ماهية الحروب الصليبية (6) مصر وصلاح الدين والحملة الثالثة

محمد سيف الدولة

[email protected]

هذه هى الحلقة السادسة من قرائتنا فى كتاب ماهية الحروب الصليبيبة للدكتور/ قاسم عبده قاسم الذي رحل عن عالمنا في الاسابيع الماضية.

ولقد تناولنا فى الحلقات الخمس السابقة: الايدولوجية الصليبية، والظروف التاريخية والدوافع، وخطبة البابا والاستجابة الشعبية، والحملة الصليبية الاولى وإغتصاب القدس، وبدايات الوحدة والمقاومة والتحرير.

واليوم نتناول دور مصر وصلاح الدين الأيوبى وتحرير بيت المقدس والحملة الصليبية الثالثة بقيادة الملك الانجليزى ريتشارد الأول، الشهير بريتشارد قلب الأسد.

***

بعد تحرير الرها على أيدى عماد الدين زنكى عام 1144، ووقوع دمشق فى ايدى نور الدين محمود عام 1154 م، و تماسك الجبهة الشمالية العربية الاسلامية فى مواجهة الصليبيين، بدأت انظارهم تتجه الى مصر حيث ساد الضعف السياسى الشديد فى السنوات الأخيرة من حكم الخلافة الفاطمية.

وكان اتحاد حلب ودمشق تحت حكم نور الدين قد جعل من غزو مصر الحل الوحيد لنجدة الصليبيين. خاصة وانها بمواردها البشرية والاقتصادية الكبيرة كفيلة بترجيح كفة من يستولى عليها أو يضمها الى جانبه، ولقد خشى الصليبيون بان تقع فى يد نور الدين هى الأخرى، فقرروا ان يأخذوا بزمام المبادرة.

***

الوضع فى مصر:

· كانت مصر تحت حكم الخلافة الفاطمية منذ 969 م.

· ومع قدوم الحملة الصليبية الاولى كان الدولة الفاطمية اشبه بالرجل المريض الذى ينتظر الجميع نهايته والاستيلاء على تركته.

· وكان الصليبيون قد نجحوا عام 1153 م فى الاستيلاء على مدينة عسقلان من المصريين والتى كانت تمثل تهديدا لوجودهم فى فلسطين.

· اما داخل مصر فمنذ وزارة بدر الدين الجمالى عام 1073 م صار الوزراء هم اصحاب السلطة الحقيقية وأصبح الخلفاء الفاطميين ألعوبة بايديهم.

· وبعد اغتيال الأفضل بن بدر الجمالى عام 1121 م دخلت البلاد فى دوامة من المؤامرات والدماء لم تنته.

· والتى كان من آثارها انه فى عام 1163 م، نشأ نزاع على كرسى الوزارة فى مصر بين رجلين هما ضرغام وشاور، وقد هرب الأخير الى الشام يستنجد بنور الدين محمود، من ضرغام الذي نجح فى الانفراد بالحكم.

· وفى نفس العام 1163 م توفى بلدوين الثالث ملك بيت المقدس، وخلفه أمارلريك الأول (عمورى)

· وتحت حجة عدم دفع مصر للجزية التى تقررت عليها فى عهد سلفه، قام امالريك 1163 بعبور برزخ السويس وحاصر مدينة بلبيس.

· ولكن تصدى له ضرغام، وقطع جسور النيل بحيث شكلت مياه الفيضان واوحال الدلتا عائقا رهيبا جعل الصليبيين يعودون الى فلسطين.

· ورغم هذا الموقف من ضرغام، الا انه عندما علم ان نور الدين محمود قد قرر دعم شاور فى استرداد كرسى الوزارة فى مصر، فانه هو الذى قام بطلب دعم الصليبيين، الذين لم يترددوا واطلقوا حملة صليبية جديدة بقيادة ملكهم أمالريك الى مصر.

· وكان نور الدين قد ارسل حملة الى مصر لدعم شاور، بقيادة أسد الدين شيركوه وبرفقته إبن أخيه الشاب ذو السبعة وعشرين ربيعا صلاح الدين يوسف الايوبى. وقد نجحت الحملة فى دخول مصر واعادة شاور الى كرسى الوزارة.

· ولكن شاور هو الذى قام هذه المرة بالاستنجاد بالملك الصليبيى للتخلص من نفوذ أسد الدين شيركوه. والذى استجاب فورا وهاجم مصر.

· وخلال السنوات 1163 – 1169 قام الملك الصليبى بغزو مصر خمس مرات.

· وبعد سلسلة من المعارك انتهى الأمر بانتصار جيوش أسد الدين شيركوه واستتباب الأمر له فى مصر.

· وكانت المحاولة الأخيرة لهذا الملك الصليبى عام 1169 عندما فشلت حملته المشتركة مع البيزنطيين على مصر، بعد ان حاصر ميناء دمياط 50 يوما.

· وفى خضم هذه الأحداث قتل كل من ضرغام وشاور.

· وأصبح أسد الدين شيركوه وزيرا للخليفة العاضد الفاطمى.

· وبعد موته عام 1169 تولى صلاح الدين الوزارة.

***

صلاح الدين يحرر القدس:

· وفى 10 سبتمبر 1171 م أعلن صلاح الدين نهاية الخلافة الفاطمية واعادة مصر الى الخلافة العباسية.

· وفى هذه الأثناء كانت دولة نور الدين محمود قد اتسعت لتشمل خمس عواصم هى دمشق والرها وحلب والموصل ثم القاهرة.

· ولكن وافته المنية عام 1174، وتلاه الملك الصليبى امالريك فى نفس العام، وخلت الساحة لصلاح الدين، والذى استطاع بعد سلسلة من المنازعات والصراعات اعلان نفسه ملكا على مصر والشام بمباركة الخليفة العباسى عام 1175 م.

· وقضى صلاح الدين فى مصر ستة سنوات 1176-1181 لترتيب الاوضاع الداخلية فى مصر والشام، استعدادا للحرب ضد الصليبيين، متجنبا قدر الامكان اى مواجهة كبيرة معهم قبل الأوان.

· وطوال هذه الفترة، لم تتوقف غارات الصليبيين على مصرعبر سيناء، وبل انهم وصلوا فى أحد غزواتهم الى بحيرة البردويل.

· وحاول رينالد دى شاتيون أمير الكرك ان يقتحم البحر الأحمر ويغزو مكة والمدينة وهاجم بالفعل بعض موانىء مصر والحجاز، ولكن الاسطول المصرى سحق اسطوله تماما.

· وبعد مرحلة الاستعداد قرر صلاح الدين بدء عملياته ضد الصليبيين، وكانت قمة انتصاراته فى 4 يوليو 1187 فى موقعة حطين الشهيرة، والتى أدت الى فقدان مملكة بيت المقدس لقواتها العسكرية الرئيسية، وتم تدمير أكبر جيش صليبى أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبى.

· وبعد حطين كانت الأمور أشبه بنزهة عسكرية، اذ سارعت المدن والقلاع الصليبية الى الاستسلام واحدة تلو الأخرى، فتحررت عكا ويافا وبيروت وجبيل ثم عسقلان وغزة.

· وفى 27 سبتمبر 1187 دخل صلاح الدين المدينة المقدسة وحررها بصورة انسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبل بضع وثمانين سنة. واقيمت خطبة الجمعة فى المدينة المحررة بعد أن ظلت ممنوعة طويلا.

· ولم يتبق بايدى الصليبيين سوى صور وأنطاكية وطرابلس وبعض القلاع والحصون المتناثرة على الارض العربية فى بلاد الشام.

· وجاء رد الفعل الصليبى عنيفا، فمات البابا اربان الثالث من هول الصدمة حين بلغته الأنباء. وبعث خليفته البابا جريجورى الثامن خطابا بابويا الى ” كل المؤمنين فى الغرب ” ووعدهم بغفران كامل لخطاياهم اذا شاركوا فى حملة صليبية جديدة، وفرض صياما كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة، والامتناع عن أكل اللحم فى أيام السبت والأربعاء.

· وتم فرض ضريبة مقدارها 10 % على كل دخل وعلى الأملاك المنقولة، عرفت باسم ” عشور صلاح الدين”.

***

الحملة الصليبية الثالثة :

· واستلم شارة الصليب كل من الامبراطور الالمانى فردريك بربروسا والملك الانجليزى ريتشارد الاول والملك الفرنسى فيليب اغسطس.

· وفى 11 مايو 1189 تحركت قوات الامبراطور الالمانى عبر ذات الطريق البرى الذى سارت فيه من قبل الحملة الاولى، ولكنه لقى حتفه غريقا فى أحد انهار آسيا الصغرى عام 1190، واكتفت قواته بعدها بمشاركة رمزية فى هذه الحملة.

· اما الملكين الانجليزى والفرنسى فتوجها بحرا الى صقلية ثم الى فلسطين، وفى الطريق انتزع الملك ريتشارد قبرص من الحكم البيزنطى.

· وكانت بقايا جيوش الصليبيين فى الشرق قد تجمعت فى مدينة صور. وبدأت الجيوش والامدادات الاوروبية تفد الى بلاد الشام.

· وفى المعارك الاولى سقطت عكا فى يد الصليبيين عام 1191، وعاد فيليب اغسطس الى فرنسا.

· بدأ ريتشارد بعد سقوط عكا يعد للاستيلاء على شاطئ فلسطين من عكا إلى عسقلان، فاستولى الصليبيون على حيفا التي أخلتها حاميتها الإسلامية، ثم على قيسارية التي خربها المسلمون حتى لا ينتفع بها الصليبيون، وفي أثناء ذلك فتح ريتشارد باب المفاوضات مع صلاح الدين، ولكنها فشلت بسبب تمسك ريتشارد بأن تعود مملكة بيت المقدس الصليبية إلى ما كانت عليه قبل حطين. ثم نشبت بين الطرفين معركة أرسوف 7 من سبتمبر 1191م، والتى انتصر فيها الصليبيون. ثم اتجه ريتشارد إلى القدس، ولكنه فشل فى الاستيلاء عليها.

***

صلح الرملة :

وبعد 16 شهرا قضاها الملك الانجليزى فى حروبه ضد المسلمين، اضطر فى النهاية الى عقد صلح الرملة مع صلاح الدين عام 1192، وهو الصلح الذى ابقى الوضع على ما كان عليه. وقد نص على ما يلى:

· أن يسود السلام بين الفريقين ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.

· أن يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور إلى يافا، بما فيها قيسارية وحيفا وارسوف، وتبقى صيدا وبيروت وجبيل للمسلمين.

· تكون عسقلان مدينة غير مسلحة في أيدي المسلمين.

· تكون اللد والرملة مناصفة بين المسلمين والصليبيين.

· تبقى القدس في أيدي المسلمين على أن يكون للمسيحيين حرية الحج إلى بيت المقدس دون مطالبتهم بأية ضريبة.

بعدها، أعلن صلاح الدين أن الصلح قد انتظم، فمن شاء من بلادهم أن يدخل بلادنا فليفعل ومن شاء من بلادنا أن يدخل بلادهم فليفعل.

***

وفى 4 مارس 1193 انتقل صلاح الدين الى جوار ربه، بعد أن سطر سلسلة من الانجازات والانتصارات، ما زالت تمثل مرجعية والهاما لكل الراغبين فى التحرر والنصر على مدار الأجيال و حتى يوما هذا.

ولكن ظل للصليبيين وجودا فى الشام، وظل خطر قدوم حملات صليبية جديدة قائما، ومر قرن آخر قبل ان يتمكن العالم العربى الاسلامى من تحقيق التحرير الكامل والتام للارض المحتلة.

*****

القاهرة فى 6 نوفمبر 2021

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here