المخاوف اسبابها وعلاجها

المخاوف اسبابها وعلاجها * د. رضا العطار

الخوف هو العاطفة التي تسيطر على حياتنا . وهذه السيطرة تزيد حتى تبلغ حد الطغيان. وعندئذ تفسد النفس فنسلك في غير تعقل. وقد يعود هذا علينا وعلى غيرنا بالأذى والخسارة.

نحن نولد ونحن خائفين. فأن الطمأنينة والدف والأرتياح الذي كنا نجده ونحن اجنة في رحم امهاتنا، نفقده عقب ولا دتنا. واعظم ما نخشاه هو السقوط. ولذلك نجد احلاما وراثية في الأطفال هي السقوط وقلما يخلو طفل من هذا الحلم. وليس هذا غريبا اذا عرفنا أن اعظم ما كان يخيف اجدادنا البدائيين قبل ملايين السنين وهم على اغصان الاشجار في الغابة، هو السقوط على الارض. لأن حلم السقوط هو حلم الخطر القديم الذي كان يهددنا. ولذلك ايضا يولد الطفل وبه غريزة القبض بأصابعه على كل ما يعثر عليه وخاصة بشعر أمّه، وهو لا يزال في الشهور الأولى , والتي تجد الام المشاق في تخليص اصابعه الدقيقة منه.

ثم ينشأ الطفل بعد ذلك في مخاوف عديدة : منها الظلام والأشباح . ثم اذا بلغ الصبا وادخل في المدرسة عرف عذاب الدرس و معاناة العقوبات والتوبيخات من معلمه او من ابويه. ونحن نغرس فيه منذ هذه السن روح الغيرة والمبارياة وكلتاهما تعمل ايضا لتخويفه لأنه يخشى ان يتخلف ويفشل.

ثم بعد المدرسة تزيد المخاوف. فهو يخاف العجز عن كسب العيش او هو يخاف التأخر في مباراة الحياة. وحياتنا عامة تحفل بالمخاوف وخاصة في المدن . فالأم كثيرا ما تحلم بأن ابنها دهسته سيارة. وقد يحلم بعض طلاب الجامعة انهم سقطوا من فوق سطح المنزل خاصة ايام الأمتحانات. وليس الكابوس الا رمزا للخوف يتخذ صورة بدائية وحشية. وجميع هذه الأحلام برهان على ان الخوف مستقر في نفوسنا, اطفالا وصبيانا وشبابا وآباء.

ومجتمعنا القائم على المباراة يزيد الخوف لأن للحظ أثرا كبيرا في النجاح او الخيبة. فالمستقبل مبهم لا يعرف ونحن نتوقع فيه جميع الأحتمالات. نتوقع المرض او الموت وكثير من الكسب او الخسارة. وعرف عن موظفين في الحكومة يقعون في النيوروز , اي العواطف القهرية المحتدة نتيجة معاكسة رئيسهم لهم مما يدخل الخوف في قلوبهم من ضياع الوظيفة. وهنا نجد اثره واضحا بين عدد كبير من السكان في الأقبال على العاب الحظ مثل السباق والرغبة العامة بين الشباب في لعب الطاولة والورق .

عندما يخرج احدنا من البيت صباحا, نراه يستطلع الجو ويتشائم لو سمع كلمة من احد العابرين تنم عن شئم مثل – هذا شلون يوم اكشر – عند العراقي و – نهار اسود – عند المصري. فيفسرها بما يلائم ظروفه التعيسة وحتى لو كانت العبارة – انشاء الله خير – او يأخذ المسبحة ويعد حبوبها او يعد مصابيح الشارع وينتهي بالعد الفردي او الزوجي وهذا يحمله على الأعتقاد بالتفائل او التشائم . وكذلك الحال بالنسبة للطير فيما لو طار من اليمين او الشمال . لأنه يؤمن بالخرافات .

ولعب الورق والطاولة ينهض ايضا على هذا الاساس . وهو ان اللاعب يحس خوفا مستقرا فهو يلعب حتى اذا انتصر، غمرت نفسه سعادة وقتية بأن كل شئ سيسير على ما يرام . فالكلمات العابرة من عد الأعمدة الكهربائية وحبات السبحة ومسارات الطير والعاب الحظ لها قيمة او دلالة رمزية يحتاج اليها الخائف حتى يطمئن . وقد يزيد الخوف عند الأنسان فيؤدي الى معاقرة الخمور هربا من القلق الذي يحدثه لأن شارب الخمر يشعر جرأة، وسيادة، وشجاعة زائفة لا يحسها الصاحي.

كما ان المدمن على التدخين, انما هو خوف مستقر ولذلك يزيده المدمن وقت القلق اي عندما يبرز الخوف. والخائف يحتاج الى رموز تخفف عنه. والعدوان احد هذه الرموز, فهو يعتدي بالسب والشتم والضرب بل يتحين الفرصة كي يشاغب ويؤذي الأخرين, حتى يحس انه غير خائف، بل انه سيد الموقف.

عرف زوجُ، اتضح بعد زواجه ان به عجزا جنسيا. فهو خائف من زوجته اذا عرفت بمشكلته. فكان كل يوم يضربها حتى تركته بالطلاق.

وكلنا يعرف ان الضعيف الخائف يلتجأ دوما الى العنف, مثلما يلجأ الموظف الذي يخشى النقد والفضيحة الى البطش بلا حساب.

واحيانا نجد رجلا ينعي على الحرية التي يتمتع بها الجمهور على شاطئ البحر لأنه هو نفسه يحس خطورة هذه الحرية على غرائزه ويخافها.

عندما يشتد الخوف، يشتد ايمان الانسان بعقيدته. فالأم التي تخاف المرض او الموت ان يقع لطفلها تؤمن بالشعوذة والخرافات فتربط على رسغه ورقة كتب عليها كلمات سخيفة او خرقة خضراء. او تعتقد بالفال وفي دعاء رجل مسن . كما تخشى العين. لذلك نجد ان الناس لا يستطيعون النقاش بشأن العقيدة. لأننا حين نناقشهم في هذا الموضوع وكأننا نقول لهم : عودوا الى الأحساس بالخوف واخرجوا من هذه الطمأنينة الروحية التي انتم تنعمون بها. علما ان الرجل الخائف يجد في العقيدة سندا عظيما. وان رجال الدين الذين ينشرون عقيدة ما ينجحون اكثر من اولئك الفلاسفة الذين يخاطبون الجماهير بالمنطق . لأن الجماهير التي يعمها الخوف ترتاح الى العقيدة المطمئنة، اكثر من الذي يحاول ان يهز عقلهم بالمنطق.

والخوف يعمنا جميعا لكن بدرجات متفاوتة. لأن واقعنا جعل حياتنا تكون منذ ميلادنا الى يوم وفاتنا حافلة بالأخطار. ولذلك فان الشجاعة هي السلامة النفسية. وعلى قدر ما يملك كل منا من الشجاعة يكون سليما. ولكن من ناحية اخرى يمكن القول اننا اذا كنا لا نحس الخوف بتاتا فأننا لا نجد الحافز للتفكير والعمل. فقليل من القلق ينبهنا ويحثنا ويوقظنا. ولكن لا ينبغي ان يكون هذا الخوف او هذا القلق ثقيلا طاغيا, لأنه عندئذ سيجلب الغموم الي النفس ويجمد الذهن ويركد الجسم . وهنا نعرف ان السعادة هي وليدة الشجاعة. شجاعة العقل المنير وليس شجاعة العاطفة العمياء.

فعندما يخاف الحيوان يعمد الى الفرار ابتعادا من مصدر الخوف, بينما الأنسان عندما يفر من مصدر الخوف يلجأ الى الخمرة. وفراره هنا يتسم بالهرولة. فإذا وجدت رجلا يهرول ويتعجل في اعماله فأعلم انه خائف. وان اسلوب الرجل في وظيفته يعكس اسلوب حياته داخل اسرته. فلو كان في الأول متعجل مهرول, كان كذلك في الثاني ولهذا السبب هو سيء العلاقة الزوجية .

وقد نجد رجلا يكره اخلاق الشباب والفتيات ويدعو الى حياة الاسلاف خوفا من ان يجابه المستقبل المجهول. لأن العادات الجديدة قد تعرضه الى اخطار جديدة. وخوف الزوجة الدائم بخصوص بقاء زوجها خارج البيت, يؤدي الى غيرة جنونية. لهذا نقول ان المجتمع الحسن هو الذي تقل فيه المخاوف وتعم فيه الشجاعة اكبرقدر ممكن.

عندما نكون اطفال، ننشأ إما على الشجاعة والأقدام او على الجبن والحذر, فأن الأسلوب الذي نأخذه من أبوينا يبقى متأصلا في سلوكنا الى ان نبلغ سن الشيخوخة ما لم تحدث لنا حوادث جسيمة تغيره. فالطفل الذي قضى فترة طفولته بين ابوين خائفين حذرين ينشأ على الخوف والحذر , والطفل الذي لم يكن مطمئنا على حياته, لأنه كان يُضرب في طفولته او لأنه كان يجد شجارا لا ينقطع بين أبويه, هذا الطفل لا يجابه الدنيا في شجاعة وبشر، بل يحاول الفرار . فهو يخنس ويتراجع كلما دهمته كارثة, ويبقى خائفا طول عمره. اما ذلك الطفل الذي قضى طفولته وهو يجد الهمة والصراحة والجرأة من والديه وسائر اعضاء اسرته، كأن يكون قد قضاها في بيت هادئ وديع يعمه الوفاق ودفئ المحبة, هذا الطفل اذا شبّ ووقعت له كارثة, استطاع ان يتحملها ويجابهها في قوة وعزم. لأن اسلوب معاملة الطفل الصحيح قد لازمه منذ ذلك الحين .

ففي احدى المستشفيات لدولة عربية في القرن الماضي، عُرفت حالات مرضية نفسية لعشرات طلاب الجامعة. كلهم كانوا يعانون من توترات نفسية شديدة. وبعد ان خضعوا الى التحليل النفسي الدقيق من قبل الأخصائيين, ظهر ان غالبيتهم كانوا اثناء طفولتهم يعاملون من قبل ذويهم بقسوة تتسم بالضرب المبرح. بالأضافة الى ذلك كانوا يعانون من الكبت الجنسي بدرجات متفاوتة وكذلك الخوف من الرسوب في الأمتحانات القادمة.

ان مجتمعنا يمنعنا من الأعتراف بالخوف. فالتلميذ يخاف الأمتحان ويخجل ان يذكر ذلك. والجندي يخشى القتال ولا يبوح بما في نفسه. والفتاة تخشى ان يتأخر بها سن الزواج وكرامتها تمنعها من ذكر ذلك. والزوجة تخشى الضرة وهي ساكتة، وكذلك تتحاشى الكهولة التي تنقص من جمالها لكنها هادئة. والأم تخشى المرض لأولادها. وكلنا نخاف الفقر، ولذلك نحن قلقون .

كلنا نخاف لكننا ننكر اننا نخاف كتلك الأم التي تخاف على ولدها من حوادث المرور لكنها لا تمنعه من الذهاب الى المدرسة طبقا لمقتضيات الحضارة .

والخوف احساس بدائي حيواني يتصل بفسيولوجية الجسم منذ القديم , قبل ان يتكون البشر. والخوف يهجم بقوة بدائية مرغمة بحيث لا يستطيع دماغ الأنسان ضبطه او محوه او منعه من الخطر. ولذلك عندما نحبس هذا الأحساس نجد انه قد التوى علينا. يعود الينا في وساوس يقلقنا ,يرهقنا، يزيد من همومنا. واحيانا يندس في اعضائنا الداخلية فيفسد امعائنا بالأسهال او يصيب معدتنا بالقرحة أو قلبنا بالخفقان او راسنا بالدوار .

ويجب لذلك ألا نقاوم الخوف انما نعالجه, والعلاج هو الأمتناع عن الكبت. بل نبوح بما في النفس الى صديق او زوجة. معنى ذلك ألا نجتر الموضوع الذي نخافه لأن الأجترار هو استهلاك لا علاج. والافضل ان نعيش في مجتمع لم يكن غارقا في مباراة الأقتناء التي تبعث على الجهد المضني وتثير الحسد والغيرة. والمجتمع الريفي أهدأ لأن المطامع فيه محدودة. والبيئة الملائمة هي تلك التي تهيئ للفرد ضمانات اجتماعية كما هي الحال في انكلترا, مثل التعويض عن العطل و المعاش بعد سن التقاعد و المعالجة المجانية و التعليم المجاني. كل هذه الضمانات تبعد الخوف عن الأنسان.

هناك علاج اشبه بالوقاية وهو ان تتعدد اهتماماتنا حتى لا يستأثر اهتمام واحد بكل قوانا النفسية. ومن الأفضل ان يهتم التلميذ الذي يخاف الأمتحانات بأرتياد دار السينما الى جانب دروسه, وعلى الأباء ألا يعتبروا ذلك مضيعة للوقت وكذلك الحال بالنسبة للتاجر, عليه ان يسري عن نفسه بالقراءة او النشاط الأجتماعي والرياضة ايضا.

* مقتبس من كتاب محاولات للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here