قراءة في برامج الأحزاب الخمسة المجازة ونشاطها وقواعدها الجماهيريَّة عودة الحياة الحزبيَّة العلنيَّة في العام 1946

قراءة في برامج الأحزاب الخمسة المجازة ونشاطها وقواعدها الجماهيريَّة عودة الحياة الحزبيَّة العلنيَّة في العام 1946

 د. حيدر شاكر خميس
 توقفت الحياة الحزبية في العراق منذ 17 اذار 1935، لكن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 كانت هناك عوامل داخلية وخارجية، دفعت صناع القرار السياسي في البلاد نحو السماح بتشكيل الاحزاب العلنية وحرية الصحافة والانتخابات البرلمانية، مشكلاً بذلك منعطفاً مهماً في التطور السياسي والفكري في تاريخ العراق الحديث، ولا يمكن تفضيل أحدهما على الاخر، لأن السبب يعود الى نضوج كلا العاملين الداخلي والخارجي، فقد كان الرأي العام العراقي تواقاً الى انتهاء ظروف الحرب العالمية الثانية، اذ قاسى كثيراً خلال تلك الحرب، فانعدمت الحريات الدمقراطية، وأعلنت الاحكام العرفية، وعدل الدستور لزيادة صلاحيات الملك بمنحه حق اقالة الوزارة عند الضرورة، وصدرت الانظمة التي قيدت الحريات الشخصية وحرية الصحافة، وارتفعت الاسعار وحدثت مشكلات تموينية حادة، اما العامل الخارجي فيتمثل في التغير الذي طرأ على السياسة البريطانية، لا سيما بعد تنامي نفوذ الاتحاد السوفيتي في المنطقة، حيث رأت بريطانيا انه يجب ألا يعطي اي مجال لتواجد نفوذ الاتحاد السوفيتي في المنطقة، ولأجل ذلك عقد في ايلول من عام 1945 مؤتمراً في لندن بحضور ممثلي حكومة بريطانيا في الشرق الاوسط، تم التأكيد فيها على استمرار النفوذ البريطاني في المنطقة، وان تتحمل بريطانيا مسؤولية الدفاع عنها، ودعا المؤتمرون الى حث الحكومات على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، الامر الذي يعزز الاستقرار الداخلي لبلدانها التي قد يدفعها النظام الاجتماعي المتردي للأصغاء للدعاية السوفيتية، وهذا ما يمكن استنتاجه من خطاب رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، الذي ألقاه في كلية وستمنستر في الولايات المتحدة الأميركية في آذار 1946، الذي ذكر فيه: {لقد خيم ظل ثقيل على المناطق التي أضاءتها انتصارات الحلفاء مؤخراً، وأن الشيوعيين أخذوا يضعون أيديهم على المراكز المهمة في بلد بعد آخر}.
تأليف الأحزاب السياسيَّة
بعد أن أسدل الستار على أحداث الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء، الذين يعدّون أنفسهم حاملي لواء التحرر والديمقراطية، وبدأ الانفراج في الوضع الذي كان متلبداً بالغيوم جرّاء هذه الحرب، وكان العراق قد اشترك فيها إلى جانب بريطانيا، وفقاً لمعاهدة التحالف لعام 1930، وقد نال ما ناله من جرّاء هذه الحرب منذ أن دخل طرفاً فيها عام 1943، وما أن انتهت الحرب بانتصار كفة بريطانيا ومن معها، عدّ النظام الملكي العراق ذلك نصراً له، ومن اجل امتصاص النقمة الشعبية والشعور العدائي للسلطة الناجم عن ثقل الضغط اثناء سنوات الحرب، وضرورة تغيير اساليب الحكم التي فرضتها ظروف الحرب، أعلن الوصي على عرش العراق (عبدالاله) في خطاب القاه امام مجلس الامة في 27 كانون الاول 1945 السماح بإطلاق الحريات وتأليف الاحزاب السياسية في البلاد.
 هللت الصحافة للمضامين التي جاء بها خطاب الوصي عبد الاله، حتى ان إحدى الصحف وصفتها بأنها شبيهة بإعلان المشروطية الذي تم في يوم 23 تموز 1908 عندما اعلن الدستور العثماني، ما شجع الكتل الوطنية على تقديم طلباتها لتأسيس أحزاب رسمية في البلاد، فأجازت وزارة الداخلية بموجب أمرها المرقم 4590 الصادر في 2 نيسان 1946 خمسة احزاب سياسية هي {الوطني الديمقراطي، برئاسة كامل الجادرجي، الاتحاد الوطني برئاسة عبدالفتاح ابراهيم، الاستقلال برئاسة محمد مهدي كبة، الاحرار برئاسة كامل الخضيري، الشعب برئاسة عزيز شريف. وكانت هذه الأحزاب السياسية المجازة تمثل التيارين الفكريين الإصلاحيين الناشئين في تلك المرحلة، الديمقراطي والقومي، اذ مثلت الاحزاب الثلاثة الأولى (الوطني الديمقراطي، الشعب، الاتحاد الوطني) التيار الديمقراطي، بينما مثل الحزبان الآخران التيار القومي. فقد عبرت هذه الأحزاب عن مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية، وانعكست في أدبياتها وبرامجها وتركيبها التناقضات الطبقية السائدة في العراق، معبرة عنها في أساليب نضالها ووسائل ممارستها، وكانت الأحزاب الثلاثة الأولى فروعا من جماعة الأهالي، التي ذاع صيتها ونشاطها الثقافي في الفترة سبقت الحرب العالمية الثانية، اذ كان الجادرجي وشريف وفتاح من زعماء الجماعة في تلك الفترة.
 كان الحزب الوطني الديمقراطي من اهم الاحزاب الخمسة، التي اجيزت وتكونت هيئة إدارية من سبعة أسماء فازوا بعدد الأصوات، حيث حصل هو على 760 صوتا وحسين جميل على 750 صوتا ومحمد حديد على 739 صوتا وصادق كمونه على 733 صوتا وعبد الكريم الازري 697 صوتا وعبود الشالجي على 525 صوتا، وفاز زكي عبد الوهاب على عبد الوهاب مرجان بالأصوات فاستقال الأخير منه، وأصدر جريدة الأهالي ناطقة باسمه، وطرح في برنامجه فكرة الإصلاح العام في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأكد ضرورة تحقيق حياة ديمقراطية برلمانية وزيادة الإنتاج وتوزيعه وتقليل الفوارق الاقتصادية، وغلب على الحزب الوطني الديمقراطي الذي قاده كامل الجادرجي طابع التعبير عن مصالح البرجوازية الوطنية عامة، وتميّز في بداياته بتحالف عريض من تياراتها، خاصة المساومة مع مصالح الإمبريالية ولعب زعيمه دورا في توجهاته وتطوراته، والتيارات الواسعة التي انضوت تحته، والتي تفجرت بانشقاقات يمينية ويسارية، كما أثرت عوامل دينية وقبلية في تركيبته السياسية، وخلال السنة الاولى بعد اجازته وصل عدد اعضائه الى ما يقارب 7 الاف، اغلبهم من الطبقتين الوسطى والعليا، كالتجار والملاكين الكبار والمحامين والمعلمين وطلبة الجامعات.
 اما حزب الاتحاد الوطني فقد عقد مؤتمره الأول في 28 نيسان 1946 وألقى عبدالفتاح إبراهيم خطاباً مطولاً عن أهداف الحزب وسياسته في الحقلين الداخلي والخارجي، ثمّ جرى انتخاب اللجنة المركزية، وبما أن الحزب لا يؤمن بالقيادة الفردية وإنما قيادته جماعية، انتخب عبدالفتاح إبراهيم رئيساً للجنة السياسية، بينما كان ناظم الزهاوي وناصر الكيلاني وعبد الله مسعود وموسى الشيخ راضي ومحمد صالح بحر العلوم اعضاء فيها، قد اتخذت الهيئة المؤسسة للحزب من جريدة (الرأي العام ) التي أصدرها الشاعر الجواهري لساناً شبه رسمي لها، لعرض آراء الحزب وفلــــــــسفته، وبعد استقالة الجواهــــــــري من الحزب وســـــــــحب جريدته استبــــــــدلوها بجريدة (السياسة) ثمّ بجريدة (صوت السياسة)، بعد إغلاق السياسة، وقد رأس تحريرها ناظم الزهاوي، وصدر العدد الأول منها في العاشر من كانون الأول من السنة نفسها، ودعا الحزب في منهاجه إلى توسيع مجال الحريات الديمقراطية، وإنشاء مجتمع مدني تلغى فيه جميع القوانين التي تحول دون ممارسة الأفراد والجماعات حرياتهم في الكلام، والصحافة، والنشر، والاجتماع، والجمعيات، والأحزاب، والنقابات، وحرية العبادة والمعتقد، وتعزيز استقلال القضاء، وتحقيق مبدأ الانتخاب الحر المباشر، وجعل التعليم الابتدائي موحّداً وإلزامياً ومجانياً، والعناية بالصحة العامة وضمان المعالجة المجانية للمواطنين، وتشجيع الصناعة الوطنية وحمايتها، والعناية بشؤون العمال والفلاحين ورفع مستواهم الاجتماعي والاقتصادي وحماية حقوقهم، وتوطين القبائل الرحّل ومساعدتهم على الاستقرار.
وبعد قيام عبدالفتاح إبراهيم بتشكيل (حزب الاتحاد الوطني) دعا إلى جمع العناصر الديمقراطية التقدمية في حزب واحد، لتحقيق المصلحة الوطنية التي يتصورها، أو التآزر بين الأحزاب الديمقراطية لتكوين جبهة موحدة، ونشر في سبيل ترويج هذه الدعوة سلسلة مقالات لتحقيق هذا الغرض، لكن هذه الدعوة لم تلق استجابة من أحد، فكانت نفخة في رماد، وبقي حزبه يعمل لحين قيام وزارة صالح جبر، إذ سحب اجازته بتاريخ 29 ايلول 1947 وأوقفه عن العمل، وبما أن الحزب لا يؤمن بالتنظيم السري والعمل بالخفاء، فقد توقف نهائياً عن ممارسة نشاطاته.
 أما حزب الشعب فقد عقد مؤتمره الأول في 26 نيسان 1946، انتخب فيه عزيز شريف رئيسا للجنة المركزية المكونة من: توفيق منير، عبد الأمير أبو تراب، محمد عبد الوهاب هندي، وديع طليا، خليل المهدي وعبد الوهاب الماشطة، وعمل معه عبد الرحيم شريف وعبد الملك عبد اللطيف نوري وكمال عمر نظمي وعباس بلال وحسين الشطري، وطرح شعارا {في سبيل حزب ديمقراطي واحد وجبهة وطنية موحدة من أجل تحقيق الاستقلال التام والأخوة الحقيقية بين جميع القوميات العراقية والتضامن مع البلاد العربية في كفاحها الوطني والجهاد لتخليص فلسطين من الاستعمار}.
حقوق العمال
 وشهد الحزب صراعا فكريا وسياسيا، تمكن فيه جناح زعيمه من الاستحواذ على إرادته، وإعلان ضرورة الاسترشاد بالماركسية وتمثيل الحزب للطبقة العاملة. ودعا الحزب في جريدته {الوطن} إلى النضال من اجل حقوق العمال وتوسيعها، والحق في تشكيل النقابات. وأشار في المادة السابعة من منهاجه إلى ذلك، مؤكدا على تسهيل قيام النقابات بواجباتها في تنظيم العمال وتفهيمهم حقوقهم ومساعدتهم على نيلها، وإيجاد التشريع الضامن لحياة العمال وتأسيس لجان تفتيش من العمال لمراقبة تطبيق تلك القوانين.
 اما حزب الاستقلال فقد كان يمثل مصالح البرجوازية وصغار الإقطاع والملاكين، وضم في قيادته نشطاء نادي المثنى وحركة رشيد عالي الكيلاني العسكرية عام 1941، خاصة العناصر المعادية للإنجليز، فضمت هيئته المؤسسة كلا من: محمد مهدي كبة، داود السعدي، خليل كنه، إسماعيل غانم، فاضل معله، علي القزويني، عبد المحسن الدوري، رزوق شماس وعبد الرزاق الظاهر، وقاد نشاطه إضافة إلى كبّة، فائق السامرائي ومحمد صديق شنشل، وعبّر الحزب في منهاجه عن الجناح القومي العربي في الحركة الوطنية العراقية. أصدر في 4 اب 1946 جريدته (لواء الاستقلال )، ودعا في برنامجه الى توطيد الحياة الدستورية الصحيحة في البلاد، من خلال اصلاح قوانين الانتخاب لجعل المجالس النيابية تمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً. الاهتمام بالمجالس البلدية والإدارية واختيار أعضائها بالانتخاب، اصلاح الجهاز الإداري والحكومي والاهتمام بأعداد وكفاءة الموظفين واللا مركزية في الإدارة. تعزيز القضاء وتوحيد الأنظمة وإصلاح القوانين وضمان سلامة تنفيذها والمساواة امام القوانين بالحقوق والواجبات والحريات العامة، وضمان تطبيق نصوص الدستور، وكان للحزب دور كبير في الحياة السياسية في العراق منذ تأسيسه في سنة 1946 حتى قيام النظام الجمهوري سنة 1958، من خلال اشتراكه في الحكومة او دوره في الدورات الانتخابية والبرلمانية.
 اما حزب الاحرار فتكونت هيئته المؤسسة من كامل الخضيري ومحمد جواد الخطيب، وداخل الشعلان ومحمد فخري الجميل، بعد ان اصبح كامل الخضيري زعيماً للحزب حتى ايار 1946، واصدر الحزب جريدة صوت الأحرار لتكون لسان حاله في 26 نيسان 1946، وضم الحزب الإقطاعيين وكبار البرجوازيين البيروقراطيين والليبراليين وشيوخ العشائر وعبر عن مصالحهم، المتوافقة مع مصالح البلاط، وعلى الرغم من قلة عدد أعضائه إلا انه كان يتمتع بنفوذ في الأوساط البرلمانية وفي الريف، ودعا الحزب إلى إصلاحات محدودة في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا شك أن وضع أعضائه الطبقي وعلاقة معظم قادته مع الاستعمار البريطاني له تأثيره في ذلك،
وانضم إلى الحزب توفيق السويدي وسعد صالح وآخرون من حكومة السويدي بعد خروجهم من الوزارة، ما عزز من مكانته سياسيا، لما تمتع بعضهم به من سمعة وطنية واهتمامات شعبية خلاف الأكثرية من قادته، إلا أن ذلك لم يدم طويلا خاصة عند خروج السويدي ومرض سعد صالح، واشترك الحزب في وزارة نوري السعيد التاسعة وفي لجنة الأحزاب العراقية للدفاع عن فلسطين، وأصدر جريدة له باسم (صوت الأحرار)، لكنه سرعان ما جمد نشاطه بالاتفاق مع الحزب الوطني الديمقراطي بعد وثبة كانون الثاني 1948، ولم يعد إلى الميدان السياسي بعدئذ.
 خلاصة القول: إن هذه التجربة الديمقراطية على الرغم من عمرها القصير الذي انتهى بعد وثبة كانون الثاني 1948 واعلان الاحكام العرفية وتجميد عمل الاحزاب، برهنت على قدرة الطبقة المثقفة في العراق آنذاك في التصدي للعمل السياسي، إذ إن هذه الأحزاب على الرغم من تشعب مطالبها واهدافها، إلاّ أننا نجد أنها دعت إلى ثورة إصلاحية تتناول شتى ميادين السياسة والاقتصاد، كما أنها عبرت في أهدافها عن متطلبات المرحلة التي ظهرت فيها، والتي تتطلب تعزيز الاستقلال والسيادة الوطنية، والعمل على إصلاح الأوضاع الداخلية المختلفة، وعلى الرغم من أن بريطانيا أبدت رأيها بهذه الأحزاب التي تشكلت، ووصفتها بأنها مجموعة من السياسيين الطامحين إلى السلطة، وأنها لا تشكل خطورة على نظام الحكم، لكن هذه الأحزاب استطاعت أن تلفت الأنظار، وتعبّر عن برامجها من خلال طرحها لضرورة تعديل المعاهدة العراقية – البريطانية لعام 1930، وكذلك تقليص النفوذ البريطاني في العراق والمنطقة العربية، ويمكن القول إن العام 1946 يعد البداية الحقيقية للحياة الحزبية العراق، حقق فيه الشعب مكاسب سياسية في التعبير عن حقه السياسي، وحرية نشر الرأي والانتماء، وعكست البرامج طبيعة التركيب السياسي للمجتمع العراقي وتشكيلاته الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن هذه الأحزاب ظلت تراوح في مكانها، ولم تسع إلى تطبيق برامجها وستراتيجياتها، وغلب عليها التردد في المساهمة الفعالة والنضال العملي في اشتعال فترات الأزمات، معبرة عن طبيعتها الطبقية واتجاهات قياداتها والانفصام بين المناهج والممارسات.
الصباح
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here