الكاظمي رئيسا لحكومة صدرية

ساهر عريبي

أفرزت الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة خارطة سياسية جديدة, تشكل نقطة تحول في مسيرة العملية السياسية التي انطلقت عقب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. هذه الانتخابات أحدثت نتائجها تغييرات كبيرة في المجلس المقبل, لعل أبرزها غياب وجوه عديدة تصدرت المشهد السياسي العراق طوال 18 عاما. تشير تلك النتائج إلى أن نحو 80% من الفائزين بمقاعد مجلس النواب هم وجوه ستطأ  أقدامها للمرة الأولى عتبة المجلس.

لا يقتصر التغيير على قدوم وجوه وطنية جديدة من المستقلين أمثال الأستاذ محمد عنوز, ولكن أيضا حصل تجديد في ممثلي القوى السياسية التي اعتادت على الفوز بالانتخابات. التيار الصدري عزز موقعه في البرلمان بفوزه بنحو 20 مقعدا جديدا فضلا عن أكثر من 50 آخرين بينهم وجوه تدخل البرلمان لأول مرة بحسب النتائج الأولية.

والأمر ينطبق على الكتل الفائزة الأخرى مثل كتلة دولة القانون وتحالف تقدم والحزب الديمقراطي الكردستاني. كان هذا التغيير على حساب  القوى الخاسرة التي لم ينجح العديد من قادتها ورموزها بالاحتفاظ بمقاعدهم.  لست بصدد تحليل هذه النتائج ولكن بشكل مجمل هي نتيجة حتمية لانتفاضة تشرين التي أجبرت الطبقة السياسية على سن قانون جديد للانتخابات فضلا عن إجراءها في وقت مبكر.

حملت تشرين كذلك مصطفى الكاظمي إلى سدة رئاسة الوزراء على مضض من القوى السياسية التي خشيت من غضب الشارع الثائر على فسادها وفشلها وطغيانها.

نجح الكاظمي في إدارة شؤون البلاد وفي ” عرقنة” مؤسسات الدولة التي تحولت إلى أداة بيد هذه الدولة أو تلك. نجح في استعادة شيئا من السيادة العراقية المصادرة, وفي إعادة العراق إلى محيطه الإقليمي وإلى المجتمع الدولي. أفرزت هذه النجاحات اصطفافا في الساحة السياسية. دعمت خطوات الكاظمي قوى أبرزها التيار الصدري, فيما وقفت بوجهه قوى أخرى أبرزها تلك التي خسرت في الانتخابات الأخيرة.

تأبى القوى الخاسرة اليوم الاعتراف بهزيمتها فهي من ناحية أدمنت على شرب كأس السلطة حتى الثمالة, ومن ناحية أخرى فهي تخشى فتح ملفات فسادها وجرائمها وخاصة ضد المتظاهرين العزل الذين أزهقت أرواح المئات منهم. تعود اليوم إلى لعبتها المفضلة ألا وهي الطائفية, تتبجح بوحدة الموقف الشيعي! وهي التي كانت تنادي لحكومة أغلبية قبل الانتخابات التي فشلت في توقع نتائجها, نظرا لانفصامها عن الواقع وغرقها في بحر المتملقين والانتهازيين والمحليين الرغائبيين!

تنسى قوى ما يسمى بالإطار التنسيقي أن ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه نوري المالكي هو أول من شق الصف الشيعي, عندما خاض انتخابات العام 2010 لوحده بعيدا عن الائتلاف العراقي الموحد فكانت النتيجة خسارته لانتخابات ذلك العام أمام القائمة التي كان يقودها أياد علاوي. منذ ذلك الوقت دخل العراق في نفق الكتلة الأكبر المظلم الذي عبدته المحكمة الاتحادية بتفسيرها الشاذ لمفهوم الكتلة الأكبر الذي يتعارض مع روح الديمقراطية.

فأحد أهم آثار العملية الانتخابية في أصل النظام الديمقراطي هو تكليف الحزب الفائز بالانتخابات بتشكيل الحكومة. يشكلها إن كانت لديه أغلبية برلمانية لوحده وإن لم تكن, فيعطى فرصة تشكيل تحالفات نيابية. فإن نجح في عقد تحالفات فيشكل الحكومة وإلا فيعتذر, وحينها يكلف الفائز الثاني وإلا فتعاد الانتخابات. لا يوجد في النظام الديمقراطي تكليف للخاسر بتشكيل الحكومة وإعطائه فرصة لتشكيل تحالفات قبل أخذ الفائز فرصته.

لذا فإن تفسير المحكمة الاتحادية هو انقلاب على النظام الديمقراطي لا نظير له منذ تأسيس الديمقراطية! فتلك بديهية ليس بحاجة إلى مادة دستورية ولا إلى قانون أو تفسير. في بريطانيا وهي أعرق بلد ديمقراطي, لا يوجد دستور مكتوب, بل أعراف محترمة وقيم أخلاقية وليست دينية تلتزم بها جميع الأحزاب.

في العام 2010 فاز حزب المحافظين بزعامة ديفيد كاميرون ب 306 مقعدا من مجموع 650 من مقاعد مجلس العموم البريطاني أي أقل  ب 20 مقعدا من الأغلبية اللازمة, لكنه أعطي فرصة تشكيل الحكومة ضمن الأمد القانوني فشكلها بالتحالف مع حزب الأحرار (57) مقعدا. هذه القاعدة في النظام الديمقراطي, لا يمكن منح الفائز الثاني الفرصة لتشكيل الحكومة قبل إعطائها للأول, على عكس ما يروجه بعض أدعياء التنظير للدولة الحضارية وما هم إلا منظرين للدكتاتورية والانقلاب على أسس النظام الديمقراطي.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأحزاب في الدول المتحظرة تعقد تحالفاتها وفقا لمبادئها ومصالح البلاد وليس لتقاسم الحكم, فلايمكن لحزب يساري أن يتحالف مع حزب يميني ولا لحزب مدافع عن البيئة يشارك في حكومة يرأسها حزب غير معني بالبيئة. وأما في العراق فإن الأحزاب التي تدعي أنها إسلامية وهي التي تهيمن على الحكم  وتدعي أنها تمتلك منظومة قيمية بديلة للمنظومة الغربية فإن الحكم بالنسبة لها هو تقاسم الوزارات والامتيازات ونهب موازنة الدولة! تحالفاتها قائمة على شراء الذمم كما تشير آخر الأنباء اليوم إلى وصول سعر النائب إلى نحو ثلاثة ملايين دولار. سقوط أخلاقي لا نظير له في العالم من أحزاب لا دين ولا أخلاق ولا قيم لديها, لكنها تتمترس خلف شعار معاداة أميركا ليستر عورة فسادها وشهوتها للحكم.

ولذا وفقا لأسس النظام الديمقراطي فلابد أن تمنح الكتلة الصدرية فرصة تشكيل الحكومة, فإن نجحت في تشكيل تحالف يحوز الأغلبية فقد تم الأمر وإلا فتمنح الفرصة للقطب الآخر وإلا فتعاد الانتخابات. وأما تجاوز هذا الأساس الديمقراطي فيعني إهانة للفائز وللنظام الديمقراطي بل انسلاخا عنه. حينها لا يمكن تسمية ماجرى بأنها انتخابات! بل هي كشف لحجم كل مافيا في البرلمان كي تستحوذ على السلطة بما يتناسب مع حجمها.

وبالعودة إلى هذه الانتخابات فإنها تختلف عن سابقتها ولا يمكن هذه المرة تجاوز الفائز وعدم منحه فرصة تشكيل الحكومة, وتكاد أن تذعن القوى الخاسرة للمعادلة الجديدة رغم الضغوطات الخارجية التي تمارس على بعض الكتل لمنع تحالفها مع الكتلة الصدرية. وتبدو في الأفق بوادر حكومة صدرية يقودها الكاظمي ولعل أبرز أعضائها السفير جعفر الصدر للخارجية وحسن العذاري لتولي هيئة النزاهة وملاحقة الفاسدين.

ولعلها تشكل فرصة تاريخية لاستعادة السيادة العراقية واستقلالية سياسة البلد وعودة العراق الغني بثرواته وموارده البشرية وموقعه الاستراتيجي, لينهض بدور إقليمي وعالمي  يتناسب مع تاريخه ومع عناصر قوته الفريدة في المنطقة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here