الهموم، وكيف نعالجها ؟

الهموم، وكيف نعالجها ؟ (*) د. رضا العطار

يوجد في صيدلياتنا عشرات الأنواع من السموم التي تستطيع ان تمزق الأمعاء او توقف وظيفة القلب او تشل حركة الاعصاب في ثوان معدودة . ولكن القارئ قد لايعلم انه هو نفسه يفرز سما لا يقل في شدته عن هذه السموم , يستطيع ان يقتله في ثوان كذلك.

وهذه السموم هي سموم العواطف المريضة كالخوف والغضب والكراهية والغيرة والشك. ومن الأمثلة التي يجب ان تثبت في اذهان الجمهور هي ان الهموم ماهي الا مخاوف مترددة وضررها كبير جدا لأنها غامضة غير واضحة المعالم.

فهذه الزوجة مثلا تخشى ان يتزوج زوجها زوجة اخرى, فهي تدرس كلماته وايماءاته وهي خائفة مهمومة. وهذا التاجر يخشى المطالبة بديونه او كساد تجارته, فهو يجتر مخاوفه كما تجتر البقرة طعامها، يخرج هذه المخاوف من صدره الى عقله ثم يرددها ثم يعود يخرجها وهو طيلة هذه المدة خائف. قلبه يدق وخواطره تتردد تزيده هما على هم . و الطالب يخشى الرسوب قبل الأمتحان او الموظف يخشى معاكسة رئيسه وتربصه به.

هذه هي الهموم , هذه هي المخاوف الغامضة التي تحمل شكوكا وشبهات اي اننا نتوقع الكارثة التي قد لا تقع, بل الحق أنها لو وقعت لما كان ضررها مساويا للشك في احتمال وقوعها. الهم هو الشك, هو السم الذي يدور في كياننا ويقتلنا, وهو ليس سما بالمعنى فقط , اذ هو سم بالمادة ايضا. ذلك ان عواطف القلق والخوف التي يحدثها الهم في نفوسنا تجعل بعض الغدد الصماء ان تفرز سوائل خاصة في دمنا تزيد الضغط في الشرايين الى حد لا نتحمله اذ ينفجر الشريان ونموت فورا .

هذه العواطف هي جهازنا الدفاعي القديم كنا نستخدمه, نعيش عليه بالعاطفة وليس بالعقل قبل مليون سنة والى الأن نحن نجد ان الحيوان كائن عاطفي يستجيب للطوارئ بالهجوم او الفرار وبالعراك او الخضوع . فهو يحرق عاطفته او يلغيها بهذه الحركات . ولذلك لا تنشأ عنده هموم تقتله. اما نحن فنكظمها, نكضم الغيظ ونكظم الغيرة ونكظم الخوف ونكظم الحسد ولا نحسب ما سوف نكون عليه بعد خمسة اعوام , نتيجة لتأثيراتها النفسية المدمرة.

همومنا هي عواطفنا التي لم نهضمها, وهي مادة عائقة لحركة النفس وحركة الجسم وهي في عصرنا الراهن لا تختلف عن الأظافر التي كنا متسلحين بها في عصر الغابة ولكننا اكتشفنا بمرور الزمن من الألات الجارحة ما هو افعل من الأظافر ولذلك بدأنا نقلمها, لكننا لا نقلم عواطفنا بل نتركها تتراكم حتى تتحول الى هموم تقضي على حياتنا.

وقد نشأ لنا عقل, كان يجب علينا ان ناخذه مكان العواطف. ولكن قليل منا من يفعل ذلك او يقدر على ذلك. ومثل هذا الشخص حين نعده فيلسوفا لأنه يسوس نفسه ويتصرف في شؤونه بالمنطق الأجتماعي . وعندما يحس عواطف الغضب او الغيرة او الخوف يتاملها في وجدان وتعقل ومنطق فتنهزم العواطف وتنمحي فهو لا يكبت ولكنه يحلل . العاطفة بخار محبوس وليس هناك من سبيل للتخلص منه سوى الأعتماد على العقل.

ومما يجدر ذكره ان هذه العواطف القاتلة تتفشى بين افراد الطبقة المتوسطة وذلك لأن اطماع هذه الطبقة كثيرة وسبيل تحقيقها ليس سهلا. انها تخشى التردي الى مستوى الفقر . فهي بين هموم دائمة وعواطف ثائرة وسموم تسري في عروقها.

بينما طبقة الفقراء التي تشمل في الغالب العمال والفلاحين قد استسلمت لحالها وارتضت بمعيشتها فليس لها اطماع تثير عواطف الخوف من الفشل او الشك في ما يئول اليه الغد . . ولذلك قل ما نجد رجلا يشكوعلة نفسية من الفقراء . وكذلك الشأن بين الأثرياء في الطبقة العالية اذ ان افرادها يجدون كل ما يصبون اليه. فلا خوف ولا قلق ولا هموم.

والعلاج من الهموم اي التحررمنها يكمن في الحد من مطامعنا وتقوية سيطرة العقل على العاطفة واننا يجب ان نسير في هذه الدنيا بعقولنا. واذا كنا نجد انفسنا مظلومين فأن هذا الظلم ليس حالة خاصة بنا وانما هو خطأ اجتماعي يجب ان يصلح. ومن افضل الوسائل للتغلب على همومنا هو ان ننخرط في حركة اصلاحية عامة تنشط اذهاننا وتنير طريقنا وتكسب حياتنا اكثر معنى, يضع الوجدان والتعقل مكان العاطفة, نعمد الى القلم فنكتب ونشرح هذه الهموم . ذلك لأن الكلمات ترفع الهم من المعنى المبهم الى التعبير الواضح . وبذلك نحصر الهموم في حدودها ونزيل عنها هذا الغموض ونكشف حقيقتها التي تبدو لنا عندئذ انها تافهة لا تستحق كل هذا الاهتمام.

جرت العادة في القرن الماضي ان كثر استعمال عبارة الحرب الباردة بين المعسكرين العملاقين. الغرب والشرق. وكلاهما كان يستعد للحرب الحامية مع ما كان يبدوعليهما من الطمأنينة الكاذبة والتفائل الزائف.

و اننا نستعمل العبارة ( الحرب الباردة ) في الحالة التعيسة التي يعيشها بعضنا نتيجة تراكم الهموم التي خلقتها العواطف المريضة من الغيرة والحسد والريبة والغضب في حرب باردة كامنة اما في نفوسنا. او بين الانسان ومجتمعه او بينه وبين نفسه ايضا. هذه الهموم ينقلها الفرد معه من المكتب الى البيت. فإذا آوى الى فراشه جعل يستعيد تفصيلاتها كأنه يجترها. وهو ياكل بها نفسه. ويضني قواه ويسمم عقله وعافيته بالأفكار السوداء التي تتمثل في الهموم, كان يستطيع الأستغناء عنها او التخفيف منها لو انه نظر اليها نظرة العاقل وليس نظرة العاطفي.

والمجتمع الأقتنائي مصدر الهموم الذي نعيش فيه ونأخذ بأخلاقه يغرس في كل منا منذ الطفولة رغبة جنونية في الأقتناء حتى ليصبح برنامج حياتنا ان نجمع اكثر ما نستطيع من عقارات. وهذه الرغبة الجنونية في جمع الثروات تحملنا على ان نقيس بها معايير الشرف والكرامة والعظمة. وننسى ان انسانا عظيما مشى على هذه الأرض اسمه غاندي لم يكن يملك سوى عنزة, لكنه ملك قلوب كل البشر. وان عظمته كانت تكمن في الأستغناء دون الأقتناء.

ومن هنا تنشا العواطف الكريهة التي نشقى بها ونتضور من اجلها ونحن نلج في بحر من الجشع . هذه العواطف تشعل في نفوسنا نار الحرب الباردة، في صحونا وفي نومنا. ان كثيرين ممن يبدو عليهم الهدوء والسكينة اذا ناموا انفجرت في افكارهم بما انطوت عليه من حقد وبغض وغيرة في نفوسهم. فهم يشتمون خصومهم وقت النوم, واحيانا بصوت عال, يصرخون خوفا من كابوس قد تجسدت فيه اوهام النهار واحلام الليل.

وعلاج الحال ميسور لكل من يتعقل ويرفض الأنسياق وراء تيار هذه العواطف. وهو علاج معروف بين العامة قبل الخاصة. فأننا جميعا نعرف طراز الرجل المعتدل الذي يانف من البغض والحسد والحقد والغيرة. هذا الرجل القانع الذي يكاد ان يتجنب الجشع. هذا الرجل لا تسمع منه كلمة ذم او انتقاص من شأن احد. وقد يقضي على هذه الأرض اكثر من سبعين عاما من عمره لا تطأ قدماه طوالها ارض المحكمة شاكيا او مشكوا, لأن معدنه كريم .

وبدلا من شراء الأدوية لمعالجة امراضنا التي سببتها الهموم, اقول بدلا من هذا كله علينا ان نتعلم كيف نتخلص من عواطفنا المريضة اولا و التي جلبت لنا سموم الهم بكل اشكاله. نتعقل في وجدان ونقيس القيم الموضوعية على ابعادها الحقيقية دون اوهامها. فالأستقامة في الحياة هي الدواء الناجح لجميع امراضنا النفسية.

يجب ان تترسخ الرموز الأخلاقية الفاضلة في مجتمعنا, فلا ينبغي ان لا تكون الثروة او المنصب او الأنتماء الديني او الحزبي معيار الوجاهة للمواطن انما سلوكه وحده, علينا ان نتسائل : هل ان علاقة هذا الشخص بمجتمعه ووطنه تتصف بوشائح الشرف والشهامة ام بالسرقات والتزوير والخيانة ؟

ختاما يُذكر القارئ الكريم بضرورة التمسك بالفضائل وعدم قضاء وقت الفراغ بالقيل والقال وان نبتعد عن العواطف المؤذية التي تخلق الهموم و تحطم صحتنا النفسية.علينا جميعا ان نفتح الافاق الرحبة لمجتمع صحّي خال من الهموم.

اما اذا اخفقنا في التخلص من ثقل الهموم رغم استعمالنا الوسائل المقترحة, انذاك علينا ان نجرب ( الوصفة الطبية ) لأبي نؤاس الذي يقول فيها :

اذا خطرت فيك الهمومة فداوها * * * بكأسك حتى لا تكون هموم

ادرها وخذها قهوة بابلية * * * لها بين بصرى والعراق كروم

لها من ذكي المسك ريح ذكية * * * ومن طيب الزعفران نسيم

فشمرت اثوابي وهرولت مسرعا * * * وقلبي من شوق يكاد يهيم

الى بيت خمار افاد زحامه * * * له ثروة والوجه منه بهيم

وقلت لها هزًي الدنان قديمه * * * فقالت نعم اني بذاك زعيم

ألست تراها قد تعفت رسومها * * * كما قد تعفت للديار رسوم

يحوم عليها العنكبوت بنسجها * * * وليس على امثالها يحوم

.وقلت لملاحي الا هي زورقي * * * وبت يغنيني اخ ونديم

الى فتية نادمتهم فحمدتهم * * * وما في الندامى ما علمت لئيم

* مقتبس من كتاب محاولات للموسوعي سلامة موسى. ومن ديوان ابو نؤاس لمؤلفه عمر الطباع.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here