بعيدا عن السياسة..صِدام الشاي والقهوة على موائد المثقفين العراقيين !

احمد الحاج

الى وقت قريب جدا لم يكن للمثقفين العراقيين غير الشاي والحامض – النومي بصرة – كمشروبين ساخنين رئيسين ورفيقين دائمين لجلساتهم وامسياتهم واصبوحاتهم وخلواتهم – اضافة الى السجائر الرخيصة بطبيعة الحال – وقلما تجد صحفيا أو كاتبا أو شاعرا أو روائيا أو قاصا عراقيا مبدعا من دون أن تجده واحدا من مدمني الشاي الأسود اذ لاوجود للشاي الأخضر في العراق الا على نطاق ضيق جدا ،علما أن المقاهي الشعبية التي يؤمها المثقفون لاتعترف بالشاي الأخضر ولاتضيفه الى قائمة المشروبات الساخنة ولا تقدمه لزبائنها قط برغم فوائده الطبية الهائلة بحسب الوصفات الطبية التجارية قط -ليش ..الحقيقية لا ادري ؟!-.
في العراق لايقدم الشاي الاسود الا بطريقة واحدة اما بالكوب واما بالاستكان واما بالقدح السفري – ديسبوسبل – والاخير ظاهرة طرأت على عادات وتقاليد شرب الشاي بعيد ظهور وباء كورونا التاسع عشر على غير سبق مثال ، بسكر زائد أو ناقص أو بدون،بخلاف اشقائنا المصريين حيث تجد عندهم الشاي الثقيل والاسكندراني والبحري والميزو وغيرها اضافة الى قائمة طويلة من المشروبات الرائعة كالعناب والكركديه والكاكاو والسحلب داخل المقهى يعلم ذلك جليا كل من زار القاهرة واستمتع بمقاهيها التراثية العريقة – شخصيا لم ازر القاهرة قبلا مع شديد الاسف ، الا انني قد اطلعت على هذه المشروبات المذهلة وقد جربتها كلها تقريبا في مقاهي الحي المصري بمنطقة المربعة وسط العاصمة بغداد – وبما لاتجدها بمجموعها في المقهى العراقي الشعبي بما في ذلك القهوة التي يحمل اسمها ، صحيح أن المقهى مشتق من القهوة الا ان المقهى العراقي الشعبي لايقدم القهوة الا لماما وكثير من أسطوات المقاهي لايجيدون صناعتها اساسا لأن القليل من الزبائن من يطلبها وفي حال فعل احدهم ذلك فإن صاحب المقهى سيعامله بإحترام زائد يبخل بنصفه على بقية الزبائن من مدمني الشاي ، هنا سيظن الزبون الذي طلب القهوة بأن مشروبه على قدر من الرقي والتميز والارستقراطية بما لايتوفر في خصمه العنيد وعدوه التجاري اللدود “الشاي “، الامر الذي سيصيب الزبون طالب القهوة بالغرور ويوهمه بالتميز المشفوع ببعض الانتفاخ غير المبرر لاسيما اذا كان الزبون يتأبط صحيفة ورقية يومية – خمس صحف عراقية بـ 500 دينار من البورصة – او كتابا جديدا فيخيل اليه انه قد حلق في عالم الادب من خلال هذا الفنجان بعد ان تقمص شخصية نجيب محفوظ أو العقاد وربما الجواهري وطه حسين كذلك بما يشعره لوهلة بالراحة النفسية لفترة قليلة كل ذلك قبل ان يفقد صوابه وتتنفخ اوداجه ويمتقع لونه عند دفع الحساب وتنقيده الف دينار لفنجان واحد -ثلثه بثل – بما يساوي اربع استكانات شاي مهيل معد على الفحم وبالقوري الفرفوري على الطريقة البغدادية وافضلها على الاطلاق في منطقة الفضل في رصافة بغداد الحبيبة ، والاخ لايعلم بأن احترام صاحب المقهى الزائد والمميز له ليس مرده الى الصحيفة التي يتأبطها ولا الى الكتاب الذي يحمله ولا الى القهوة التي طلبها وتفضيلها على الشاي، وانما الى فارق السعر بين – استكانة شاي بـ 250 دينارا-وبين- فنجان قهوة بـ 1000 دينار – تشرب كل سنة مرة ، حرام تنسوني بالمرة ، واظنها تقدم عراقيا وفي الاعم الاغلب وهي نافدة الصلاحية واكسباير !
شخصيا انا من مدمني الشاي ولا اقول من عشاقه لأنني لم استوعب يوما ماهية القيمة الغذائية المأمولة من مشروب عبارة عن ورق محمص اسود اللون يغلى بالماء ويقدم مع السكر الى الهائمين به حبا ،صباحا ومساءا بصرف النظر عن الدعايات الطبية التجارية وتسويقه على انه مشروب سحري مفيد للقلب ومضاد للاكسدة وخافض للسكري ومخفف لاضطرابات المعدة وووو..الخ -علاوة على تسببه بطفح السنك في حال رمي بقايا الشاي داخله ليدور بعدها النقاش المعهود وبالعبارة المعتادة ” هاي منو ذب البثل بالسنك ..اكو عاقل يسويها ؟!”وامنيتي ان يجيب الجاني على هذا السؤال الحائر ولو لمرة واحدة في حياته ليريح الجميع من عناء التساؤلات وتبادل الاتهامات مقرا بذنبه وبالاخص مع اصراره العجيب على فعلته النكراء تلك كما في كل مرة !
اليوم هناك تنافس ثقافي بين مدمني الشاي ، ومدمني القهوة ، يظهر جليا احيانا ، وخفيا بين السطور اخرى و لن تعدم وسيلة في اكتشافه وتلمسه ، ومع انني اجد نفسي لا اراديا اقف مع الصنف الاول منهم ، ربما لأن الشاي في العراق يشعر صاحبه بالاندماج مع المحيط ، وربما لأنه شراب الفقراء والكادحين والكسبة بخلاف القهوة ، وربما لأن الشاي يتيح لك فرصة تناول الكعك والكليجة والخبز والصمون الحار والخبز عروك والجرك والصميط اضافة الى القيمر والزبدة والقشطة والجبنة وبقية الوان الفطور الصباحي كل ذلك بخلاف القهوة الانانية التي تأبى ان يشاركها في مذاقها واسترخائها ومائدتها احد غيرها البتة ، وكأنك بالقهوة وعلى قول المصريين الاحبة تقول لنا بلسان الحال ” انا زي الفريك ، مااحبش شريك ” بما تشعر صاحبها بالتميز والتفرد ولعلها وجهة نظر شخصية لاتخلو من بصمات طبقية وغذائية على سواء…وربما لأن القهوة في العراق ليست حقيقية بالمعنى الحرفي للكلمة فجلها عبارة عن نسكافيه وحبيبات مذابه بالماء الساخن وقلما تجد نظير القهوة التركية او الشامية المحمصة والمطحونة التي يفوح عطرها الزكي بالهال على بعد عشرين مترا على الاقل وبما يأسرك ويدعوك لشربها لامحالة سواء أكنت من اعداء القهوة ، أم من أصدقاء الشاي !
ومن وجهة نظر جيو سياسية اعتقد بأن سبب ادمان الشاي في العراق ومصر، مقابل إدمان القهوة في سورية ولبنان يعود الى حقبة الاستدمار الانجليزي لمصر والعراق وقد ادخل الشاي اليهما عن طريق شركة الهند الشرقية الإنجليزية ، والى الحقبة المملوكية في مصر والعثمانية في سورية ولبنان ومن ثم الفرنسية وقد ادخلا فنون وانواع وطرق صناعة القهوة اليهما بعد تحريمها لفترة طويلة لأسباب لامجال لذكرها هاهنا وبما يطول شرحه ، مع ان تأريخهما اقدم من ذلك بكثير وأصل القهوة كما يشاع اثيوبي ، ويقال اصلها يماني وقد استبدلت مزارعها بالقات انجليزيا في اليمن وكانت شائعة بين الصوفية الشاذلية قبل انتقالها الى بقية انحاء الجزيرة العربية وقد قوبلت بالرفض والتحريم اول الامر ظنا من بعض الفقهاء بأنها مسكرة لاسيما وان – القهوة – اسم من اسماء الخمرة والتي تعني انها تقهي صاحبها عن تناول الطعام وتضعف شهيته تجاهه،وفي القهوة بوصفها اسما من اسماء الخمر قال الشاعر العربي قديما في وصفها :
وقهوة كشعاع الشمس صافية …مثل السراب ترى من رقة شبحا
إذا تعاطيتها لم تدر من فرح ….راحاً بلا قدح أعطيت أم قدحا؟
فيما اصل الشاي صيني ، ولكل من الشاي والقهوة يوم عالمي ،ففي 21 ايار من كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي للشاي ، بينما يحتفل في الاول من تشرين الاول سنويا باليوم العالمي للقهوة ، وتشير الاحصاءات الى ان القهوة والشاي هما اكثر مشروبين تناولا على سطح الكوكب بعد الماء وفي كل ارجاء العالم !
ونصيحة أخيرة من محب الى المثقفين العراقيين من مدمني القهوة أو الشاي ،الرجاء عدم اقحام المشروبين الساخنين في موضوعة التألق والتحليق عاليا في سماء الكتابة والابداع الشعري والادبي والروائي ، استمتع بمشروبك الساخن المفضل – والف عافية – ، ولكن اياك اياك ان تنسب فضل ذلكم الابداع الى أي من المشروبين الأسودين المعشوقين اطلاقا وكلا المشروبين لايقران لك بما تزعمه وتدعيه بحقهما ولا بدورهما في احياء ملكة الكتابة عندك او اذكاء نيران الروح الابداعية لديك ،علما ان للشاي والقهوة في المجالس والدواوين فضلا عن المقاهي التراثية عادات وتقاليد وامثال شعبية ، فللشاي على سبيل المثال تقاليد بعضها جاهلية قد تؤدي الى ردود افعال لاتحمد عقباها تتعلق بوضعية الملعقة كذلك الصحن فوق او الى جانب الاستكان ، عدم تذوق الشاي بالملعقة وانما مباشرة من القدح او الاستكان ، ان يقدم قدح الشاي ممتلئا وأن لايقدم للضيوف ناقصا فهذا عيب وذلك بخلاف القهوة التي يدل نقصها عن النصف على الجود والكرم ، ان لايترشف الشاي بصوت عال مسموع ، وان لايقلب الاستكان بالعكس بتاتا ، وان يمسك الاستكان بالسبابة والابهام وان يضم الخنصر والبنصر والوسطى الى الداخل ولا يفرجها خارجا ..كذلك القهوة فلها عادات وتقاليد خاصة مصحوبة بأمثال شعبية وبدوية مروية لعل من ابرزها تقديم فناجين – او فناجيل – القهوة باليد اليمنى وتسلمها باليمنى كذلك بخلاف الدلة التي تحمل باليد اليسرى ،وان يبدأ التوزيع من اليمين للضيوف اولا على ان لايكون الضيف عند تسلم الفنجان متكأ وان لايضع الفنجان على الطاولة او على الارض بعد الفراغ من شربها وانما يسلمه يدا بيد الى القهوجي الذي يتحتم عليه تقديم القهوة للضيوف وقوفا ، ومن تقاليدها ايضا هز الفنجان يمنة ويسره دلالة على الاكتفاء وعدم الرغبة بطلب المزيد من القهوة المرة ، اما رفع الفنجان من دون هزه فدلالة على طلب المزيد منها ، كما يتوجب عدم ملء الفنجان اكثر من الثلث لأن ذلك اشارة الى انه شخص غير مرغوب فيه بعرف المضايف والدواوين ، ومن تقاليدها ان يبدأ صاحب المجلس بشرب الفنجان الاول لبعث رسائل طمأنة لضيوفه ، أما الامتناع عن شرب الفنجان برهة فيعني ان الضيف له طلب من مضيفه ولن يشرب قهوته قبل تلبية طلبه ، وحذار من طلب الماء بعد القهوة لأن ذلك يعني انها غير جيدة ويريد الضيف ازالة طعمها الردئ بالماء ، اذ ان الماء يشرب ويقدم قبل أو مع فنجان القهوة وهي عادة قديمة يراد منها معرفة ما اذا كان الضيف جائعا أم لا ، وهكذا دواليك فياعشاق القهوة والشاي اتحدوا .اودعناكم اغاتي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here