ما حقيقة أن العراق يعيش اليوم ربيع الحرية والديمقراطية
فرات المحسن
في مثل هذا المبحث تتبادر إلى الذهن الكثير من الأسئلة البحثية في محاولة لمقاربة المشهد بجميع تجلياته، فمثلا هل أن مواطني العراق يتمتعون بنوع من المساواة؟. هل أن معايير الديمقراطية تمارس داخل مؤسسات الدولة؟ ما هي وقائع الممارسات الديمقراطية في الوسط الحزبي.
في مقدمة كل هذه الأسئلة يطرح التساؤل الأكثر حيوية عن طبيعة المؤسسات الكافلة للعملية السياسية، والمعنية بضبط إيقاع الأحداث، وارتباطها بالهدف الرئيسي وهو بناء دولة القانون والديمقراطية. بمواجهة تلك النقاط المثارة تبرز إلى الواجهة أسئلة كثيرة بالغة التعقيد لا تجد لها أجوبة وافية وشافية، بل تذهب بعيدا لتربك المشهد بعمومياته، وتفرض عالما من اليأس والفوضى المقلقة، حول مستقبل العملية السياسية في العراق وبالذات بعد اشتداد الصراع السياسي حول نتائج الانتخابات الأخيرة.
فما فتأت الكثير من المسائل القانونية والإدارية عالقة من جانب وغامضة من جانب أخر، وتحوي الكثير من الثغرات والعقد المنهجية، وتحتاج لإعادة قراءة وترتيب عياني عقلاني، يحيط بمجمل اللوحة، لتدارك تداعيات المآل الذي دفعت إليه العملية السياسية الاجتماعية برمتها، من قبل أقطاب إدارة الدولة بعد سقوط الدكتاتورية عام 2003 ولحد الآن.
الكثير من مؤسسات السلطة تستغل العديد من الثغرات القانونية في متن الدستور والتشريعات البرلمانية لتدير العملية السياسية، والشأن العام والحكومي، وحتى معالجة الأحداث الكبرى، ويتخذ ذلك وفي الكثير من الأحيان، طابع السرية والتمويه وطمس المعلومة بناءً وعلى وفق طرق المحاصصة وغلق الملفات بالتراضي، أو تشكيل لجان تحقيق للتمويه وإضاعة الوقت ومن ثم إنهاء الحادث بوضعه في جعبة المجهول. ولحد الساعة لا يعرف المواطن عن نتائج أغلب الأحداث غير نتف من أخبار تتداولها وسائل الإعلام بشكل متواتر ومشوش ودعائي مربك.
الزعم بأن خروج القوات الأمريكية يمثل نهاية لمرحلة يمكن تجاوزها، لا بل مقدمة لتعميق نهج الديمقراطية، وتشديد قبضة السلطة وسيطرتها على الملف الأمني بكافة تشعباته، وتصعيد قدرتها على تبني سياسات اقتصادية اجتماعية ناجحة، كل هذا يبدو مثل أحجية يراد بها تغليف ما هو غير واقعي، بشيء من الغلبة العاطفية بحجة وجود محتل ووجوب محاربته.
في ظني أن مثل هذا الزعم فيه الشيء الكثير من الإسفاف والمبالغة، لا بل الاستخفاف بالوقائع إن كان الأمر يتطلب وقفة جدية عند اللحظة الراهنة، أو النظر نحو مستقبل بناء الدولة العراقية الحديثة. ولكون القضايا والمواقف التي تواجه عملية البناء شائكة وبالغة الصعوبة، فهي تتطلب العديد من الاشتراطات كي تتمكن الدولة العراقية السير نحو عملية البناء الصحيح كبلد ديمقراطي بعيدا عن التنميق والتزويق المخادع.
تبدو الخلافات الشخصية وانعدام الثقة بين أطراف القوى السياسية، والتي تسيطر على مقاليد السلطة، واحدة من الإشكالات والعقد الكبيرة، تجاوره العمليات الإرهابية وما يماثلهما من عمليات نهب واسعة لموارد الدولة، وفساد إداري مستشرٍ وعميق،وسلاح منفلت ومليشيات تتحكم بمصائر الناس. كل ذلك وغيره يمثل العقبات الكأداء في وجه الانتقال نحو خيارات أفضل لبناء دولة عراقية حديثة، تتمتع بهياكل مؤسسات قانونية ديمقراطية، وهذا الشيء يخضع في المقدمة للإرادة الحقيقية والجدية، ونزوع حقيقي لدى قوى سياسية تتبنى مشروع الخيار الوطني الديمقراطي كمنهج، ليس فقط للإدارة وإنما كسلوك عام داخل أروقتها ومؤسسات الدولة. ففي رحم العملية السياسية اليوم مسائل بالغة التعقيد والأهمية، تم أفراغ محتواها، بل وبشكل متعمد تم اقصاؤها بعيدا، لتستخدم بدلا منها خيارات سياسية، يتعذر معها حماية الأفكار والمحاولات الديمقراطية حتى في جوانبها البسيطة.
الديمقراطية في العراق تعد ظاهرة حديثة بكل تجلياتها، ولم يظهر منها غير الجوانب الهامشية التي لا تمثل الجوهر الحقيقي للديمقراطية، فما نشاهده من مظاهر وظواهر، لا تمثل قطعا صورة من صور الحريات المدنية أو السلوك الديمقراطي، ومثل هذا النموذج المشوه نجده في الكثير من البلدان التي تقدم نفسها كنموذج للديمقراطية ولكن طبيعة مؤسساتها السياسية والإدارية شبيهة بمؤسسات دولة العراق في جوهرها الفوضوي القسري، لنكتشف معه عن هزال وهشاشة وتضليل وخراب عام، غالبا ما يكون على حساب مؤسسات الدولة وتشكيلاتها، حين تهمش طبيعتها القانونية الاعتبارية وحيويتها الفعلية، ليترافق ذلك بنحر متعمد للقوانين والسلوك الإداري وتقصى بعيدا القيم الإنسانية والقوانين والحريات، لصالح مصالح شخصية وفئوية وحزبية.
إن كان الاحتلال الأمريكي قد مثل نتيجة حتمية لسياسات صدام حسين المتهورة، فأن العراق وبذات الأسباب، قد أرتهن تحت طائلة الفصل السابع من قرارات الأمم المتحدة، والتي تعد التحدي الأكبر لا بل الأهم لوضع العراق السياسي والاقتصادي وموقعه بين الأمم بعد انسحاب الأمريكان، فالقرار يضع العراق وشعبه مرتهن لجملة إجراءات كابحة على مستويات عديدة، لذا فخروج القوات الأمريكية لا يشكل نهاية المطاف مع بقاء العراق خاضعًا لبعض بنود غير ظاهرة من الفصل السابع من القرارات الأممية، ودائما ما تتخذ ذريعة لتهديد شرعية سلطته. ولكن مثل هذا الأمر لا يمنع السلطات أو الكتل والأحزاب المشاركة في العملية السياسية، ولا يعيق سعيها لبناء دولة ديمقراطية حديثة، أن كانت لديها رغبات حقيقية ونوايا حسنة ومشاعر وطنية لذلك، ولإبعاد تدخل الغير في شؤون البلد وقراره السياسي السيادي. فاستحقاقات الداخل تمثل الاختبار والخيار الحقيقي لجدية كل هؤلاء ونواياهم في موضوعة بناء الدولة الديمقراطية العصرية. ولكن المسائل العملية ما كانت لتبنى بالتمنيات والرطانة السياسية بقدر ما تحتاج إلى فهم صائب لموضوعة الديمقراطية والأيمان بضرورتها، والإقرار بصوابها كطريق للحكم وتنفيذ شروطها الموضوعية وفي مقدمتها القبول بالتداول السلمي للحكم.
إن أريد شرعنة الحياة السياسية في العراق وفق النموذج الديمقراطي، فآليات عمل النظام ومؤسساته السلطوية، يجب أن تخضع لمعايير ذات طبيعة محددة، وأن تتوفر هناك مؤسسات تكفل مثل ذلك التوجه. فحتى عمليات فرض القانون وتطبيقه ومحاربة الفساد الإداري، من الموجب أن تتماثل طبيعة حلولها مع تلك المعايير الديمقراطية، ولن تكون تلك الإجراءات بكليتها صالحة، إن لم تكن ديمقراطية، وأن لا يقتصر ذلك على محاولات إنهاء الخلافات والصراعات بمختلف تلاوينها، وإنما أيضا اعتبار الديمقراطية وسيلة للقضاء على المصالح الشخصية السياسية منها والاقتصادية والفئوية.
الإدعاء بالسلوك الديمقراطي لا يشفع لهياكل ومؤسسات السلطة في العراق بممارسة عملها، دون أن تواجه الفضح والكشف عن طبيعة ذلك الإدعاء. فهناك وهذا مشخص ومعروف، الكثير من القصور ليس في مستوى الوعي بطبيعة الديمقراطية، وإنما خلو تشكيلة السلطات الثلاث من تشريعات وقواعد تعد ركائز أساسية وضامنة للسير وفق النموذج الديمقراطي. وتختفي في خضم الصراع السياسي بين الفرقاء، تشريعات أساسية ممهدة، لا بل هي من صلب البناء الديمقراطي. فلحد الآن تفتقر الدولة لقوانين عديدة منها قانون لمفوضية انتخابات مستقلة بشكل حقيقي وناجز لا لبس فيه، وليس كما عليه الحال حتى وإن كانت من صلب القضاء. حيث تتقاسمها خيارات ومصالح حزبية وشخصية، ومثلها باقي المفوضيات من مثل النزاهة وحقوق الإنسان.
وتتخاصم الكتل الحاكمة اليوم حول برنامج يضع نموذجا متوازنا لقانون الإحصاء السكاني يكفل الحصول على طبيعة التشكيلات السكانية وحاجاتها الأساسية، وحراكها وفاعليتها ككتل وأشخاص لهم مواقعهم المكفولة الحريات، في بلد متعدد الطوائف والقوميات.أيضا تخلو العملية الانتخابية ليس فقط من تعداد حقيقي للسكان يساعد على بناء الثقة في توزيع المقاعد البرلمانية حسب الحصص السكانية الحقيقية. وما عاد هناك قانون ثابت للعملية الانتخابية يأخذ في الحسبان الخيارات المثلى للناخب وحقيقة التركيبة السكانية للعراق، وهذا يشكل واحدا من شروط إنجاح العملية الانتخابية. وفي ذات الوقت يحاذر أغلب قادة السلطة من وضع قانون مجلس الخدمة بصيغة علمية عملية، تبعد الأحزاب السلطوية وتحجب عنها القدرة في مسائل السيطرة على التعيينات والوظائف في مؤسسات ودوائر الدولة، مثلما يحرص الكثير من الفرقاء على نبذ أي محاولة لوضع قانون لمؤسسة ديوان الرقابة المالية.
جميع تلك الهياكل والتشريعات، تعد من الشروط الموجب توفرها في دولة تسعى لتكون سنن القوانين، رافع رئيسي لشرعية السلطة. ولكننا نرى أن الحال لا يقتصر على اختفاء وتغييب تلك الهياكل والتشريعات، بل تحرص الأحزاب المشاركة في إدارة السلطة على تسيير العملية السياسية على وفق منطق الأهواء والرغبات، وحصر الصلاحيات وتمرير القوانين من خلال رؤساء الكتل أو الرجال الأقوياء فيها، مع طمس أصوات وتكميم أفواه، ومنها أعضاء مجلس النواب. فعملية التصويت في البرلمان مازالت تخضع لإجراءات العد برفع الأيادي، رغم أن برلمانات بلدان فقيرة اعتمدت التصويت الالكتروني، تحاشيا للخطأ وسرية الخيار، ولكن في العراق تصر الكتل وقادتها على ارتهان أعضاء قوائمهم، في ذات دائرة الكتلة، ومنعهم من قول ما يخالف ذلك، لذا لن يرى التصويت الالكتروني النور، ما بقى تقاسم السلطة وفق طرق المحاصصة والتوافق على إغلاق وحصر دائرة القرار بيد رؤساء الكتل وقادتها، وليت أن الأمر في البرلمان يقتصر على ذلك، ولكنه يذهب بعيدا ليقف رؤساء الكتل البرلمانية وتوابعهم، موقفا غريبا ومنحازا وبالضد من الديمقراطية حين يتم الحديث عن تشريع حقيقي لقانون تنظيم عمل الأحزاب في العراق.
إن مثل هذا الكم من المخالفات يجعل نموذج الدولة في العراق، لا يخرج عن طبيعة التجريب السياسي بمسمى الديمقراطية، والذي يسمح بأن يطلق على مثل هذا النموذج الفريد من نوعه بين البلدان، ببلد ديمقراطية الرطانة والهذر ليس إلا.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط