لَا تغرك الْعَشَرَة . . . !

د. نيرمين ماجد البورنو
الصداقة والمحبة والعشرة لا تقاس بطول السنين, بل بصدق المواقف المشرفة قولا وفعلا , لأن المواقف وجدت للتمحيص وللكشف عن المستور, فلا تحكم على إنسان من كلامه فالناس مثاليين وعطوفين حين يتكلمون, فلا يغرك العشرة التي يتباهى بها البعض أمامك بأنها دامت لسنوات لأن السنوات تمر كالطيف بلمحة بصر, موقف بسيط صغير كفيل بأن يقلب تفكيرك رأسا على عقب ويفتح لك العين ويظهر لك العشرة و يغنيك عن آلاف الكلمات.
لقد قيل المواقف خريف العلاقات وفيها يتساقط المزيفون كأوراق الشجر حينها ستكتشف أن أكثر أخطاءك في الحياة كانت بسبب العطف والرحمة والعفوية والانسانية والطيبة التي تسكن قلبك وروحك وليس بسبب القسوة, إياك أن تنخدع بالمظاهر والكلام المعسول فالجمال يكمن في داخل الروح, وأعلم أنه ليس الجميع مخلص لك يأمن سرك وفيا لقلبك, هم مخلصين لك وقت الحاجة والعوز فبمجرد انتهاء المصلحة يتغير ويتبدل اخلاصهم لك, ويهرولوا للبحث عن فريسة جديدة, فاحفظ كرامتك حتى لو كلفك الأمر أن تصبح وحيدا, وأبحث عن الراحة ولو بعلاقة واحدة مثمرة قبل أن تموت, ولا تستهلك مشاعرك واخلاصك مع أناس لا يحفظون الود ولا يصونون العشرة لأن أيامك لن تعود وأنت لا تملك سوى عمر واحد فافعل ما يسعدك.
يقول الامام الشافعي رحمه الله ” جزى الله الشدائد كل خير, عرفت بها عدوي من صديقي” كثر في هذا الزمن من يتصنعون ويتلونون ويحترفون اختيار الأقوال والعبارات المنمقة الرنانة المعسولة المزخرفة بدافع الصداقة والأخوة والمحبة والاخلاص, ويمثلون على ساحة المسرح بإتقان ودقة, ولكن حين تعصفت بك الأيام ستكتشف وجوههم ومواقفهم الجبانة, فكن حذرا واستفق من غفلتك وسباتك وتوقف عن اعطاء الفرص للناس التي تبجحت وتطاولت واستهلكت طاقتك بالشرح والتبرير لأنك بررت بما فيه الكفاية بحياتك ودفعت فاتورة صحتك ووقتك وحياتك, ولأن حقيقتهم تعرت واختفي نبلهم وتجلي شرهم, مهما كانت الأقوال جميلة تبقي بلا قيمة أمام الأفعال والتصرفات العملية التي تختصر ألف تنهيدة.
يقول المثل ” العشرة لا تهون الا على أولاد الحرام ” لكنها هانت كثيرا لدى البعض بدون أسباب ولا مقدمات ولا حتى مبررات للذكريات والأيام والسنين, هل هانت لدرجة التطاول والهجوم والتلقيح والجرح! وهل هانت للدرجة التي نسي فيها طعم الملح والعيش و طعم الزاد وأنكره ورمي بالعشرة والسنين عرض الحائط ببساطة. وهل وصل بنا الحال بأن نتغنى بأوجاع الناس بكلمات وأغاني نسطرها عبر الفضاء الالكتروني ونتباهى بعبارات وأشعار وأقوال مثل ” تعاملني بمزاجك أعاملك بالزهايمر وربنا يشفيني ويشفيك” فهل باتت المشاعر والأحاسيس نكته عابرة للقارات.
بين حياة واقعية وأخرى افتراضية، ضاع الكثير من الهويّات والملامح والشخصيات ، أحدهم يَدعي المثالية في عالم فرضته عليه التكنولوجيا السريعة التي لم تمنحه مساحة للتفكير، بل انجرف بين ترسها وعجلاتها المتسارعة، محاولاً الهرولة ليواكب الآخرين، هو واكب الآخرين ولكنه نَسى نفسه في مكان ما !! يقال إنك تستطيع في عالمك الافتراضي وعبر جهازك المحمول، الذي يحملك إليه دوماً، أن تصنع بل تتصنع شخصية تحمل اسمك وملامحك، ولكنها بعيدة عن جوهرك الداخلي ، مغلفة بشكل آخر قد يكون هو ذلك الشكل الذي تمنيته يوماً ، وتتمناه دوماً ولم تستطع تطبيقه في واقع فشلت أنت في تشكيله، وفشل هو في إنصافك!
التطور مهم والتحدي نتيجة فايروس أجبر الانسان على التواصل, حياتنا كلها أصبحت اون لاين نشتري, نأكل ونشرب ونبيع ,كل شيء اون لاين سهل الوقت والجهد لكن بما يتعلق بالمشاعر فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الانسان لأن الانسان مدني بالطبع, إن التواصل مع الناس يجب أن يكون مبني على أسس واضحة من البداية مثل التهذيب والتفاهم والاحترام والرقي بالفكر وتبادل المعرفة والخبرات والمواقف, فما أجمل الشخص الذي يخطأ لكنه يعتذر و ينطق كلمة” أنا آسف” لان الاعتذار قوة ودليل على حسن الخلق والتربية والشجاعة , وقت الأزمات هي المقياس النهائي للتقييم الصادق, فأهم مقياس هو تقديرك لذاتك وليس جلد ذاتك, فاذا نجحت علاقتك بنفسك تجلت علاقاتك بالآخرين وان تعطل تواصلك مع ذاتك تردى اتصالك بالجميع, فاذا هانت العشرة ولم يخش أحد على جبر خاطرك من فلتات لسانه ومزاجه المتقلب وظنونة السوداوية فارحل بلباقة لأنك بحاجة الى رفيق قلب لا رفيق درب, وأرحل عن كل علاقة سامة تشعرك بالسوء وتملئ روحك بالحزن وتلبسك السواد وأنت في ريعان شبابك وأعلم أن خسارة هذه العلاقات مكسب ستحمد الله وستشكر نفسك ألف مره فيما بعد, واحتضن في قلبك من يستحقون أن يكونوا معك في كل مكان من يمنحوك الدفء والأمان والاحترام والثقة والود الأنيق من يجعلونك ترى الحياة بضوء مختلف, من يجعلونك مشع جميل بابتسامتك الرقيقة.
لا تراهنْ على إنسان لا يسأل ولا يكترث لتفاصيل يومك، ولا تراهن على من تخبره بأن روحك تنزف وتشكو غيابه وتشرح له تفاصيل وجعك ولا يكترث, ولا تراهن على من يراك أمامه ولا يلقي عليك التحية, ولا تراهن على إنسان يتجاهل كفاحك وجهادك وصبرك ومعاركك وباعك عند أول منعطف, ولا تراهن على متقلب الود لأنه سيخونك وسيبيعك عند أول مفترق, ولا تراهن على من لم يقدر نعمة وجودك في حياته, ولا تراهن على من سامحته وتجاوزت هفواته وعذرته ألف مره ولم يصنك وأنكر طيبتك ومواقفك النبيلة, ولا تراهن على شخص غادر المكان الذي جمعكما دون أن يلتفت لك, ولا تراهن على شخص يحبك جرائد الغزل علنا والكلام المنمق ليثبت للناس جمال روحه وفكره وقلبه, كفاك تمسكا بالأيادي التي لا تعيرك اهتمام, وكفاك تعلقا بالعلاقات التي تشبه الحبال الذائبة, قلبك يستحق أن يُنصف ولو مرة, أنت تستحق إنسانا رحيما وفيا محبا يتمسك بكل ما أوتي من قوة لا أن تُترك, أنت تستحق إنسانا يسمع اختناقك الصامت ويحترم روحك الأنيقة ويحلل ويفهم نظرات عينك الحزينة ويميز نبرة صوتك أنها متألمة, أنت بحاجة لإنسان غني مفعم بالشعور يكن لك أكسجين الحياة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here