حارة في بغداد… الأرضروملي

حارة في بغداد
الأرضروملي
خالد جواد شبيل

هذه رواية كتبها الأستاذ توفيق الناشىء، تغطي عقد الخمسينيات وبزيادة سنتين من الستينيات، أي الفترة الملكية لعقد كامل وحقبة الجمهورية لأربع سنوات وخمسة شهور لتحط بالقارىء قبيل انقلاب الثامن من شباط في عام 1963؛ وهي فترة غنية بالأحداث والمنعطفات السياسية لعب فيها الحزب الشيوعي دور ربان السفينة التي تلاطمتها الأمواج العاتية حتى إبان ثورة الجمهورية الأولى، أما مكان الأحداث فهو في بغداد وتحديداً في حارة من صوب الكرخ تدعى الزرملي! وبهذا جعلها الروائي عنواناً ثانوياً (سبتايتل) وكان يمكنها أن تكون: “حارة الأرضروملي” حيث يكون شد القارىء أكبر وإن كان لا بد من توضيحها يمكن إضافة البغدادية..
والأرضروملي هي عائلة نزحت من مدينة أرضروم التركية، وكان من أبرز وجوهها إبراهيم الأرضروملي الذي اغتنى وأصبح صاحب ثروة وجاه من رئاسته لوظيفة جباية رسوم الدفن من الباكستانيين والهنود والأندونيسيين والإيرانيين والأفغان ..الخ، الذين يرومون دفن موتاهم في العتبات المقدسة خصوصاً في النجف وكربلاء والكاظمية، ومن أملاك الأرضروملي بستان يقع في طرف بغداد يجهز المدينة بالخضروات يوميا وبالفواكه موسمياً.. ومع توسع بغداد أصبح البستان حيّا سكنياً بين علاوي الحلة والشواكة، أصبح يسمى ” الأرضروملي” ويلفظه البغداديون ب “الازرملي” وعزز التسميه هذه أن قدري الأرضروملي نجل إبراهيم ابتنى دار سينما عام 1948 أسماها سينما بغداد اتسمت بجمال البناء المعماري الذي شيّده المعمار الرائد مدحت علي مظلوم (73-1913)، وعن بناية السينما وهيكلها المعماري وخصائصه الجمالية يمكن مراجعة المقالة الوافية للمعمار الدكتور خالد السلطاني (مئوية مدحت علي مظلوم ..سينما قدري الأرضروملي)، تغير اسم الحارة وأصبحت تسمى ب (الدوريين) لانتقال بعض العوائل النازحة من الدور والسكن فيها..
مسرح الرواية هو حارة الأرضروملي حيث سكن الشخصية الرئيسية طاهر فيها وكذالك سكنت سمر الفتاة المسيحية بجوار البيت ليس بعيدا عن المتحف. طاهر الفتى الشيوعي المواظب على نشاطة في المنظمة الطالبية (اتحاد الطلبة العام )، حيث جسد الطالب المجتهد في دروسه والملتزم بقضايا بلده منحازاً الى الجماهير المسحوقة، وإذا قلت أن الرواية واقعية قد لا أفيها حقها هي أمينة للواقع وتطرح شخصيات حقيقية بأسمائها الصريحة مثل الشهيد ستار خضير والمناضل الراحل كريم الحكيم والراحل صالح دكلة، والعبلي وأبو العيس وأبو سعيد و سلام عادل..الخ، والأحداث مزدحمة كثيرة الانعطافات حتى ليبدو لمّها وسبكها في بناء روائي محكم أمراً عسيرا، استطاع الأستاذ أن يضفي من تجربته الشخصية التي تحمل مصداقية الوصف الدقيق والتحليل السليم للأحداث وصدق الانتماء للحزب الشيوعي، وعكس تجربة اعتقاله عدة مرات في العهدين الملكي والجمهوري، مع النفي الى راوندوز في شمال الوطن (كردستان)، وما تعرض له من تعذيب هو ورفاقه سببت لقسم منهم التضحية بمستقبلهم الدراسي إضافة الى ما كان ينتج من اشتباكات مع شرطة العهد البائد وحتى الجمهوري من مخاطر وتضحيات بالأرواح.. و رغم أن الرواية تشكل باكورة أعماله في ما أظن.. استطاع الأستاذ الناشىء أن يدير ويتحكم بسيرورة العمل تقنياً بحذاقة، فهي خلاصة لتجربته التي عاشها ولا شك أنه غيّر حذفاً وإضافة بما يخدم العمل فناً وهدفاً دون أن يخلّ بمصداقية العمل بل العكس هو الصحيح.. فعلى سبيل المثل أن الروائي الأستاذ قيس الناشيء لم يقدم نفسه كشاب من الطائفة المندائية الكريمة وأنما جعل الشخص الرئيسي مسلماً شيعيا حيث أن الحي أغلب سكانه من الشيعة! وليس بعيدا عن الزرملي وفي الكريمات والصالحية سكنت عدة عوائل مندائية منها عائلة الشاعرة الراحلة لميعة عباس عمارة..
هناك نقد هادف يمارسه طاهر ورفاقه الأذكياء حين ربطوا الممارسة بالنظرية والكشف عن كل الأمور السلبية دون مواربة للحزب ولبعض الكوادر وحتى القادة نتيجة للتطرف والبروز الشخصي على حساب تضحيات الرفاق، ومن الأمثلة هو الرفيق حميد عثمان الذي لم يتحمل النقد لأخطائه واضطر للهرب والانتاء لحزب كردي قومي، وهناك بيروقرطية واضحة تصل الى المخاطرة بأرواح الرفاق لكي يبرز هذا الكادر أو ذاك.. وهناك تحميل الشباب بمسؤوليات وأعمال على حساب التزاماتهم الدراسية..الخ.
ولعل الخطأ الأكبر هو في أحداث الموصل حيث رفعت اللجنة المحلية تقريراً يرفض عقد مؤتمر أنصار السلام في الموصل ذلك أن القوى القومية أكثر عدداً وعدة .. وهناك أحداث كركوك حيث النعرة العنصرية والقومية والعداء المستحكم بين الكرد والتركمان، وكان بالإمكان تجاوزها وضبط النفس من قبل الشيوعيين الأكراد.. أما الخطأ الأكبر فهو المسير وراء الزعيم قاسم رغم أن الحزب تلقى ضربات موجعة من قاسم خاصة بعد خطابه في كنيسة ماريوسف حيث وصف الشيوعيين بالفوضويين ويعد بالقضاء عليهم! في الوقت الذي راحت القوى القومية تخطط للقضاء على قاسم ابتداء من حركة الشواف في الموصل الى محاولة اغتيال قاسم في راس القرية من شارع الرشيد … الى أعما القتل والفوضى وتهجير الديمقراطيين من منازلهم وإلا فحملات الاغتيالات.. هكذا تم التهجير في الموصل وفي حي الأعظمية وفي الجعيفر.. ويذكر طاهر إحصائية بما تعرص له الحزب ورفاقه من مصدر الحزب ذاته إبان حكم قاسم: 269 اغتيال طال الشيوعيين والديمقراطيين على أيدي العناصر الرجعية والقومية وبإشراف وتحريض أو تواطؤ مع الشرطة، صدور 106 أحكام إعدام من الشيوعيين والديمقراطيين وخاصة في محاكمات الحاقد شمس الدين عبد الله، أما أعمال الاعتقال والسجن فقد طالت 25 ألف مواطن شيوعي وديمقراطي، وقد هاجرت 2424 عائلة واضطرت الى الانتقال الى مدن أخرى اكثر أمانا..وظل الحزب يمجد القائد ويحذره دون طائل بل أن الحزب مازال يفتخر بمظاهرة عيد العمال عام 59 التي ترفع شعار عاش زعيمي عبد الكريمِ حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي! وهو شعار بليد بكل معنى الكلمة صياغة ومضمونا.. هذا وكان هناك الرفيق السكرتير يخطط لثورة لا تسقط قاسم بل أن تحتفظ به كرئيس جمهوري لحين تنفيذ برنامج انتقالي يخطط للانتخابات.. وكان المكتب العسكري يؤكد بوجود أكثر من 350 ضابط شيوعي من أعلى رتبة زعيم ركن الى ملازم ثان.. ناهيك عن ضباط الصف والجنود.. لقد تم لجم الرفاق الثوريين واستدعاء الرفيق سلام عادل للاتحاد السوفييتي حيث ظل مطوقا لمدة لأجباره ورفاقة الامتثال لرأي السوفييت! والنتيجة تأتي في انقلاب الثامن من شباط عام 63 حيث تعرض الحزب إلى أكبر مجزرة وطالت الأحكام الجائرة حتى الأطفال والنساء والشيوخ!
لاتخلو الرواية من لقطات رومانسية بين طاهر وحبيبته المسيحية “سمر” الحسناء، حيث انعقد بينهم حب صادق لاتشوبه شائبة رغم اختلاف الأديان لينتهي نهاية فاشلة حيث اعتقل طاهر وانتقلت سمر وعائلتها الى مكان مجهول، ظل طاهر يبحث عنها حتى وجدها مع امرأة مسنة، حيث انعقد لسانهما ولا تسطيعان الكلام وإنما الدموع هي التي تتكلم.. وهناك إثارة جنسية مع عاشقته “مهدية” ووصف لمشهد لابد منه للتخفف عن وطأة الحياة المكفهرة الثقيلة..
لقد وفق الروائي الأستاذ بعكس العادات والتقاليد البغدادية وحسن الجوار وأريحية الشخصية البغدادية مثل إكرام الجيران الجدد بثلاث وجبات لثلاثة أيام، والعلاقات الشريفة بين بنت الجيران وابن الجيران.. وروح المساعدة والتكافل الاجتماعي خاصة في شهر رمضان..كما استطاع أن يصف جمال الشمال (كردستان) والكرم والأخلاق العالية للشعب الكردي حيث لاوجود للعنصرية يوم ذاك ولا للطائفية بل التماسك الاجتماعي هو السائد..
الرواية اعتمدت ضمير الغائب واتسمت بالسرد السلس الذي يخلو من الفلاش باك، وانعدام التداخلات الزمنية وهو أمر جد ضروري من الناحية الفنية، وكثرة الأخطاء الطباعية واللغوية، فمثلا “بطن” مذكر لايقبل التأنيث قط، وحضي ويحضى صحيحهما حظي ويحظى، ومن الأخطاء النحوية مثلا: المراوغة التي يستخدمها قيادي الحزب، وصحيحها قياديو الحزب، وإن حبي لك سوف لن يتغير، ولابد من حذف سوف لأن “لن” تنفي المستقبل بذاتها ولاتحتاج سوف! هذه مجرد عينات لا تقلل من شأن الرواية وحبكتها الفنية وأحداثها الهادفة. أدعو مخلصاً الى قراءتها ففيها يجتمع عامل التشويق والألم ذو المساحة الواسعة والفرح القليل، والرومانسية مع المحبوبة سحر والإثارة في موضعين آخرين مع مهدية وأخرى في البصرة! أنها ستكون إطلالة صادقة على عقد الخمسينيات وسنتين ونصف السنة من الستينيات..
سلخ ت2/نوفمبر 2021

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here