الناجي الوحيد
فرات المحسن
للمرة الخامسة يأتون به إلى هنا، مشدوهًا متوترًا تدور عيناه برعب وقلق بين الوجوه وجدران البناية. خطواته كانت ثقيلة مرتبكة، وثوبه كالح مغبر. إبراهيم خضير عبد النبي جندي مطوع، قبل الحادث بثلاثة أشهر لا غير، هكذا ورد أسمه ووقائع خدمته العسكرية، في سجلات وزارة الدفاع، ومثلها عند مختار مدينته. اسم أمه نجية فزع هذال، وهو أبنها الوحيد على رأس ثلاث فتيات، وهي من ترافقه كل مرة حين يطلبونه للتحقيق.
في الغرفة ذات الجدران الكالحة الألوان، جلس مضطرب الفكر، يجول بنظراته الفزعة فضاء الغرفة. أمامه لوحة كبيرة خط عليها بلون ذهبي وعلى خلفية سوداء آية قرآنية. كل شيء سواها وكرسيين متقابلين ومنضدة عريضة، كان محتوى الغرفة الواسعة، التي تردد جدرانها صدى أصوات تهذر في الخارج.
جلس العقيد عند الكرسي المقابل، ببذلة جديدة مكوية ومنشاة،خلع غطاء الرأس ورماه إلى المنضدة، وراح يفرك راحتي يديه ويزفر متبرما.البارحة لم تكن ليلة ذات طعم، فقد أضطر لترك مجموعة الأصدقاء قبل الساعة العاشرة ليلا، دون أن ينال منهم ما يشفي غليله، مثلما كان يأمل حدوثه كما الليالي السابقة، وأضطر لتناول عشائه في مطعم رديء الخدمة عند نهاية شارعهم، بعد أن أخبرته زوجته هاتفيا بطلب والدتها وأخواتها المبيت عندهن فوافقتهن، وتذكرت مع كلمات خجولة ومتسرعة، بأنها نست أن تعد له الطعام.
ـ هيا أخبرني، ما الذي حدث يا إبراهيم، أين كنت حين حدثت المجزرة؟ لا تخف حدثني بالتفصيل. لن يؤذيك أحد.
هكذا بادر العقيد بطرح أسئلته. كان يرغب بالحصول من إبراهيم خضير على معلومة تفيد التحقيق، حول ما حدث هناك، ليعد تقريره، الذي وعد به مرؤوسيه عن طبيعة الحادث الجلل.
ـ لقد سحبونا جميعا، هرولنا، أوقفونا بالطابور، كان ذلك يوم الخميس في مدرسة طارق بن زياد الابتدائية، كنت أقف نهاية الطابور من الصف السادس، وكانت ساعة رفع العلم. وقفنا صفا واحدا ننشد للعلم، فجأة زمجر الرصاص، فار الدم وغطى كل شيء، كان جسده ثقيلا حين هوى فوقي، غطاني بالكامل وسال دمه فوق وجهي، وما لبث أن صمت كل شيء، ولم أعد أسمع نشيد رفعة العلم.
ـ حسنا أبني ..هل شاهدت وجوه من أطلق عليكم النار، ألم تتعرف على أحد منهم؟
ـ كنا لاهين ننشد نشيد رفعة العلم.
ـ يا ابني أي رفعة علم تتحدث عنها. حدثني عن المجزرة التي حدثت لك وللآخرين في معسكركم خارج المدينة، انتبه لي جيدا، حاول أن تتذكر.
قالها وهو يبتلع ريقه الجاف، وينظر نحو زجاج الباب، حيث عيون الجنود تتلصص بين فينة وأخرى.
ـ كنت عند نهاية الطابور الذي رصفونا فيه، انطلقنا ننشد نشيد رفعة العلم، ثم لم نسمع غير صوت الرصاص.
ـ ولكن هذا لا ينفع في شيء، انتبه لي جيداً وحدثني عن واقعة المعسكر، ما الذي تتذكره منها.
قال العقيد جملته متبرما، وبجزع ظاهر أشعل سيجارة أخرى، وراح ينفث دخانها بعجالة وغضب.
ـ كنت أقف نهاية الطابور في الصف السادس في مدرستنا مدرسة طارق بن زياد يوم الخميس، رفعنا العلم وأنشدنا، ثم أمطرت السماء رصاصا، بعدها غطانا جميعا دم أحمر قان، فلم أستطع إكمال الإنشاد مع أصحابي.
مثل المرات السابقة دعك العقيد سيجارته بكعب حذائه وصاح مناديا الحرس.
ـ تعالوا خذوه إلى عائلته، لا نفع يرجى منه.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط