يا شباب العراق كونوا خلّاقين مبدعين و إتركوا الإتكال على وهم الوظائف ألحكومية

كتبت سابقاً داعياً خريجي ألجامعات و غيرهم إلى عدم الإعتماد على ألوظائف ألحكومية، و القيام بمظاهرات و إعتصامات للمطالبة بالتعيين لا تفيدهم إطلاقاً، لأنهم يركضون وراء سراب يخدعون به أنفسهم، و يحطمون به مستقبلهم، و يحيلهم إلى كسالى إتكاليين ينامون حتى الظهر أو ألعصر، و يسهرون الليل لمشاهدة ما لا يجدي عموماً على الفضائيات التي لا تعد و لا تحصى.

أضرب لكم مثلاً، لعله ينفعكم، حين تخرجت من الجامعة سنة 1966، حين كانت وظائف الدولة فائقة الأهمية للخريجين، و ترف بسبب إرتفاع الرواتب مقارنةً بأسعار كلفة الحياة السائد، قررت أن لا أذهب ببعثة دراسية إلى أميركا لدراسة علم ألجيودسي Geodesy وفرها لي ألدكتوران الأستاذان ألفاضلان ألمرحومان (و أرجو أن يكونا على قيد الحياة) وفقي الشماع و حسين العاني، و سبب ذلك أنني قمت بالمساهمة بتدريس مساحة عملي، في كلية الزراعة في أبو غريب، كتطبيق عملي تتطلبه دراستي، و كنت الوحيد ألذي حصل على مثل هذه الفرصة، لأن معدلي في أهم درسَيْ إختصاص كان 100، و 99 من مئة على التوالي، و من جملة من يعرفون ذلك ألأخ الدكتور أكرم ألحكيم، الذي كان طالباً في الصف الثاني في كلية الزراعة كما أتذكر. و أثناء مشاركتي بالتدريس العملي وجدت أنَّ مدرس ألمساحة، ألدكتور عبدالكريم توما (من إخواننا ألمسيحيين رحمه الله) كان غير مؤهل لتدريسها إطلاقاً، لأنَّ إختصاصه غابات، و كل ما تعلمه عن موضوع المساحة، هو كورس مسح جوي لمدة سنة واحدة في معهد أل ITC في مدينة ENSCHEDE في هولندا (وعنوانه ألكامل في نهاية هذه المقالة). و شتان بين ألمسح ألجوي ألذي كان يعتمد على الصور الجوية من إرتفاعات مختلفة، و تقنيات ذلك الزمان ألبسيطة قبل ظهور أل Digital Mapping ، و المسح الأرضي ألذي كان دقيقاً في مقاييس ذلك الزمان.

وبناءً على ما تقدَّم، وجدت أن ألدكتور عبدالكريم توما و ألمعيد الذي كان يساعده لطفي حسين كانا جاهلين بالموضوع تماماً، و يستخدمان أساليب تعود إلى القرن التاسع عشر في تدريس أعمال ألمسح و نظريات أليونانيين القدماء، بدلاً من تعليمهم كيفية شق القنوات و المبازل مثلاً، وأعمال ألمسح الخاصة بها لتعيين مواقع الأنهار في المناطق العالية، و المبازل في المناطق المنخفضة، لأن الري في العراق سيحي، و حيث أنني كنت و لا زلت مشبَّعاً بالروح الوطنية، و جدت أن من واجبي دعوة عمادة الكلية لإصلاح الخلل، و جلب مدرسين من ذوي ألإختصاص في المساحة، فكتبت تقريراً بذلك إلى معاون العميد، ألمرحوم ألأستاذ الدكتور وفقي الشماع، و حين قرأه بحضوري قال لي: أعرف ذلك، و لكن هل تعرف أستاذاً من الممكن أن ننتدبه لتدريس الموضوع، فعجزت عن ذلك لأنّ كل مدرسي ألمساحة في الجامعة أكملوا الساعات ألمسموح به بالتدريس، و لا يستطيعون أخذ ساعات إضافية. فعدت إلى ألدكتور وفقي الشماع و أخبرته أنه لا يوجد إلا أستاذ أجنبي رائع و معروف عالمياً (كان أستاذي)، لكنه يُدرّسُ باللغة الإنكليزية، فلم يوافق ألدكتور وفقي. لكنه تعهَّد لي بتوفير بعثة دراسية لي للحصول على شهادة ألدكتوراه في الولايات ألمتحدة، فرفضت ذلك شاكراً، و بإسلوب لطيف طبعاً.

إنَّ سبب رفضي للبعثة، و كذلك الوظيفة الحكومية رغم أنها كانت حلم كل خريج، كما هي ألآن للشباب الإتكالي الكسول، هو ثقتي بنفسي، و بأنني سأنجح في عملي مع شركات ألمقاولات ألتي كانت تدفع ضعف أو عدة أضعاف رواتب الوظيفة الحكومية. و هذا ما حدث فعلاً، فبعد عملي مع مقاول عراقي هو ألمرحوم أو طويل العمر فاضل ألصفار (ماجستير هندسة مدنية) لتنفيذ شارع سايلو الحبوب في البصرة، مقابل معسكر ألبصرة و قرب شركة نفط البصرة آنئذ، و كان طول الطريق كيلومتر واحد أو أكثر قليلاً براتب 50 ديناراً شهريا لمدة شهرين و نصف، عدت بعدها إلى بغداد. و بناءً على ما كسبته من خبرة في تنفيذ الطريق و منشآته و مجاريه، حصلت على عمل مع شركة أحمد عوض إخوان كمشرف على تنفيذ ألمقترب ألأرضي West Approach لجسر الفلوجة الجديد (سنة 1966)، و براتب 90 دينار شهريا. و بعد مباشرتي بالعمل وظهور كفاءتي فيه، أخبرني أحد مهندسي ألشركة و كان إسمه (فوّاز) أنني أخطأت بطلبي راتب 90 دينار شهرياً، و إستحقاقي هو 120 دينار شهرياً على ألأقل، و هذا في نفس سنة تخرجي، و كان راتب خريج الكلية، في الدوائر الحكومية 40 دينار فقط.

و بعد إنتهاء عملي في ألمقترب ألغربي لجسر الفلوجة مباشرةً، عملت في شركة سبانكو ألإستشارية ألأسبانية، Spanish Consulting Engineers, Spanco. ، ألتي كان تقوم بتصميم ألقنوات و المبازل ألفرعية في مشروع ري الإسحاقي، ألذي يمتد من الفرحاتية جنوب سامراء إلى مشارف مدينة الشعلة. و كان مقر ألعمل في ناحية ألدجيل وقتئِذٍ (سميكة) سابقاً، و أصبحت قضاء حسب علمي. و طلبت من الشركة راتباً قدره 150 دينار شهرياً، فقال لي مدير الشركة، Mr Moreno : لدينا مهندس عراقي لديه خبرة 5 سنوات و براتب 120 دينار شهرياً، فقلت له إعطني فرصة لمدة شهر، و إن لم أثبت لكم أنني أفضل منه، قللوا راتبي ليصبح مساوياً لراتبه، فرفض ذلك، فقلت له سأعمل بذلك الراتب 8 ساعات كحد أقصى، و إن طلبتم مني أن أعمل أكثر من ذلك، فمن حقي أن تدفعوا لي إجوراً إضافية، فوافق، لكن بعد عملي معهم صاروا يطلبون مني أن أعمل ساعات إضافية حقلية أو مكتبية، فأصبح معدل راتبي 170 إلى 200 دينار شهرياً. و بعد مباشرتي بالعمل بمدة قصيرة طردت الشركة ذلك العراقي ألأذي لديه خبرة 5 سنوات (وإسمه طارق بركات)، بسبب أخطائه و قلة كفاءته.

و جدير بالذكر أنني كنت أجِلُّ و أحترم ألأستاذ ألدكتور فوزي صادق ألخالصي، أستاذي و عميدنا أيام ألدراسة، و يبادلني ألإحترام لأنّه كان يدرِّسني موضوع الجيودسي، و دخلت معه في نقاشات علمية فزت فيها، فلم يغضب بسبب سموّ أخلاقه. و زرته يوماً عندما كنت أعمل مع شركة سبانكو، فرحّب بي و بعد أن جلست قال لي: إنَّ الدكتور حسين العاني، عميد كلية الزراعة في أبو غريب، يطلبك من أجل البعثة الدراسية، و لا زالت محجوزة لك، فلماذا لا تستفيد منها لتحصل على شهادة الدكتوراه؟

فأجبته: أتسمح لي بسؤال يا أستاذي الفاضل؟ فقال نعم، بالطبع، فسألته كم يبلغ راتبك الآن؟

قال: 120 دينار شهرياً، فقلت له: يا أستاذي الفاضل، أنا يصل راتبي مع الشركة الأسبانية 200 دينار شهرياً في سنة واحدة بعد التخرُّج، فهل من المعقول أن أضيع من عمري 4 أو 5 سنوات للحصول على الدكتوراه، لأعود و أعمل في كلية الزراعة براتب 60 ديناراً؟

لا أريد أن أطيل، فقد عملت بعدئذ في مشروع ري الإسحاقي أيضاً، مقاولة رقم 6، مع ألمرحوم ألمقاول عبدالحسين برهان ألموسوي من سنة 1967 لغاية نهاية سنة 1969. ثم مع ألمقاول ألمرحوم سليم عبدالله عبد الأحد من بداية سنة 1970 حتى نهاية سنة 1972، في مشروع ري مندلي ألذي يمتد من صدور ديالى حتى ناحية قزانية على الحدود الإيرانية، براتب أعلى من السابق مع مقاولتين ثانويتين، واحدة للتكسية الحجرية و الأخرى أعمال كونكريتية للمنشآت، فقفزت وارداتي قفزة نوعية كبيرة في مشروع ري مندلي. ثم إفتتحت مكتباً خاصاً بي للمقاولات سنة 1973 و نجحت نجاحاً باهرا في أعمالي كافة.

لا أذكر ما ذكرت أعلاه للتفاخر، لكن لعلّي أبعث حب العمل و الإعتماد على النفس، في أذهان شبابنا من الجيل الصاعد و خريجي المعاهد و الجامعات ليعتمدوا على الله و على أنفسهم في إيجاد عمل شريف لهم بعيدا عن وهم الوظائف الحكومية التي من المستحيل أن تتوفر لهم. فالدوائر الحكومية منتفخة، و تكاد أن تنفجر من كثرة الموظفين الكسالى الذين لا عمل لهم، حيث قدرت إحدى الدراسات أن معدل عمل ألموظف في الدوائر ألحكومية المدنية العراقية 20 دقيقة يوميا (إن عمِلَ)، مما يعني بطالة مقنعة تدفع لها خزينة الدولة رواتب لا تستحقها، و يجب تسريح الموظفين الفائضين عاجلاً أم آجلاً، فالنفط سينضب، و مصادر الطاقة الشمسية و الهايدروجينية و غيرها هي التي ستسود وتجعل سعر النفط أقل من كلفة إنتاجه، و تفرغ خزينة دولة البطالة ألمُقنَّعَة عاجلاً أم آجلاً.

طعمة عزيز السعدي/ 01 ديسمبر 2021

عنوان معهد أل ITC

UNIVERSITY OF TWENTE, FACULTY ITC, PO BOX 217, 7500 AE ENSCHEDE
THE NETHERLANDS

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here