«نظام النقد التركي».. كيف وصلت تركيا إلى أزمتها المالية الحالية؟

Turkish Prime Minister Recep Tayyip Erdo : Nieuwsfoto's

بشكل شبه يومي، تتغير قيمة العملة التركية مقابل الدولار والعملات الأجنبية، ومنذ تفاقم الأزمة عام 2018 وتتابعها حتى اليوم، ترتفع وتتبدل أسعار كل شيء في تركيا: الطعام والشراب، والكهرباء والغاز، والمواصلات والسيارات، وحتى المخبوزة الشهيرة بثمنها الرخيص، «السيميت Simit»، تضاعف سعرها مرةً على الأقل.

ويومًا بعد يوم تكبر ظلال الأزمة الاقتصادية وآثارها على السياسة التركية، وتثير مخاوف الطرفين: مؤيدي الحكومة ورئيسها رجب طيب أردوغان، ومعارضيها من الأحزاب الأخرى، وتتابعُ التنبؤات بشأن الانتخابات الرئاسية عام 2023، وإذا ما ستُحل الأزمة الاقتصادية قبلها.

في هذا التقرير نستعرضُ تاريخ وواقع نظام النقد التركي، وكيف تدار العملة التركية ويخطط لها، ودور النظام النقدي في الأزمة القائمة.

أولًا: تركة الدولة العثمانية

تأثرت تركيا منذ نشأتها بالنظم النقدية المختلفة في العالم، ولم تكن مشاركةً أو صانعةً لهذه السياسات؛ لعدم كونها من الدول العظمى في العالم. وقبل تأسيس الجمهورية عام 1923 مرّت السلطنة العثمانية بطورين من السياسة النقدية، فقبل النصف الأول من القرن التاسع عشر، لم يكن للخلافة العثمانية سياسةٌ نقدية موحدة، تُديرها بشكل حصريّ جهة واحدة، مثل البنوك المركزية، لتشرف على مهمة إصدار النقد وتنظيمه، وعوضًا عن ذلك كانت العملية غير مركزية تشرف عليها خزينة الدولة، والصاغة والمرابون، والنقابات المختلفة، ومصانع صك العملة وغيرهم.

إلا أنّ تعقد العمليات المتعلقة بالنقود، وتضخم التجارة الخارجية، بالإضافة لديون السلطنة العثمانية لجهات أجنبية، بريطانيا وفرنسا بشكل خاص، دفع بالعثمانيين إلى تشكيل جهة وسيطة بين الجهات الخارجية والدولة العثمانية، فشُكّل البنك العثماني عام 1856، وهو ذو تاريخ أول دين خارجي للخلافة العثمانية، وكانت حرب القرم هي السبب الأساسي للاستدانة حينها.

أتراك يقرإون سعر صرف العملة، في إسطنبول، تركيا 2021 

لاحقًا حُلَّ البنك وأعيد تنظيمه عام 1863 ليصبح «البنك الإمبراطوري العثماني»، بشراكة بريطانية وفرنسية، وليحتكر عمليات نقدية أكثر ويركزها في يده، كخطوة نحو تشكيل بنك مركزي وطني تكون رؤوس أمواله عثمانية خالصة، لا بريطانية أو فرنسية، ولكن لم تُفلح الدولة العثمانية في تشكيله خلال الحرب العالمية الأولى تبعًا لهزيمتها فيها، وكان لطبيعة الاقتصاد العثماني غير المركزي، والمتؤثّر بالشريعة الإسلامية المُحرمة للفائدة، دورٌ جزئيٌ في عدم نشوء سوق مالي داخلية وبنوك محلية تُعفي الخلافة من الاستدانة الخارجية، بالإضافة لعوامل أخرى عدّة سياسية وتاريخية صعّبت وأبطأت هذا التغيير الاقتصادي.

غياب مؤسسة تلعبُ دور البنك المركزي ضيّع على الدولة إحدى أهم فوائد النقد والبنوك، وهو نقل الفائض غير المستخدم من أحد الأطراف المشاركين في الاقتصاد لطرف آخر، لديه نقص في المال مع حاجة لاستدانته، ليستخدمه في الاستهلاك والإنتاج، ومع عدم وجود وسطاء أكفّاء وفاعلين للقيام بهذه العملية، اضطر العثمانيون إلى الاتجاه للخارج.

السياسة النقدية في تركيا: تاريخ من الأزمات والتغيرات الجذرية

تأسس البنك المركزي التركي عام 1928، وباشر عمله عام 1931، وتبنت تركيا في الثلاثينات نظام سعر صرفٍ مثبت، ولم تنتقل إلى نظام سعر الصرف المعوّم بشكل كامل حتى عام 2001، ولم يتّبع البنك المركزي التركي سياسات الاستقلالية عن الحكومة، كما كان شأن كثير غيره من البنوك المركزية، فالأصل في السياسة النقدية ألّا يمول البنك المركزي الحكومة ومصاريفها من موجوداته، بل على المركزي فصل سياساته عن أن تكون متأثرة بالحكومة، لضمان فعاليته كما أصبح متعارفًا عليه في الأدبيات الاقتصادية لاحقًا.

إلا أن تمويل الحكومة من موجودات المركزي كان ضروريا في تلك الفترة التي شهدت كسادًا عظيمًا وحربًا عالمية ثانية، وشهدت فيها تركيا تضخمًا هائلًا، ولم تُبنَ سياسات البنك المركزي حينها بهدف السيطرة على هذا التضخم (سنشرح بعد قليل دور البنك المركزي في السيطرة على التضخم)، وكان الهدف الأساسي للبنك المركزي التركي حينها حفزُ النمو في الاقتصاد التركي، بتوجيه النقد للقطاعات المنتجة والمحققة للنمو، مع تغييرات مهمة حصلت في السبعينات سمحت للبنك المركزي بإجراء عمليات السوق المفتوحة التي لم يمارسها البنك فعليًا قبل عام 1987.

إلا أن بداية التغيير الحقيقي واللبنة الأساسية للنظام النقدي في تركيا اليوم ابتدأت على إثر الأزمات الاقتصادية التي حلت على تركيا في نهاية السبعينات، والتي بدأت الاستجابة الفعلية لها بـ«لبرلة» الاقتصاد التركي والنظام النقدي مطلع الثمانينات.

البنك المركزي التركي: شعاره، ومقره الرئيس في العاصمة التركية أنقرة 

استمرّت تركيا بالمضيّ نحو نظام سعر صرف أكثر مرونة وليبرالية، واختبرت عدة أنظمة غير معوّمة بالكامل إلا أنها تتجه نحو التعويم فعليًا، فبدأت أوّلًا بتخفيض سعر الليرة بنسبة 23%، و44%، لعامي 1978 و1979 على التوالي، استجابةً للأزمة الاقتصادية التي حلت بالبلاد، والتي كان أحد أسبابها أن الليرة قيّمت فعليًا بأعلى من قيمتها، ويجب ملاحظة أن تقييم العملة بأعلى من قيمتها مهم لتقليل كلفة الاستيراد على المواطنين، فعند انخفاض قيمة العملة المحلية التي يستخدمها المواطنون، ترتفعُ أسعار المنتجات المستوردة من الخارج، لارتفاع ثمن العملة الأجنبية التي تباع بها هذه المنتجات المستوردة مقابل العملة المحلية، كل ذلك أدى إلى امتصاص مخزون تركيا من العملات الصعبة التي تمكنها من الحفاظ على سعر العملة مع استمرار قيام تركيا بدعم الليرة، مع حقيقة كون سعرها يجب أن ينخفض.

وتبنّت الدولة عامَ 1980 سياسة نمو معتمد على التصدير، ولفهم هذا علينا قلب المعادلة المذكورة سابقًا، والتي تقضي برفع سعر العملة لخفض سعر المستوردات على المواطنين، ولكن عندما تنخفض قيمة العملة، تصبح صادرات الدولة أرخص وأكثر تنافسية بالنسبة للخارج؛ ما سيزيد الطلب عليها، وتبنّت الكثير من الدول مثل هذه السياسة، وحققت نسب نمو مرتفعة جدًا بسببها، مثل النمور الآسيوية وتجربتها المعتمدة على النمو بالتركيز على الصادرات، وجذب رأس المال الأجنبي، للرخص النسبي في هذه الدول؛ ما يزيد من تنافسيتها.

وقبلَ الوصول إلى التعويم الكامل عام 2001 اعتمدت تركيا أنظمة سعر صرف أكثر مرونة، تقوم هذه الأنظمة على مراجعة سعر الصرف بشكل دوري، أسبوعي أو يومي، مع مراقبة التضخم في الدولة بالمقارنة مع الشركاء التجاريين الآخرين، بالإضافة إلى عدة عوامل اقتصادية أخرى، وتحديد سعر الصرف بحيث يؤخذ التضخم في الحسبان، أو عن طريق نظام آخر تُثبَّت فيه العملة تجاه عملة أخرى، مع السماح للعملة بالحركة ضمن حدود معينة، فيمكن أن ترتفع أو تنخفض بما لا يزيد عن 1% على الأقل من سعر العملة المثبت نحوها.

ومن الممكن زيادة مرونة نظام سعر الصرف بزيادة هذا الحد تدريجيًا، إلى أن يصل الاقتصاد إلى القدرة على الاستقرار، بحيث لا يتغير سعر صرف العملة بشكل كبير، دون المخاطرة باستنزاف احتياطيات الدولة في محاولة تثبيت سعر الصرف وصولًا للحظة انفلات الأمور، وتسجيل معدلات تضخم مرتفعة تصعب السيطرة عليها.

«الثلاثية المستحيلة» في الاقتصاد

علينا أولًا أن نبين مفهومًا اقتصاديًا يُعرف بـ«الثلاثية المستحيلة»، وهو مفهوم يشيرُ لاستحالة تحقيق الدولة لثلاثة أهداف اقتصادية معًا في نفس الوقت، وهي: 1) سعر صرف مستقر، 2) حرية حركة رؤوس الأموال، 3) سياسة اقتصادية مستقلة.

يستحيل عادةً الجمعُ بين تطبيق سياسات نقدية مستقلّة وبين استخدام سعر صرفٍ مُثبّت مع عملة أخرى.

يستحيل عادة المحافظة على سعر صرف ثابت – بالنسبة لعملة أخرى – وجمع ذلك مع القدرة على تنفيذ سياسة نقدية مستقلة باستخدام الدولة لمعدل الفائدة – الذي هو أهم أدوات السياسة – وغيره من أدوات السياسة النقدية لمحاربة التضخم الناتج عن ارتفاع الطلب، فعادة يمكن خفض الطلب برفع سعر الفائدة؛ ما يتسبب بارتفاع تكلفة الاستثمار والاستهلاك، وانخفاض الطلب نتيجة لارتفاع هذه الكلف، وفي الحالة المقابلة عند حدوث الكساد الناتج عن انخفاض الطلب يمكن للمركزي خفض سعر الفائدة مؤثرًا في الاقتصاد بالاتجاه الآخر.

إلا أن تثبيت سعر الصرف لسعر صرف دولة أخرى، يوجب على الدولة المُثبِّتة ربط سعر فائدتها بسعر الفائدة في الدولة المثبت نحوها، ليكون مساويًا له أو زائدًا عليه بقليل، بحيث يصبح سعر الفائدة في تركيا – مثلًا – يساوي سعر الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية + 4% على سبيل المثال، وللحفاظ على هذا الفرق الموجب أهمية كبيرة لجذب رؤوس الأموال الأجنبية لتشتري ودائع بالعملة المحلية ما سيزيد الطلب على العملة، ويمكِّن البنك المركزي من تنفيذ سياسته في تثبيت سعر الصرف.

إذًا فإن تثبيت سعر الصرف يعني عدم التمكن من تغيير سعر الفائدة، وهو أهم أدوات السياسة النقدية، والتغيير الوحيد الممكن على سعر الفائدة يكون بتغييرها في البلد التي تم تثبيت سعر الصرف إليه، وهذا يعني – مجازًا – استيراد السياسة النقدية في البلد المثبت إليه، فعندما يرتفع التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية – كما في مثالنا السابق – ويرفع الفيدرالي الأمريكي معدل فائدته، فإن تركيا في المقابل سترفع سعر فائدتها، ولو لم تُسجل تضخمًا، وقد تحتاج تركيا لرفع معدل الفائدة، ولا تتمكن من ذلك لعدم رفع معدل الفائدة في الدولة المثبت إليها، وهي الولايات المتحدة في مثالنا.

وحتى على افتراض أن الدورة الاقتصادية (التي تتبدّل فيها حالات الاقتصاد بين انتعاش مصحوب بالتضخم، وتراجع مصحوب بزيادة البطالة) في البلدين متطابقة، فإن الدولة المتبعة لنظام تثبيت سعر الصرف ستُبقي على معدل فائدة مرتفع بالمقارنة، مُضرةً بذلك بالاستثمار ورافعة لتكاليفه ومخاطر الاستثمار في كثير من القطاعات أو تمويلها، والإقبال أكثر على عدم توجيه الأموال في الاقتصاد نحو قطاعات إنتاجية، بل نحو قطاعات مضاربة وربح سريع، أو ودائع تمنح سعر فائدة مرتفع بالمقارنة بغيرها من الدول، مع ميزة التمكن من الحفاظ على سعر صرف مستقر.

ومن المُلاحظ أن الدول المتقدمة تتبع نظام سعر صرفٍ معوَّم، بحيث لا يتحكم البنك المركزي بسعر الصرف ويترك تحديده للسوق وتقلبات العرض والطلب، في مقابل أن الدول غير المتقدمة تتبع أنظمة سعر صرف أقل مرونة على اختلافها، وهذا يعني تمكن الدول المتقدمة من الحفاظ على التحكم بالتضخم وجعله مستقرًا، وصعوبة ذلك على الدول غير المتقدمة.

وقد ظهرَ نظامٌ كامل في نيوزيلندا عام 1988، يُعرف بـ«نظام استهداف التضخم»، هدفهُ الأساسي التخطيطُ لتحقيق معدل تضخم معين في الاقتصاد، واتبعت الكثير من الدول المتقدمة ذات النظام، حتى أصبح حجر الزاوية في السياسة النقدية، والسياسة الاقتصادية الكلية في أغلب الدول المتقدمة.

ومع أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعتمد نظام استهداف تضخم، إلا أن سياستها تعتمد على الحفاظ على معدل تضخم مستقر وجيد للاقتصاد، وتستهدف الدول المتقدمة معدل تضخم يدور حول 2%، ومن المهم الإبقاء على تضخم موجب لأن التضخم يعني نمو الطلب المهم لنمو الاقتصاد، ومن المهم أيضًا عدم السماح للتضخم بتجاوز حدود معينة (3% على سبيل المثال) لكيلا ترتفع التكاليف على المواطنين.

ما هو نظام «استهداف التضخم»؟

تعتمدُ الدول المستهدفة للتضخم تحديد معدل تضخم معين بشكل مسبق، ووضع نموذج اقتصادي كلي يُنشر للعامة ويُبيّن السياسة التي سيتبعها البنك المركزي للوصول لهذا المعدل المرجو من التضخم، بحيث لا تُساهم أدوات السياسة النقدية لوحدها في الوصول لمعدل التضخم المستهدف، بل يعمل النظام ليُحقق هذا التوقّع والمعدل المرجو.

فالأطراف المشاركة في الاقتصاد تعتمد على التوقعات الاقتصادية المستقبلية لتحديد تعاملاتها المالية، فإذا كانت سياسة البنك المركزي ذات مصداقية عالية في الاقتصاد، وكانت هذه السياسة متجهةً لتحقيق معدل تضخم معين، فبالطبع ستتأثر سلوكيات وخطط المُستهلكين والمُنتجين، لتصبح موازية لسياسة البنك المركزي، لكون توقعهم مطابقا للمعدل المستهدف، فتصبح الأنشطة الاقتصادية جنبًا إلى جنب مع السياسة النقدية محققةً لمعدل التضخم نتيجةً لتأثير البنك المركزي على التوقعات الاقتصادية، كل ذلك بخلاف الدول التي لا تعتمد نظام «استهداف التضخم»، والمُقيدة في استخدامها لأدوات السياسة النقدية في التحكم به، والتي تُراقب معدلات التضخم وترصدها وتنشرها في العام اللاحق.

ويحتاج أي بنك مركزي لثلاثة شروط أساسية للتمكن من تبني نظام استهداف التضخم، وليتمكن البنك المركزي من تطبيق سياسته النقدية، عليه أن يكون مستقلا عن السلطات الباقية، ورأينا مثلًا كيف أن البنك المركزي التركي كان مضطرًا لدعم السياسة الحكومية عن طريق تمويلها وإقراضها من موجوداته، بدلًا عن استخدام هذه الموجودات في تحقيق سياسة المركزي المستقلة.

وتجب المحافظة على الاستقلالية الإدارية للبنك المركزي، فمثلًا لا تعيّن الحكومة إدارته وتعزلها مجبرةً البنك على اتباع السياسة التي تناسبها بدلًا عن الأهداف التي يرسمها البنك المركزي لنفسه لاستهداف معدل تضخم معين، كما أن على البنك المركزي المحافظة على أعلى درجات الشفافية في نشر سياسته النقدية ورؤيته الاقتصادية للعموم دون إخفاء شيء من البيانات والمعلومات الاقتصادية، أو إبقاء السياسة المزمع تنفيذها دون إعلان؛ ما يسهم أيضًا في زيادة مصداقية البنك المركزي، ولكون إدارته ستحاسب في حال تحقيقها المعدل المستهدف، فإن ذلك يعني ارتفاع ثقة توقعات الفاعلين الاقتصاديين بالمعدل المُعلن عنه، مسهلًا بذلك تحقيقه على أرض الواقع.

رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا عامَ 2004، يستعرض تصميمات للعملة التركية الجديدة، بعد حذف ستّة أصفار منها. وفي الصورة الثانية يحملُ أردوغان العملة القديمة

ربما كان هدف اتباع هذا النظام في تركيا هو أن المشكلة الاقتصادية التي مثلت تحديًا أساسيًا للسياسات الاقتصادية كانت التضخم المرتفع والمستمر، إلا أن هذا لا يعني أن هذا النظام هو الطريق الوحيد للمحافظة على معدلات تضخم مستقرة، فلم تتبع كل الدول النامية مثل هذا النظام، ومع ذلك ظلت ضمن معدلات تضخم صحية – نسبة إلى طبيعة اقتصادها – كالاقتصاد الصيني الذي شهد تذبذبًا أقل في معدلات التضخم، وحافظ عليها ضمن معدلات 1.5 – 5% في أغلب السنوات بين 2004 و2020، وما زالت الصين رافضة لتعويم عملتها بالكامل، وإن كانت تتبع نظامًا أكثر مرونة من التثبيت الكامل باتجاه عملة أجنبية، بحيث يكون ثابتًا نسبيًا على المدى القصير، ومرنًا على المدى الطويل.

ظل الاقتصاد التركي معتمدًا على التدفقات الرأسمالية قصيرة الأجل من الخارج، لارتفاع عوائد الاستثمار قصير الأجل في الدول الناشئة، نتيجة ارتفاع سعر الفائدة، دونَ استثمار حقيقي طويل الأجل في الاقتصاد منذ الثمانينات حتى عام 2000، عام الأزمة الاقتصادية التركية، الذي شهد أزمةً في القطاع البنكي التركي، ووجدت بعض البنوك التركية صعوبةً في إيجاد السيولة النقدية وتمويل عملياتها اليومية، وبدأ بعضها بيع السندات الحكومية، بالإضافة لبدء المستثمرين الأجانب بسحب أموالهم من الاقتصاد.

وشهدَ الاقتصاد التركي خلال تلك الفترة تبدلاتٍ سريعة وكبيرة في الدورة الاقتصادية، ومعدلات تضخم مرتفعة لاعتماد السياسة الحكومية على التمويل من البنك المركزي من احتياطاته، بالإضافة لعدم كفاءة إدارة بعض الشركات التابعة للحكومة، وتمثل هذه الشركات جزءًا مهمًا من الاقتصاد التركي لتمثيلها حصةً كبيرة من ميزانية الدولة التركية وديونها، بحسب الباحث كوين برينك، الذي يوضح أن مقدمات تلك الأزمة ابتدأت بوقوع أزمات اقتصادية ضربت أسواقًا ناشئة أخرى، قبل الأزمة في تركيا بفترة قصيرة، وكانت هذه الأزمات تحديدًا أزمة الأسواق الآسيوية عام 1997، وأزمة الاقتصاد الروسي عام 1998.

أدّت هذه الأزمات لضرب ثقة المستثمرين بالأسواق الناشئة، وأثرت سلبًا على تركيا من ضمن هذه الأسواق، متسببةً بانخفاض تدفقات رأس المال من الخارج، والتي كان يعتمد عليها الاقتصاد بشكل كبير، ليتباطأ الاقتصاد وتقل ثقة المستثمرين الأجانب فيه، ثم جاء زلزال مرمرة الضخم عام 1999، والذي تسبب بمقتل 17 ألف ضحية، و45 ألف جريح، و200 ألف مشرد بلا مأوى، وخسارة اقتصادية قدّرت بـ20 مليار دولار وآلاف البيوت والمباني المدمرة بالكامل أو المتأثرة بالزلزال.

دفع الحدث الحكومة التركية لطلب مساعدة صندوق النقد الدولي، الذي موّل الحكومة بـ4 مليارات دولار عامَ 1999 لتخفيف الأزمة، إلا أنّ ذلك لم يكن كافيًا، ولم يتمكن الاقتصاد التركي من السيطرة على التضخم، قبل أن تضرب الأزمة القطاع البنكي الهش وغير المنظم، والمعتمد على الاستدانة بقروض قصيرة الأجل من الخارج لإقراض الحكومة بأسعار فائدة عالية لآجال طويلة.

ومع توقف التدفقات المالية من الخارج، انهارت تلك السلسلة معمقةً الأزمة أكثر في عام 2000، لتصل الأزمة إلى قمتها عام 2001، بارتفاع نسبة المديونية العامة من الناتج المحلي الإجمالي في ذلك العام إلى 74% بعد أن كانت 34% في العام السابق، وأصبحت تركيا مدينةً لصندوق النقد الدولي وحده بـ30 مليار دولار منذ 1999، وفي محاولات حل الأزمة خسرت العملة نصف قيمتها.

سياسة

منذ 4 سنوات
بعيدًا عن الافتراضات المسبقة.. هل صندوق النقد الدولي نعمة أم نقمة على الشعوب؟

وفي هذا السياق تبيّن أن السياسة النقدية في تركيا تحتاج إلى تغيير جذري، وأن من أهم أسباب الأزمة عدم تحديد هدف واضح للسياسة النقدية للبنك المركزي، الذي يُفترض به أن يخلق الاستقرار النقدي في الاقتصاد، وسببٌ آخر هو إرباك سياسته بأهداف متضاربة، نتيجةً لإشراكه في السياسات المالية للحكومة وتحديدًا عبر تمويلها، فلم يكن قرار التحوّل نحو سعر صرف معوم هو التغيير الوحيد في الاقتصاد التركي، بل أضيف نصٌ لقانون البنك المركزي ينصٌّ على أن الهدف الأساسي للبنك هو الاستقرار السعري، مع منح البنك المركزي الاستقلال في تحديد سياسته حسب تقديره وحده، ومنعه من تمويل خزينة الدولة أو أي مؤسسة عامة أخرى.

وفي ضوء كل تلك التغييرات تقرر تبني نظام استهداف التضخم بشكل ضمني عام 2002، وبشكل رسمي عام 2006، مع تغيير العملة عام 2005 بحذف ست أصفار منها وإصدار العملة التركية الجديدة، بالتوازي مع الاستمرار في خصخصة الاقتصاد و«لبرلته»، مع أنَّ نظام استهداف التضخم في تركيا ليس بالضرورة مطابقًا لنظرائه في الدول المتقدمة، إذ لم تحقق تركيا معدلات تضخم قريبة من 2%، بل استمرت بتحقيق معدلات تضخم مرتفعة نسبية، إلا أنّه وبالمقارنة بالفترات السابقة، فإن نظام استهداف التضخم أعطى الاقتصاد التركي استقرارًا على مستوى معدلات التضخم بشكل ملحوظ.

ونجحت السياسات الجديدة بالفعل في تخفيض معدل التضخم والمحافظة عليه عند معدلات منخفضة نسبيا، فبعد أن كانت تبلغ معدلات مرتفعة جدًا لأعلى من 100% كما في عام 1994، فإن هذه المعدلات انخفضت لما دون 10% في أغلب الأعوام ما بعد 2004، واستمرت مستقرة نسبيًا على معدلات منخفضة بالمقارنة بالمعدلات السابقة، حتى دخل الاقتصاد التركي أزمته الجديدة عام 2018.

بماذا تخبرنا الأزمة الاقتصادية الحالية؟

من الصعب تقييم تجربة الاقتصاد التركي بأكمله بالنظر حصرًا إلى السياسة النقدية في تركيا؛ لأنها لا تشكّل إلا جانبًا واحدًا من الاقتصاد، وبسبب تعقيد الاقتصاد وتشابكه، يمكنُ للسياسة النقدية أن تحقق هدفها الرئيسي بالحفاظ على الاستقرار النقدي دونَ أن يعني ذلك نجاح الاقتصاد أو تحقيق التنمية والنمو، وقد يتحقق النمو دون تحقّق التنمية لوجود عوامل ظرفية ومؤقتة ينتهي النمو بانتهائها، بل قد ينمو الاقتصاد بشكل مضطرد ولا يلمس الناس أثرًا لهذا النمو، وقد يكون النمو نفسه سببًا لسوء توزيع الدخل والثروة في الاقتصاد، وقد ظلت تركيا لفترة من الزمن نموذجًا لنجاح سياسات تحرير الاقتصاد، إلا أنّ التشكيك بنجاح هذا النموذج بدأ مع بداية أزمة العملة والديون التركية عام 2018.

ومع كل الإصلاحات البنيوية والجذرية في الاقتصاد التركي وسياسته النقدية، وبالرغم من اعتماد نظام نمو معتمد على التصدير، فإن تركيا لم تشهد فائضًا في الحساب الجاري منذ 2001، إلا في عام 2019، بقيمة بسيطة وشاذة عن السلوك العام للاقتصاد التركي الذي تتجاوز مستورداته صادراته في أغلب الأعوام.

وبطبيعة الحال فإن هذا العجز في الميزان التجاري يحتاج لتمويله من الخارج، بالإضافة إلى ضرورة وجود احتياطات بالعملة الأجنبية تكفي لتمويل مستوردات ثلاثة أشهر على الأقل (وفقًا لقواعد علم الاقتصاد)؛ ومع أن تركيا كانت تملك من الاحتياطات القابلة للتحويل من العملات ما يكفي بالضبط لذلك في عام 2020، حيث استوردت تركيا ما معدله 18.2 بليون دولار في الشهر، بينما كانت احتياطاتها القابلة للتحويل من العمل الأجنبية 55.6 بليون دولار، بحسب بيانات البنك المركزي التركي، ولكن قيمة احتياطي النقد الأجنبي أصبحت مسألةً خلافية في البلاد، وتُشكك المعارضة بشكل مستمر في صحة الأرقام التي يقدّمها البنك المركزي في هذا الصدد.

أما الدين الحكومي في تركيا، وهو أقل من الدين العام الذي يشمل أكثر من دين الحكومة المركزية وحدها، فبلغت نسبته 39% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع كونها نسبة مرتفعة فإنها منخفضة بالنسبة لكثير من الدول الأخرى، بالإضافة إلى أن النمو في الاقتصاد التركي موّلته بشكل أساسي الاستدانة الكبيرة من الخارج بالعملة الأجنبية، ما يسهم في انخفاض قيمة الليرة التركية، ويُصعّب على القطاع الخاص التركي سداد ديونه بالعملة الأجنبية في حين أن إيراداته بالعملة المحلية التي تتناقص قيمتها بشكل مستمر؛ ما يُوصل المشهد إلى تأثير تراكميّ يعمّق الأزمة ويضخمها.

كل هذه الإشكالات خلقت الظرفَ المناسب لتشكل الأزمة الاقتصادية، أما ما أطلقها ودفعها للأمام فكان الظرف السياسيّ المتمثّل بضعف استقرار الوضع السياسي في تركيا، أولًا إثرَ انقلاب عام 2016، وما تبعه من تحركات سياسية وعسكرية وردود أفعال، بالإضافة إلى التوتر السياسي الخارجي بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، وزاد الطين بلة تراجع السياسة التركية عن نهج استقلالية البنك المركزي.

إذ صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عام 2018، بأن «سعر الفائدة هو أب وأم كل الشرور»، رافضًا السماح للبنك المركزي برفع سعر الفائدة لمحاربة التضخم ووقف انخفاض قيمة العملة، متجاهلًا بذلك القواعد الاقتصادية التقليدية؛ ما يعني فقدان استقلالية البنك المركزي الذي توالى على إدارته أربعة محافظين مختلفين خلال فترة قصيرة بين عامي 2019-2021، تبعًا لخلافاتهم مع الرئيس أردوغان.

إن أحد أهم ما يذكره محللون اقتصاديون عن الأزمة في تركيا هو أن النمو الاقتصادي الممول بالديون – كما هي الحالة في تركيا – معرضٌ لمخاطر الانتكاس والتراجع من جديد، إلا أن هذه لم تكن الحالة دائما في التاريخ، فالاقتصاد الألماني عوَّض تخلفه عن بريطانيا وفرنسا في مجال مراكمة رأس المال بإنشاء نظامٍ بنكي قوي ومتين، موَّل الاقتصاد الألماني وحفّز نموه الاقتصادي، بعكس الاقتصاد التركي الذي يعاني من وجود قطاع بنكي هش وضعيف يعتمد على التمويل من الخارج بالأساس، مختلفًا بذلك عن التجربة الألمانية في تمويل الاقتصاد من الداخل، مع قطاع بنكي قوي ومتماسك.

ويمكن تصنيف دول مثل ألمانيا وتركيا ومعها عموم الدول الغربية ضمن خانة الدول التي تعتمد – بشكل عام – سياسةً نقدية محرّرة ومستقلة – بدرجات متفاوتة – وعلى الجهة الأخرى يمكن النظر أيضًا في تجارب مختلفة جوهريًا مثل التجربة الصينية، التي لم تعوّم العملة بشكل كامل، وأبقت على تدخل حكومي كبير في السياسة النقدية وتوجيه التمويل وتخطيطه، لخدمة الاقتصاد على المديين البعيد والقصير، متبعةً لسياسة نقدية مختلفة من حيث عدم تحريرها أو إعطائها الاستقلالية التي تتحدث عنها النظريات الاقتصادية الغربية السائدة في علم الاقتصاد.

ويمكن التلخيص بالقول إن الأزمة في تركيا أزمة بنيوية، ومع كل محاولات حلها بتغييرات جذرية كالتي أطلقت عام 1980 وعام 2001 على إثر الأزمات الاقتصادية التي حلت في تركيا، إلا أن كل ذلك لم يعنِ حل هذه الأزمات البنيوة للأبد، وقد يكون ذلك راجعًا إلى عدم الالتزام تمامًا بالحلول التي تم تقديمها واتباعها بشكل جزئي في السابق، مع تناقض القرارات الاقتصادية الحالية مع السياسات التي تم تبنيها رسميًا في السابق.

وزاد من حدة هذه الأزمة البنيوية ضعف الاستقرار السياسي والتشوّش في السياسات النقدية وتذبذبها فضلًا عن أن هذا التذبذب والتناقض السياسي أثر ويؤثر على عدم التمكن من الالتزام بوصفات السياسات المقترحة والمتبناة رسميًا، واعتماد الاقتصاد على عوامل قصيرة الأجل لملء عيوبه وثغراته، بدلًا عن حلها بشكل نهائي، ولن يكون الحل بالتالي حلًا قصير الأجل، فالأزمة في تركيا تتحدى أسس النموذج الاقتصادي وبناه التي قام عليها، ولن يكون الحل بالتالي إلا بنيويًا أيضًا.

ماذا تعني هذه «المشكلة البنيوية»؟ مثال عمليّ من الاقتصاد التركي

تتخذ تركيا منذ عقود سياسة «نمو مدفوع بالتصدير»، إلا أن أحد أهم الصفات الملازمة للاقتصاد التركي بقاء الميزان التجاري سالبًا (حجم الواردات أكبر من الصادرات) في جميع السنوات، باستثناء سبع سنوات في الفترة ما بين 1975-2020، ومع أن الصادرات نمت 3.8 مرات تقريبًا بين عامي 2000 و2020، إلا أن المستوردات نمت 5.15 مرات أيضًا.

كما أن المستوردات التركية من المواد الوسيطة (الداخلة في تصنيع غيرها من المواد المنتجة والمصدرة لاحقا) تمثل ثلاثة أرباع حجم المستوردات الكلي، وقد وجد باحثون من البنك المركزي التركي اعتمادية كبيرة من القطاعات المنتجة والمصدرة في تركيا على الاستيراد من الخارج، وأن النمو في هذه القطاعات المنتجة يعني زيادة المستوردات من الخارج.

وتركزُ الصادرات التركية على دول أوروبية؛ لأن المنتج التركي ينافس فيها، بسبب رخص كلفة العمالة مقارنةً بالعمالة في تلك الدول الأوروبية، ورغم ذلك تستورد تركيا من أوروبا أكثر مما تصدر لها، مع ملاحظة أنّ أهم القطاعات التصديرية في تركيا تعتمد على توظيف رأس المال أكثر مما تعتمد على توظيف العمال.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here