معركة الملك نارام ـ سين مع الآلهة ( لعنة أكد )

لعنة أكد ؛ هي قصة تعود إلى فترة أور الثالثة من بلاد الرافدين ( عام 2047-1750 قبل الميلاد) ؛ رغم الاعتقاد أنها أقدم من ذلك التأريخ . تلك القصة تحكي لنا عن الملك الأكدي ” نارام ـ سين ” (عام 2261-2224 قبل الميلاد) في مواجهته للآلهة وخاصة الإله “إنليل ” .

 يعتبر “نارام ـ سين” من أهم ملوك الإمبراطورية الأكدية بعد مؤسسها (جدّه) “سرگون الكبير” (عام 2334-2279 قبل الميلاد). حيث قام بتوسيع حدود الإمبراطورية ، وعزّزها في السلطة والهيبة والقوة العسكرية .

أصبح نارام ـ سين وجدّه مادة أدبية في العديد من الحكايات والأساطير على مرّ قرون عدّة . فقد كانت قصصهم من بين الحكايات الأكثر شهرة في جميع أنحاء بلاد الرافدين خلال فترة حكم الملك الآشوري “آشور پانيپال ” ؛ وذلك عندما أمر في جمع واقتناء الأعمال المكتوبة من بقاع الأرض المختلفة وحِفظها لدى مكتبته الشهيرة في نينوى (القرن السابع قبل الميلاد) ، ومن ضمنها المجموعة الكبيرة من قصص الملوك الأكديين .

 

أصل الحكاية

لعنة أكد ؛ هي نوع من أنواع الأدب الرافديني القديم الذي ظهر في الفترة الاكدية ، ويُعرف باسم ” أدب نارو” ، وعادة  ما يتميز في حضور شخصية مشهورة (ملك) من التاريخ ومنحها دوراً رئيسياً في حكاية مواعظية تبيّن علاقة البشر مع الآلهة.

في الحقيقة ؛ هذه القصص من ذلك الصنف الأدبي في الأساس لاتُعد تاريخية بحتة ، أو على أقل تقدير يمكن اعتبارها {شبه تاريخية} . القصة المعروفة باسم “الثورة الكبرى” على سبيل المثال ؛ ربما تكون مبنية على انتفاضة جماهيرية وقعت في وقت مبكر من عهد الملك نارام ـ سين ؛ ولكنها لا تتعلق في الأصل مع أحداث قصتنا ( لعنة أكد ) بشكل واقعي ، وينطبق ذلك الشيء نفسه على القصة التي أصبحت تعرف باسم ” أسطورة كوثا “، والتي تتعامل أيضاً بشكل مباشر مع الملك نارام ـ سين .

من خلال تلك القصص وغيرها قد جعلت من الأجيال اللاحقة أن تربط شخصية نارام ـ سين مع أسطورة لعنة أكد ، والتي تروي قصة تدمير مدينة أكد بمشيئة الآلهة ؛ بسبب معصية ملكها (نارام ـ سين) . كما أنها تعالج بشكل مثير للغاية مشكلة المعاناة التي تبدو بلا معنى عند تصويرها لمحاولة الملك  نارام ـ سين في انتزاع سبب بؤسه من الآلهة عن طريق القوّة .

 

وفقاً للنص المذكور في الألواح الطينية ؛ فقد رفع الإله السومري العظيم “إنليل” رعايته عن مدينة أكد، وبسبب ذلك ؛ فقد مُنعت الآلهة الأخرى من دخول المدينة ومباركتها .

لا يعرف نارام ـ سين ما يمكن فعله لتحمّل هذا الاستياء الإلهي ؛ لذا فهو أخذ يصلّي ويسأل عن البشائر والتنبؤات ، ومن ثمّ يقع في اكتئاب مدته سبع سنوات وهو ينتظر إجابة شافية من إلهه. أخيراً سئم الانتظار ، وكان غاضباً طوال الوقت لأنه لم يتلق الإجابة ، حتى أنه أعدّ جيشاً سار به إلى معبد إنليل في “إيگور” عند مدينة نيپور كي يدمرّه .

“يضع المجارف على أعمدته ليهدمها ، ومعاوله في الأساسات ليقلعها ، حتى بدا المعبد ساجداً مثل محارب قتيل” (ليك ، اختراع المدينة ، ص 106).

هذا الهجوم العسكري العنيف ؛ بالطبع الذي أثار غضب ليس فقط الإله إنليل ؛ بل الآلهة الأخرى أيضاً الذين بدورهم قد بعثوا “الگوتيوم Gutium ” (وهم أقوام لا يعرفون الخوف ، يمتلكون غرائز بشرية ولديهم ذكاء الكلاب وخصائص القرود) ، لغزو مدينة أكد وجعلها أطلال . إذ خلّف ذلك الغزو المجاعة الواسعة لشعبها والدمار الرهيب للمدينة  ، وحتى جثث الموتى تُركت متعفنة في الشوارع والمنازل ، والمدينة بأجمعها كانت في حالة خراب . وعند نهاية القصة تنتهي مدينة أكد والإمبراطورية الأكدية بسبب غطرسة ملكها تجاه الآلهة .

 

على الرغم من شيوع هذه القصة ؛إلاّ أنه لم يُعثر على دليل تاريخي يثبت صحة تلك الواقعة في تدمير معبد إنليل ، وخراب إيگور في مدينة نيپور من قبل الملك نارام ـ سين . ويُعتقد أن لعنة أكد كانت حكاية قد كُتبت وأُضيفت لاحقاً للتعبيرعن ” قلق عقائدي لتثبيت شروط العلاقة المطلوبة بين الآلهة والملك المُطلق اليد “(ليك ، ص 107) . وقد اختار مؤلف تلك الحكاية مدينة أكد وملكها نارام ـ سين على رأس الحدث بسبب وضعهم الأسطوري في ذلك الوقت . لكن في الواقع ؛ أن الملك نارام ـ سين وحسب السجلاّت التاريخية كان كريماً مع الآلهة ، وتقيّاً مُلتزماً في إخلاصه لها . على الرغم من أن أدب نارو كان صنفاً شائعاً جداً في بلاد الرافدين ، إلاّ أنه في الغالب وعلى ما يبدو أن أحداث الماضي التي أوردتها تلك القصص قد أصبحت مقبولة كتاريخ حقيقي فيما بعد .

 

 أن لعنة أكد قد تعالج العلاقة المفترضة بين الآلهة ( الخطوط الحمراء ) والملك ، إلاّ أنها طرحت مشكلة تتعلق بمعاناة الملك وإرادة الآلهة التي لم ترد عليه ، وعليه هناك سؤالان يُنتظر الإجابة عليهما :

السؤال الأول : قبل كل شيء ؛ لماذا سحب الإله إنليل رعايته من مدينة أكد ؟

السؤال الثاني : لماذا لم يحصل الملك نارام ـ سين على أجوبة لأسئلته التي رفعها إلى الآلهة طيلة السنوات السبعة من الانتظار ؟

 

تتجلّى مهنية الكاتب القديم المجهول بشكل جيّد خلال النّص ؛ من أنه لا توجد إجابة على تلك الأسئلة مطلقاً . كما في حياة البشر؛ إذ لا توجد إجابة مُقنعة على الإطلاق في التعامل مع سبب معاناة البشر. الإله إنليل رفع رعايته وحمايته عن المدينة ؛ لأنه كان يريد ذلك فحسب ؛ ولا يوجد سبب آخر غير ذلك !

هذا المشهد في ترتيب الأحداث يختلف تماماً عن سفر( العمل ) التوراتي ؛ حيث يسمح الإله يهوه لإبليس في تحطيم حياة النبي أيّوب بغرض (كسب رهان ) . الإله إنليل ؛ ليس تحت مثل هذا الضغط أبداً ؛ وكان يمكن أن يترك مدينة أكد لوحدها أن تنمو وتزدهر بسلاسة دون تدخل منه أو غيره من الآلهة .

فسّر بعض العلماء مثل “جيريمي بلاك” ؛استياء إنليل جاء بسبب رفضه الاعتراف بـ (نارام ـ سين ) كملك شرعيّ على أكد . وحسب تحليل بلاك ؛ أن إنليل قد منح مدينة أكد نعمته ورعايته ، وكذلك حمايته لها في عهد الملك العظيم ( سرگون ) ، لأنه لا يعترف بشرعية غيره من الملوك الذين حكموا من بعده . وحسبما جاء في القصة ؛ فإن الملك نارام ـ سين ليس في وضع يسمح له معرفة ذلك .

 

بداية استياء الإله إنليل

تبدأ القصة بالحياة المثالية التي كانت سائدة في مدينة أكد مع تدفق جميع ثروات المنطقة اليها من خلال بوّاباتها حتى السطور (56-65 ) ؛حيث بدأ الانتقال الأول . وجاء في السطر( 56) ، ” لو أنها كانت مواطنة هناك ، عندئذ لا تستطع كبح رغبتها في جعل الأرض معبد ” . ( المواطنة ـ المقصودة هي الإلهة إنانا )

هذا يعني أن الإلهة إنانا مع الاعتراف بجميع الثروات التي كانت تحت تصرف مدينة أكد ؛ شعرت أنه يجب تكريمها اسوة بالآلهة الأخرى ، وأن يكون لها نصيب في تلك الثروات (تماماً مثل شعور رجل الدين في المدينة) . ولكن في السطر الذي يليه ؛ يفهم القارئ من أن ” التنويه الصادر من إيگور كان مُقلقاً ” . مما يعني أن إنليل لم يشعر بنفس الطريقة حيال وضع المدينة الراهن ؛ ولم يعط الموافقة في بناء المعبد ، مما يدل على استيائه من أكد .

سبب هذا الاستياء كما ذكرنا سابقاً ؛ لم يُعرف أبداً، ولكن تفسير البروفيسور بلاك ربما أقرب إلى الصحيح ” إذ يجب أن يكون هناك ملك شرعي واحد ، ولن يقبل الإله إنليل عن نارام ـ سين في أن يكون ملكاً على مدينة أكد “.

عندما تبدأ الحكاية بتدمير الإله إنليل لمدينة “كيش” الجنوبية القوّية ؛اِنهارت البلاد ، واختير الملك سرگون لحكم بلاد الرافدين بأكملها “من السهول إلى الجبال” (السطر 5).

إنانا ؛ التي كانت الإلهة الراعية وحامية الملك سرگون ؛ قد اختارت منزلها في مدينة أكد لمراقبة ملكها المحارب .ولا يوجد أي ذكر للاضطرابات والمشاكل حين مُرّرَ الحكم من سرگون إلى نارام ـ سين . بيد إن موقف الملك نارام ـ سين ؛ هو نفسه موقف القارئ ؛  عندما يُتركان دون إجابة عن سبب سحب الإله إنليل رعايته وحمايته من المدينة !

 

تدمير الملك نارام ـ سين لمعبد الإله إنليل

في الحلم يرى الملك نارام ـ سين ؛أن مستقبل مدينة أكد مُظلم ، ويفرض على نفسه فترة من الحداد والصلاة لمدة سبع سنوات ، وفي حالة من التوبة في انتظار الجواب من الآلهة. وقد قرّر في حال إن لم يأت جواباً منها ؛ سوف يذهب إليها ويجبرها على الإجابة .

كان يُعتقد أن آلهة بلاد الرافدين تعيش فعلاً في معابد المدن . فعندما يدّمر الملك نارام ـ سين “الإيگور” ، هذا يعني إنه يدّمر منزل الإله إنليل الحقيقي وليس مجرّد بيت عبادة رمزي . قراءة السطور (127-128 ) من القصة ، “يمكن للناس أن يروا غرفة النوم ، غرفته التي لا تعرف ضوء النهار . ويمكن للأكديين النظر في صندوق الكنوز المقدّس للآلهة” .

هذا الفعل الذي يتجاوز المقدّسات في التدمير المتعمّد وتدنيس منزل الإله ، وسرقة ممتلكاته الخاصّة ؛ كانت تلك ردود أفعال من الغضب العارم الذي اعتصر قلب الملك نارام – سين ، و إحباطه الكبير جداً ؛ لدرجة أنه شارك في أكثر أنواع الأفعال التي لا تُغتفر، ذلك كله بسبب صمت إلهه.

في تدمير إيگور زاد الغضب ؛ لأن الآلهة الأخرى انحازت تماماً الى الإله إنليل ، وفي محاولة لإنقاذ بقية مناطق الأرض من المجاعة المُهلِكة وشراسة الگوتيين ؛ فقد أُعلن نارام ـ سين أن أكد ؛ “مدينة ملعونة ؛ وأرضها مُقفرة ” .

بصرف النظر عن العلاقة الصحيحة بين الآلهة والملك ؛ فإن القصة كانت قد حذرّت أيضاً من مواجهة الآلهة بالعنف ؛ سواء كان ذلك جسدياً أم لفظياً ؛ وإن حصل ذلك ؛ سوف يُقحم المرء نفسه في معركة لا يمكنه الفوز بها أبداً .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جويندولين ليك ـ اختراع المدينة في بلاد الرافدين ـ بينكوين للنشر ـ 2003 .

جيريمي بلاك ـ الأدب في سومر القديمة ـ مطبعة جامعة اكسفورد ـ2006 .

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here