حسناء الفيس الساحرة : قصة قصيرة

حسناء الفيس الساحرة : قصة قصيرة

بقلم: مهدي قاسم

فجأة ارتسمت أمامه على شاشة الحاسوب شفاه مكتنزة ومخضبة بقرمزية قانية و مترعة بشهوانية حارة ، ثم بعد ذلك بلحظات أرسلت له تلك الشفاه المجهولة و الطارئة قبلة طويلة وملحة ، بحجم قلب كبير ، قبلة عارمة وساخنة كانت من شراسة لحد أبعد وجهه عن الشاشة مرتبكا و حانقا بعض الشيء ، و أعقبت تلك القبلة كتابة عبارة مستعجلة :
ـــ هذه القبلة النارية لك أيها الولد الخجول ..عربون حب قادم لا محالة !.. حب مجنون سيؤدي بنا إما إلى الداهية أو إلى أعلى الأعالي لتكون أنت نسري الجميل و أنا حمامتك الوديعة والحلوة الرقيقة !..
ولكنه بدلا من رد أو تعليق سارع و حذف القبلة والكتابة وعلامات الانزعاج لا زالت باقية على ملامح وجهه المتجهمة ..
ولكن في هذه المرة ظهرت له صورة فتاة أو امرأة شابة بملامح وسيمة توحي بالأنوثة مع شفاه مكتنزة ترتجف شبقا مكتوما ، بشعر طويل ينبسط على كتفيها مسترسلا كذيل فرس طويل وكثيف ، فكتبت :
ــ أنا حقا أموت من أجل رجال خجولين ، الذين تصعد الحمرة القانية على خدودهم من شدة الخجل ، وهم يرون امرأة تغازلهم أو تتعرى أمامهم في خلوة منفردة ودافئة بين ظلال عتمة مخيمة بشحة نور خافت .. فأنت من هذا النوع من الرجال : طفل كبير يحلم بحضن أمه دوما وعلى طول الخط ، بينما هو يرغب النساء على بعد بعيد .. فما أن تقترب منه فتاة حتى يُصاب بهلع و فزع ..فيا حبيبي ! ..الرجل الخجول و الجبان لن يحظى بنساء جميلات أبدا ..
حرك أصبعه لكي يحذف الفقرات المتساقطة بسرعة عجيبة ، ولكن ثمة فضولا منعه من ذلك ، بل دفعه إلى أن يكتب سائلا :
ــ وأنتِ ؟ .. حضرتك الموقرة ( لا نعرف هل كتب عبارة ” حضرتكِ الموقرة ” تلك ساخرا أم احتراما ) من أين تعرفين كل ذلك ..
ـــ هههه .. إنه سؤال كان متوقعا على أية حال !.. أنا أعرف عنك كل شيء !.. بل أحيانا أضبطك ممارسا حتى العادة السرية في الحمام ! .. هههه.. فأليس من الغبن الكبير أن يكون العالم مكتظا بملايين الفتيات العازبات و الحالمات بفارس أحلامهّن و بالنساء المطلقات والمهجورات و المستوحدات ، و اللواتي يحلمّن برجال يطقطق عظامهن بأذرعهم المفتولة ، بينما أنت تهدر طاقتك وحيدا مستوحدا كناسك ممسوس .. أراك تنوي الهروب مرة أخرى .. و هذا ليس من شيمة رجال شجعان !.. أ إلى هذا الحد تجعلك الحقائق قلقا، مضطربا ؟ .. ولكن الهروب لن تحل المشاكل العالقة يا حبيبي ! ، فهذه الحقيقة معروفة لأغلب الناس في العالم !.. فأبق ثابتا و راسخا كما الشجرة أمام ريح عاتية !..
فكتب هو مستاء وهو يمسح جبينه من بعض قطرات العرق مع أن الطقس كان باردا جدا :
ـــ إنشاء سخيف ومكرر !.. حقيقة أنتِ كلما في الأمر تهرجين لا أكثر .. و لا من الممكن أن تعرفي عني أي شيء يُذكر .. و أخيرا لا تقولي لي يا حبيبي ـ لأن سوقية و مبتذلة مثلكِ لا يمكن أن أكون أنا حبيبها !..
جاءته موجة من ضحك عميق وبنبرة مسالمة و متسلية ، حتى لم يكن ليخطر على بالها زعل أو استياء من نبرةالازدراء :
ـــ هل قلتَ أنا لا أعرف عنك شيئا ؟ .. و هل فعلا تعدني مجرد مهرجة ؟. طيب إذن فماذا تفعل صورة هيفاء وهبي شبه العارية على أحد جدران حمامك بنهديها النافرين ؟.. و شيء أخر : ألا توجد شامة على صدرك الأيمن على شكل موز ؟ .. لأن أمك كانت حاملة بك عندما رغبت هي بالتهام شيء من الموز !.. وكما ترى إنني أعرفك جيدا حتى من خلال تفاصيل جسدك ؟.. فمثلا ظهرك مشعر بشكل يوحي كما لو كنتَ حيوانا بريا أليفا !.. فلديّ كامرتي الخفية يا صديقي!.. ولكن لا تبتئس !..فأنا يعجبني الرجل مشعر الظهر و الفخذين لأنه يحسسني بكل ما هو بدائي الذي يوحي بغموض و طقوس وحشية محببة !..
و بينما هو كان ينوي إغلاق الجهاز نهائيا ، لقطع الطريق على هذه المخلوقة الدخيلة والملحّاحة ة جدا ، فإنه عدّل عن ذلك ، لأن المعلومات التي أدلت بها تلك المخلوقة الإنترنتية عن شخصه كانت معلومات صحيحة ودقيقة إلى حد ما ، فاحتار مبهوتا ، و مشدوها ، إذ بدت تلك المخلوقة الغريبةكما لو كانت قد عاشرته ردحا من الزمن كزوجة أو شيء من هذا القبيل ، بينما ، وهو على الرغم من أنه قد تجاوز الثلاثين فلم يقترب من امرأة أو يذق طعمها الأنثوي اللذيذ والعذب .. فكيف ممكن هذا ؟ .. تساءل مع نفسه مستغربا ..ومن ثم صورة هيفاء وهبي نصف العارية وهي تتدلى معلقة على أحد جدران الحمام في إثارة تجعل حتى القديسين يلثمون نهديها المندلقين بإثارة واهتياج مصعوقين !..
هل هي قالت له ذلك أم هو تخيل الأمر على هذا النحو ؟ ..
من شدة بهوته و استغرابه أخذ يحرك ويهز ركبته بضراوة وكأنه في رقصة قبائل همجية ، وقد ازعجه أن تتعرض أسراره الخاصة والصغيرة إلى كل هذا الانتهاك والعري والهتك الفظيع :
ــ فهل معقول أن نصبح عراة وسفورا مع أسرارنا وخصوصيتنا الخاصة أما أناس غرباء وفضوليين ،وإلى هذا الحد الفادح ؟..
سأل نفسه بصوت عال دون أن يفطن إلى ذلك ، حتى سمعته آنسة الإنترنت فردت ” هي ” بسرعة كما لو كانت تنظر منه هذا السؤال على وجه التحديد :
ــ بالطبع ! ..فلكل شيء ثمنه .. فلا يمكن للعالم أن يتطور بهذه الصورة المذهلة دون أن يدفع ثمنا باهظا من خصوصياته وأجزاء حميمية من روحه .. ولكن دعنا من هذا التفلسف البارد و غير المجدي ، يا حبيبي الغالي !.. فقل متى سنلتقي قريبا ، فأنا حقيقة أتحرق شوقا لهذا اللقاء !.. فسوف ترى كيف سأمتص نسغ عظامك الهشة ،.. هههة .. أنا حبيبتك الحيرانة والملتاعة والمهتاجة والظمآنة شوقا وقربا ! ، ومن ثم سأختفي فجأة قبل أن تملني أو تضجر مني .. فأنا لا أحب أو أكون عبئا على أحد ما .. فهذه هي حسنتي الوحيدة بين سيئاتي الكثيرة والعديدة .. فسوف تبحث عني وتسأل كمجنون ليلى : أين راحت حبيبتي آنسة الإنترنت ، حبيبتي الحلوة و اللذيذة كطعم المشمس والعطرة الفواحة كريحانة الينابيع وهيل الأسحار البهيجة ؟ ..فأنا أريدها ولا يمكنني العيش بدونها ؟.. ثم تبكي بحثا عني ، طبعا، بدون أي جدوى !.. فآنذاك سأكون قد رحلتُ بعيدا ، بعيدا جدا ، ربما ، نحو كواكب أخرى .. لكي لا يدركني الملل المميت من خواء هذا العالم المتفاقم !..
مكث صامتا لبعض الوقت ، كأنما ذخيرة الكلام والتفكير قد نفدت من جعبة ذهنه ، ربما بسبب حيرته من الأمر برمته ، فلولا الشامة الممتدة عند صدره الأيمن وصورة هيفاء وهبي المتدلية بكل تحد سافر، لاعتبر الأمر مزحة أو مشاكسة مزعجة أو محاولة إستهبال من قبل أحدهم ، فوجد أن أفضل حل لكل هذه الإشكالية هو أن يغلق جهازه لبعض الوقت ..
وُطفئت العين الخضراء بنقرة مستعجلة ..
ولكن دون أن تمضي بضع دقائق حتى عاد الجهاز ليشغل نفسه بنفسه كأنما ثمة قوى خفية تدخلت في الأمر ، ولتظهر الصورة مجددا ل”آنسة الإنترنت ” وهي تقول له بلطف :
ــ كلما في الأمر أردتُ أن أقول لك مودعا : مع السلامة يا حبيبي .. فيليق الوداع حتى لو كان الفراق قصيرا ، وخاصة بين المحبوبين و العشاق المتلهفين !..
وكم كانت دهشته كبيرة عندما وجد نفسه يرد عليها ساهما :
ــ مع السلامة !..
و سرعان ما أدرك بأنه قد دخل اللعبة سهوا أو بدافع الفضول ، ولكن الذي هاله أكثر هو قيام الجهاز بتشغيل نفسه بنفسه !..
فكيف يمكن أن يحدث هذا ؟ ..
فأغلق الجهاز مرة أخرى بنقرة قوية وحاسمة..
ولكن بعد لحظات قليلة رجعت العين الخضراء تومض مجددا بعد تموجات راقصة من ضربات حمراء خاطفة كبرق باهر ، وما هي إلا ثوان وإذا ” بها ” تظهر مرة أخرى لتقول :
ــ عفوا !.. نسيت أن أقول بأنني من المحتمل سأزورك الليلة إذا أنهيت أشغالي مبكرا وفي وقتها المناسب .. مع السلامة ..
انتابه انزعاج جديد بسبب هذا الإلحاح والنبرة المتحدية وكذلك بسبب هذه الثقة المفرطة بالنفس : “من المحتمل سأزورك الليلة ” .. فهي لا تستأذن ، وإنما تقول ذلك كأمر واقع وتحصيل حاصل غير قابل للشك أو للمراجعة أو الرفض.. كما لو كنت عبدا لها ..
فأغلق الجهاز للمرة الثالثة متهيئا ، واقفا بالمرصاد ليغلق الجهاز فيما إذا شغل نفسه بنفسه من جديد ..
ولكن الجهاز بقي هادئا وساكنا و كذلك العين الخضراء بقيت منطفئة بمعتمة ملحوظة .. ليكتشف بأن الوقت قد مضى وانقضى سريعا ، وأنه أخذ يشعر بإنهاك و بخوار قواه الروحية والجسدية ، فرغب بالتمدد على فراشه لاستعادة حيويته المسلوبة من قبل هذه ” الآنسة” المدعية والمشاكسة ، وأخذ يتفرج على شاشة التلفاز وكم هاله أن يرى هيفاء وهبي تغني مندفعة بنهديها المكتنزين بحركات مثيرة ، فاستغرب هذا التوقيت والترتيب والصدفة الغريبة ، كأنما ثمة تآمرا بين الاثنتين قد نُسجت فجأة و بخفاء كامل بغية إرباكه و اضطرابه ، غير إن نظره بقي مشدودا على الشاشة حتى كّل و تعب وتخدر كأنما وسط أمواج دافئة و ….
و فجأة أخذت العين الخامدة للجهاز تومض من جديد بضربات قوية وتكتكة سريعة ومتراكضة ، حتى اهتز الجهاز كأنما هزوه هزا عاصفا ، و انشقت الشاشة فخرجت منها امرأة كانت ملامحها تشبه تماما ملامح ” آنسة الإنترنت ” تلك التي ودعته قبل ساعات قليلة ، كانت ترتدي قميص نوم شفافا حريري الملمس أبيض اللون ولكن بذيل طويل جدا و بلا نهاية ، وكانت تتقدم نحوه دون أن تتعثر بذل ثوبيها ، والظلال تتكثف وتمتد حولها حيثما تخطو بقليل منتخبط ، وبدت الأشياء وكأنما نامت جميعا في عالم مقفل وخامد ، يا لهذا السكون الرائع ، وفي هذا الوقت البهيج بالذات !، فكر مبتسما ، بينما أنا فكرتُ بأنها تمزح معي أو تتسلى لتمضية الوقت أو السخرية من الرجال أو تنصب عليهم بدافع الابتزاز وكسب المال ..
فأراد النهوض لكنه شعر بأنها تضع يدها فوق رأسه طالبة منه البقاء كما هو ، فبقي كما هو !، و بما أن صوته كان غافيا أيضا فصاح بأعلى صوته هاتفا بترحاب حار:
ــ يا أهلا بهيفاء !.. و مرحبا .. في الحقيقة ما كنت لأصدق بأنكِ ستزورنني هكذا فجأة !.. لأن أمرا كهذا لا يحدث إلا في الحلم !..
فسألته هي مستغربة وبشيء من الفتور:
ــ هيفاء ؟ .. عن أية هيفاء تتكلم ؟ .. ألم تر أنني لست هيفاء وإنما أنا أنا ونقطة !، لقد وعدتك بالمجيء وها أنا ذا ! .. بينما كنتَ تنتظرها هي أليس كذلك ، نعم ؟ .. يا لك من خائن وعديم الإخلاص ! .. حقا من هي هيفاء هذه ؟ .. أها ! .. تلك المطربة المبتذلة ، تذكرت .. تلك التي صورتها تتدلى من جدران حمامك أليس كذلك ؟.. وبالمناسبة لماذا هي هناك بالضبط ؟.. ههههة .. شحاذ الرغبات و هادر الطاقات هباء ، و فوق ذلك يتدلل ويختار ! .. أوف منكم أيها الرجال !.. لقد أضعت على نفسك فرصة ثمينة بتفضيلك إياها عليّ ، سأرجع من حيث أتيت ، فأنك لا تستحقني قطعا !..
ثم أخذت تتراجع عنه خطوة فخطوة و كأنها تخشى من ذيل ثوبها سيتشبث بشيء ما ويعرقل انسحابها السريع ، وبذل هو جهده المُضني لينهض ويقنعها بالبقاء ولو بضع دقائق فقط ، وعندما جمع قواه ونهض ، كانت هي قد غارت واختفت تقريبا داخل الشاشة ، وبالكاد تمكن هو التشبث بذيل ثوبها الذي شده نحوه بكل قوة ، ولكن ذيل الثوب قد تملص من يده ، ولم ير غير شاشة جهازه ترتطم بالأرض بقرقعة كبيرة !..
فيما بعد ، عبثا بحث عنها هنا و هناك و انتظرها ، قافلا الجهاز عسى و لعلها تظهر فجأة ، حتى أنه قد أخرج صورة هيفاء وهبي من الحمام ورماها في القمامة لأجل خاطرها هي وترضية لها ، ولكنها أبت الظهور نهائيا ، كأنما سافرت فعلا إلى كواكب أخرى ..
وفكر مشدوها :
ــ حتى إنني لم أملها وهي لم تكن عبئا عليّ .. فلماذا هذا الاستعجال والاختفاء المبكر ؟..
أخر شيء نسبه إليها وهي العبارة التالية :
ــ عندما يخلق المرء شيئا من بنات أوهامه فأنه يبقى متعلقا به حتى النهاية ، على الرغم من شعوره بعبثية الأمر !.. فأليس جميعنا نعيش في وهم و من أجل وهم فقط .. فانتظرني حتى تجد لحياتك ثمة معنى للمثابرة و العيش المقبول والمقنع !.. باي حبيبي إلى لا لقاء أبدي ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here