ثورة الزنج في العراق !

ثورة الزنج في العراق ! (*) د. رضا العطار

الغي الرق في القرن التاسع عشر ولم يعد الانسان سلعة يعرض في السوق ويفحص عن اسنانه ويشد جلده وتلاحظ سرعة جريه وجاذبية جسمة، ثم يقاس نبضه ثم يعين ثمنه كما يفعل بالحمار عند بيعه — والفضل في الغاء الرق يعود الى ارتقاء المجتمع البشري بتغيير اقتصادياته الانتاجية. وعلى هذا الاساس تطورت عواطف الانسان، وارتفعت الى انسانية جديدة لم يكن يعرفها جدودنا.

يعود الرق في الاصل الى الحروب. فقد كان الاسرى في العصور السحيقة يقتلون. ولكن وجد ان استغلالهم بالعمل في الزراعة او الخدمة في اي عمل شاق اكثر فائدة للمنتصر من قتلهم فأبقاهم احياء. ويبدو من كلمة – اسرائيل – ان معنى الرق قد اشتق من الأسر فالاسير هو العبد واسرائيل تعني – عبد الله – في اللغة العبرية.

كانت الامم القديمة تعتمد على العبيد باعتبارهم القوة المنتجة في البلاد. وهي التي اصبح مقامها في عصرنا آلات الحديد عند الامم المتمدنة وايدي العمال عند الامم المتخلفة.

ويدل قانون حمورابي في بابل حوالي 2000 قبل الميلاد ان المجتمع البابلي كان يتألف من الاشراف الذين لا يكدحون. والمساكين اي الصناع اليدوين. والعبيد اي الكادحين الارقاء.

والاغلب ان هذا النظام الاجتماعي كان عاما في جميع الامم القديمة. وكان العبيد يمثلون قوة اقتصادية انتاجية لا يمكن الاستغناء عنها. ولذلك لا نجد ان موسى او المسيح او النبي محمد كانوا يستنكرون الرق. هذا على الرغم من انهم جميعا كانوا ثائرين على المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها. وذلك لأنهم لم يستطيعوا ان يتصوروا مجتمعا يحيا بدون وجود الرق.

بل كذلك كان هذا رأي الفلاسفة الاغريق. وما نتباهى نحن به من انسانية قد سمت بنا عن الرضا بالرق، انما يعود الى وسائل الانتاج الجديدة التي جعلت آلات الحديد تعمل وتنتج اكثر مما ينتجه مئات العبيد. وهذه الآلات لم تكن معروفة عند الامم القديمة التي مارست الرق.

وليس من شك ان العبيد قد قاسوا ضروبا من القسوة من سادتهم. وفي الموقف الاجتماعي المحدد عنيت الاديان اكبر العناية بالمحافظة على صحتهم وتخفيف معاناتهم. ولكن يجب ان لا نبالغ في مقدار القسوة التي لقيها العبيد في العصور القديمة، ذلك لاننا نتكلم عنهم ونحن على وعي آخر هو عقل القرن الواحد والعشرين الذي عرف الحرية والاخاء والمساواة وحق تقرير المصير وسائر التطورات المذهبية والفلسفية التي تناقض الرق وتشجبه.

ثم ان العبيد انفسهم لم يكونوا على وعي بأنهم ولدوا احرارا. ويجب ان يكونوا احرارا. ولو انهم كانوا قد احسوا هكذا تفكير، لأثروا الموت على حياة الرق. ناهيك انهم نشأوا في مجتمعات تقول بالرق وتؤيده وتعين له نظما ترتب احواله. اي انهم كانوا ذاهلين، لايدرون حقوقهم البشرية ولم يخطر ببال احدهم احتمال فكرة التغيير ولم يحسوا بحقيقة واقعهم المر.

الاّ ان هذه الحالة كانت تنطوي ايضا على بعض الأستثناءات. فان هناك العبد الذي يتعلم ويحصل على الثقافة ما يلهمه الاحساس البشري، فيجد الحافز الى التحرر. وهذا ما نجده في الكثير من العبيد المثقفين الذين اشتروا حرياتهم من اسيادهم بالمال مثل ياقوت الرومي – ثم كان الاسراف في التأمل والانتباء الى الحقيقة التي تذكرهم بانهم كانوا من صنف البشر، ويمكن ان يكونوا منهم، وذلك كانوا يثورون.

وهذا ما وجدناه في حركة سبارتاكوس في ايطاليا 71 قبل الميلاد. فان الرومانيين كانوا يدفعون ببعض العبيد الى ساحة اولمبيا الرياضية ليصارع عبدا آخر، يقتله امام المتفرجين الذين يهتفون ويصفقون. وكان سبارتاكوس واحدا من هؤلاء. اذ كان عبدا مقدونيا، رفض ان يبقى كالخروف يربى ويسمن للذبح. وكان يعرف انه سوف يوجد من يقتله في النهاية دون شك. وكان تلميذا في مدرسة لتعليم المصارعة للعبيد في بلدة بادو، ففر مع سبعين عبدا آخرين. كانوا يتعلمون معه، وكانوا خليطا من الزنج والبيض والسمر من اسبانيا والسودان وسوريا ومصر ومقدونيا والمانيا ومراكش، فحضهم على الثورة واجتمع حوله من روما وسائر المدن والقرى الايطالية نحو مائة الف عبد، وجعلوا من قمة فيزوف البركان المعروف مركزا لأنطلاقهم، فصاروا يعيثون وينهبون.

لكن ثورتهم فشلت ذلك انهم كانوا من امم متفرقة ليس لهم لغة مشتركة تجمعهم، لغرض التعبير عن اهدافهم ولم يكونوا قد ذاقوا طعم الحرية والعمل المستقل. وبذلك استطاع الرومانيون ان يهزموهم وينتقموا من ستة الاف منهم حيث صلبوهم على اعمدة الطرقات العامة.

فكان تنكيلا فظيعا جعل العبيد راضين بالعبودية الفي سنة اخرى. ولم يبقى من قصة سبارتاكوس سوى الذكرى الاليمة التي يصبوا اليها الاحرار، يحسون لوعة الحرية المسحوقة في نفوسهم. كلما تذكروا هذه العاصفة. التي هزت ضمير الانسان في ايطاليا والتي انتهت بسيل من الدماء … دماء العبيد.

لكن بشهادة التاريخ يجب ان نتذكر ان سبارتاكوس وهو على رأس قواته من العبيد الثائرين، لم ينهزم امام الجيوش الرومانية بمقدار ما انهزم بتخاذل العبيد انفسهم.

فان هؤلاء المسحوقين من الرومانيين الذين كانوا في نفس حالة العبيد فقرا ومذلة، لم ينضموا اليه، لانهم نشأوا كما قلنا في مناخ خلقي اجتماعي يؤيد الرق. فالعبودية كانت ممزوجة في روحيتهم، فلم يتصوروا ولم يفهموا معنى الحرية كما انهم لم يجدوا لغة الثورة وكلماتها الملهمة التي تبعث في الانسان الهمة و الشجاعة وتعين الهدف فضلا عن قوة الاندفاع. فقد كان كل عبد يتسائل: ماذا افعل اذا صرت حرا ؟ ثم لا يعرف الجواب.

وفكر سبارتاكوس كثيرا في تحريك العبيد والفقراء والمحرومين من الرومانيين والفلاحين المطرودين كي يجعل منهم جيشا يحطم به الدولة الرومانية ويؤلف دولة جديدة يلغي فيها الرق. ولكنه وجد تبلدا. بل جمودا عاما من كل هؤلاء الا القليلين الذين رافقوه منذ ابتداء ثورته وتورطوا معه.

هكذا الّف الرومانيون جيشا لمحاربته. وكان يقوده كراسوس وهو رجل ثري ليس بالقائد الحربي ولا بالسياسي المحنك. ولكنه ثري فقط. يحس وجدان طبقته. ويلتهب من الغيظ لان الرق الذي تنبني عليه ثروته سيزول — وبقى سبارتاكوس يحارب وينتصر ولكن ليس الانتصار الحاسم الذي يقضي على فلول العدو. ومما اضعفه انه تردد بين ان يخرج بالعبيد الذين يؤيدونه الى خارج ايطاليا، وهناك البرابرة من الالمان والصقالبة ليؤسس دولة حرة وبين البقاء في ايطاليا محاولا ايجاد حكومة رومانية حرة بغير عبيد.

والرجل المحارب الذي يتردد في المغامرات يخسر على الدوام لان المغامرات موت او حياة ولكنها ليست بين بين.

وجمع كراسوس قواته ضد سبارتاكوس وانجلى الصراع وتحدد بين السادة الاثرياء من ناحية والعبيد المحرومين من ناحية اخرى. وحار سبارتاكوس ان يحتل جزيرة صقلية ويستعدي قراصنة البحر على الرومان، ولكن الرومانيين استعدوا له وقضوا عليه.

ولم تكن المسيحية قد ظهرت بعد، اذ انها كان يمكن ان يستنبط منها سبارتاكوس فلسفة الرحمة التي ربما كانت تزود الثائرين بالكلمات والافكار عن الاخاء البشري والتراحم والمساواة. وانطفأت الشعلة التي اضاءها سبارتاكوس وعاد الرق سيرته الاولى في روما وجميع انحاء الدولة الرومانية.

· مقتبس من كتاب الثورات للعلامة سلامه موسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here