهدتها تزهو بالحضارة الحديثة، ومظاهر التقدم والازدهار تجلي الأبصار

· مقتبس من كتاب الثورات لسلامه موسى والفقرة الاخيرة لكاتب المقال.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here