حياة العشق العاهر عند اورو صاند، الأديبة الفرنسية

حياة العشق العاهر عند اورو صاند، الأديبة الفرنسية * بقلم د. رضا العطار

لم يكن لأورو ساند هوى واحد وانما كانت لها اهواء. تتحول من عشق الى آخر وتتنقل من خليل مملول الى طريف محبوب، لا تمضي عليه برهة حتى تصير طرافته سآمة وحبه عذاب. وكان لها قدم راسخة في الكتابة، خاصة في الفن القصصي. الذي كانت تحاول ان تنافس الأديب الشهير فيكتور هيغو، الذي اتسم اسلوبه بالصناعة اللفظية والميل الى التضخيم في وصف ابطال قصصه. بينما ساند، كانت كاتبة ملهمة تصف الناس كما هم وتخطط اخلاقهم تخطيطا صحيحا. فإذا قرأ الانسان احدى قصصها شعر انه في وسط اناس يعرفهم، يقرأ ما في قلوبهم، يتطلع الى سرائرهم في احاديثهم وسلوكهم .

ولدت ارورو ساند عام 1804 اي في اعقاب الثورة الفرنسية وفي السنين الاولى من حكم نابليون. كان ابوها ينتمي الى اسرة نبيلة في حين ان امها كانت من العامة، ولذلك

رفضت جدتها النبيلة ان تستقبل هذه المرأة في بيتها. ولكن الجدة عنيت بتربية اورو وعينت لها معلما خاصا ثم ارسلتها الى مدرسة ملحقة بأحد الاديار في باريس. اتقنت خلالها اللغة الفرنسية وانكبت على قراءة آدابها القديمة والحديثة.

وقد نشأت اورو على اذواق شاذة غريبة قلما تنشأ عليها الفتيات. وكان لها اخ غير شرعي تعلمت منه ركوب الخيل. حتى لهجت الالسنة في انتقادها. تزوجت من رجل مزارع، زواج المصلحة لا الحب ورزقت منه اربعة اولاد. ثم سئمت الحياة منه، ولم تكن ترى فيه شيئا من رقة الطبع وذكاء القريحة وتنبه الفكر، وهي صفات كان لها منها حظ كبير في نفسها. وكانت هي في حديثها تميل الى الفكاهة والمداعبة بينما كان هو يكره ذلك. وفي احد الايام حدث بينهما جدال صاخب انتهى الى ضربها. فكان هذا العمل كافيا لقطع علاقتها الزوجية.

فتركت له الاولاد وذهبت الى باريس و بدأت تشتغل في امور كتابية في جريدة بأجور بسيطة. و عرفت الحي اللاتيني، موطن الادباء، فنفضت عن نفسها جميع اللياقات السائدة في مجتمعها و التي يحتمها العرف الاجتماعي على النساء. فلبست لباس الرجال، وتخلقت بأخلاقهم وعاداتهم، تتردد على المقاهي والحانات، تشرب النبيذ الساخن وتدخن السيكار الكبير، حتى بدأ الجمهور الباريسي يناديها جورج ساند.

عشقت صحفيا صغيرا تكبره سبعة سنوات، جمعت بينهما اواصر الصحافة، يدعى جول ساندر، فما هو ان جثا امامها مرة يطلب منها ان تمنحه حبها، حتى لبت طلبه. وقام في نفسها له هوى ربما كان اول اهوائها، فقد استسلمت للحب وانتشت به والتذته حتى كتبت في ذلك تقول: ( اني اود ان اشعر بهذا العشق – عشق الفرح بالحياة، هذا الاحساس يجري في عروقي، ما احلاها وما اطيبها، ان الحياة مسكرة حقا، وهذا العشق هي السعادة، هي السماوات والارضين)

ونجحت صناعة القصة عندها الى درجة لفتت انتباء النقاد و الادباء، حتى عرضت مجلات لها اسمها ان تكتب لها وتنشر مقالاتها. وكان اهم ما يجذب النظر الى قصصها انها كانت تدعو الى – الحب المطلق – وتدافع عنه ، وقد شاعت عنها عبارة قالتها عقب انفصالها عن زوجها الأول وهي ( ليس هناك ما يسوغ للأنسان ان يمتلك نفس انسان آخر، مثلما ليس له الحق ان يمتلك العبد ) وكانت تقول: ( ان العشق يقدس الرابطة بين الرجل والمرأة ) وان ( الحب يعطي، اما الشهوة فتأخذ )

في ذلك الوقت كانت اورو في السابعة والعشرين ولم تكن جميلة وانما كان فيها شيء من الملاحة والخفة فضلا عن النحافة وكان في حركاتها، رشاقة تفتن الناظر اليها، فيها مقدار من الخوف والخجل، فإذا تكلمت، سقط حاجز الخجل ، واذا اثيرت، تكشفت شخصيتها عن طبيعة، تطفح بالمشاعر الحسّية بدون حدود، تواقة الى بذلها بسخاء.

ثم تعرفت على الكاتب القصصي – دوموسيه – وكان غاية في الجمال والذكاء، كانت اورو تكبره بسبع سنوات ايضا. وتعلق كل منهما بالاخر وذهبا الى احدى ضواحي باريس وقضيا شهر العسل دون زواج. بعدها رحلا الى مدينة البندقية في ايطاليا حيث استأجرا مسكنا فيها واقاما مدة قصيرة انتهت بقطيعة عاجلة، كان سبب ذلك ان العشيق قد اصيب بمرض، وعلى اثرذلك استدعت له طبيب لمعالجته، ولما لم يكن حب اورو لعاشقها الا حب الشهوة، وقعت اورو في عشق الطبيب الذي سرعان ما انغمسا في العواطف الجنسية، فتركت حبيبها السابق دوموسيه في البندقية وسافرت مع العاشق الجديد الى باريس.

وعندما شاعت فضيحة نزواتها الاخيرة، انحطت سمعتها، وهبطت منزلتها الاجتماعية في فرنسا الى الحضيض، وخاصة بين اهالي باريس بسبب المسلك السافل الذي سلكته، فتحامى الادباء والفنانون من مراودتها، وابتعدوا عنها، وحاولت اورو ان تتصيد قلب زميلها فيكتور هيغو، فأبى، وحاولت مع غيره، لكنه قهقه في وجهها.

وقبل ان تشعر بان سوقها في قصص الحب اوشك على الكساد، نالت حظوة في عيني الموسيقار البولندي العظيم شوبان، فعاشت معه ثماني سنوات، وعندما زارا جزيرة مايوركا في البحر الابيض المتوسط لقضاء عطلة الصيف، اصيب الموسيقار بالسعال، فتركته مبتعدة عنه (لئلا تصاب منه). وقطعت علاقتها به — لكن شوبان، الفنان الكبير كان مخلصا في حبه وحريصا في الابقاء على العلاقة العاطفية مع عشيقته اورو، لأنه كان أمينا وصادقا في مشاعره واحاسيسه تجاهها، حيث انه بقى يحبها، لا في حياته، بل انما في (مماته) — كذلك .

وقي هذا السياق يقول الدكتور رضا العطار : خلال اقامتي الطويلة في المانيا في منتصفات القرن الماضي قمت بسفرة الى بولندا مع جمع من السواح الاجانب وكان (ضريح) شوبان، ضمن برنامجنا السياحي. وحينما بلغناه وجدنا انفسنا امام هضبة عالية من الزهور النضرة زاهية الالوان، تنثرعلينا شذرات عطرها الفواح، شاركت في تهيأتها محافظات بولنده بأجمعها، تمجيدا لفنانهم العبقري شوبان. وقد بُني داخل هذه الهضبة حجرة صغيرة يتوسطها جهاز البيانو الذي كان الموسيقار يستعمله بنفسه قبل قرنين من الزمان.

وبعد برهة من الزمن ظهرت سيدة بهية الطلعة وقورة الخطى في سن الخمسين وهي احدى حفيدات شوبان وجلست الى البيانو، بعد ان حيّت الجمهور و رحبت بهم ، بدأت بعزف احدى Sonatas لشوبان، فساد الصمت وعمّ الهدوء. وبدأ الجمهور يستمتع الانغام الموسيقية العذبة بشغف ولهفة و التي كانت تنساب اليهم ناعمة شجية. ومما زاد المقام روعة وحبورا، ظهور سرب من الفراشات البيضاء، وهي تحوم فوق هضبة الزهيرات عاليا، متناغمة في دورانها مع انغام الموسيقي.

وبعد الانتهاء من العزف، صفق الجمهور طويلا مستحسنا الاداء الفني الرائع.

تقدمت نحو السيدة العازفة لأشكرها على جميلها وانا مغتبط لما وجدتها تتكلم الألمانية، باديا لها اعجابي الفائق بالعزف الطريب. وعندما اخبرتها عن سروري في وجود الفراشات، ابتسمت وقالت : وهذا رأيها طبعا :

( ان الفراشات هذه تجسد روح شوبان، تظهر دوما لتحيي الضيوف ).

وعندما سألتها عن موضع القبر؟ اجابت: بعد ان اشارت بيدها، انه هناك تحت البيانو، تحت البيانو بالضبط ولكن، ثم سكتت، قلت: ولكن ماذا ؟ قالت لي في همسة واستحياء، بعد ان اخفت ابتسامتها (لكنه بدون قلب). وعندما لاحظت على وجهها ملامح الجد. قلت لها وكيف ؟ قالت:

( لقد اوصى جدي شوبان وهو في فراش مرضه يحتضر بان يُنتزع قلبه من صدره لحظة موته ويُرسل الى باريس ويُدفن بجوار قبر عشيقته اورو ساند ).

(مقتبس من كتاب الحب في التاريخ لسلامه موسى. مع تعليق لكاتب السطور).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here