ثقافة الشعب، روح الشعب ! * د. رضا العطار
كان البدو والحضر قديما يتناولون غذاءهم العقلي في كل حين، لأن البشرية لم تنقطع يوما عن طلب الطعام الذهني الى جانب الطعام المادي ! ولكنها لم تكن تعرف صحافة يومية، انها كانت تعرف شعراء الحي وخطباء الهياكل وفلاسفة الاسواق ! – وكان اولئك في جملتهم قوما ممتازين : انبتتهم العبقرية وارضعهم النبوغ. — كان الغذاء العقلي من يد هؤلاء ، بديعا صافيا في اغلب الاحيان، بعيدا عن السخف والأسفاف.
لأن الموهوبين لا يسفون. – هكذا كان المطبخ العقلي في الماضي. فهل لنا ان نتفاءل بالمطبخ الحديث ؟
انني اتساءل : هل ان نوع الثقافة يتغير بتغير المجتمع ؟ — لا شك ان هناك شئ يتغير. وان هناك شئ ثابت لا يتغير. ان الوان الطعام المادي قد تغيرت وتنوعت وتعقدت على مر الاحقاب والازمان. فأختفى الهصيد والثريد وظهر في المأكولات من مالح وحلو ومرطبات ومثلجات – كل انواع التنويع والتجديد. ولكن الفاكهة بقت هي الفاكهة في كل وقت ومكان، كذلك حياة المجتمع تتجدد المظاهر فيها وتتعقد المشكلات ويظهر كل جديد عبر تطور الحضارة من سياسة واقتصاد.
ولكن شيئا واحدا يبقى فيها بلا تغيير، هو الاحساس بالجمال الفكري والفني، فان بيتا واحدا من الشعر قد هزّ بدويّه في خيمتها قبل الف عام. وقد يهزّ حسناء اليوم في خدرها طربا ! واسطورة خيالية شغف بها الاقدمون في بلادنا قديما، قد تثير اوربا اليوم عجبا ! – فاكهة الذهن والقلب تبقى دائما نضرة ما دامت شجرة الحياة الانسانية باقية عامرة باسقة – – اذا تذكرنا كل ذلك، حق لنا ان ننتظر من صحافة اليوم القيام بمهمة التثقيف العام، لو راعت هذه الاعتبارات عند اعداد الغذاء العقلي للشعب.
الصحيفة اليومية المثالية، مائدة يجب ان تكون حافلة بكل انواع الفيتامينات، يتناول القارئ منها ما يزجي فراغه وينمي اطلاعه ويقوي ذاكرته. اما من تقصر في واحدة من هؤلاء فهي كالطعام الردئ يعطيك شيئا ويمنع عنك اشياء!
ان مهمة الكاتب، ذو الثقافة العالية، ليست في مجرد اقناع القارئ بل في التفكير معه ! – ما ارخص الادب لو انه كان وسيلة للهو! – لا، ان الادب طريق الى ايقاظ الرأي – انا لا اريد من الكاتب ان يريح قارئه ويلهيه انما اريد ان يطوي القارئ الكتاب فتبدأ متاعبه،
اريد منه ان يكون مكمّلا للكتاب، ينهض ليبحث معه ولا يكتفي بان يتلقى المادة ثم يتثاوب وينام. ان مهمة الكاتب ليست في تخدير النفوس بل في تحريك الرؤس !
والكاتب مفتاح الذهن، يعين الناس على اكتشاف الحقائق والمعارف بأنفسهم لأنفسهم.
ان مهمة الكاتب هي تربية الرأي، وكل كاتب لا يثير في الناس رأيا او فكرا او مغزى يدفعهم الى التطور او النهوض او السمو على انفسهم بل يحرك فيهم المشاعر الرخيصة العابثة، لا يوحي اليهم الا بالاحساس المبتذل. ولا يمنحهم غير الراحة الفارغة ولا يغمرهم الا في التسلية والملذات السخيفة التي لا تكوّن فيهم الشخصية، ولا تثقف فيهم ذهنا ولا تربي فيهم رأيا، لهو كاتب يقضي على نمو الشعب وتطور المجتمع.
ان واجب الكاتب يحتم عليه ان يحدث اثرا سامي الهدف في الناس، وخير اثر يمكن ان يحدثه في الناس هو ان يجعلهم يفكرون تفكيرا حرا، ان يدفعهم الى تكوين راي مستقل وحكم ذاتي ! — الفن اذن اداة من ادوات خلق الشخصية ! – وهو لا يستطيع ان يؤدي هذه الرسالة الا في مجتمع حر، لذلك لم يحظئ اولئك الذين قالوا (الفن هو الحرية )
والحرية هنا هي الشخصية.
يجب الا يقوم في المجتمع حائل يحول دون تحقيق هذه الذاتية الواعية ! وما دام عمل الفنان لا يقتصر على امتاع الحس وراحة الخاطر وتخدير الشعور بل يرمي الى ايقاظ التفكير وتأكيد الذاتية، وتدعيم الشخصية. – فاننا لذلك نرى الفن لا يزدهر عادة الا في مجتمع بزغت فيه عوامل الاحساس بحرية الرأي، فالفن لا يموت عادة الا في مجتمع خنقت فيه حرية التعبير عن الرأي. لان الفنان يجد عمله معطلا عندئذ من ناحيتين : من ناحيته هو – الذي لا يستطيع ان ينشئ ثقافة بوحي الفكر الحر، ومن ناحية الناس – – الذين وقفت عقولهم في جو خانق عن النمو.
فالجو الخانق اذن يصيب بالعطب والعطل في الوقت عينه : اداة الارسال، واداة التلقي! وبهذا يتم الشلل الفكري في الامة وتكف شخصيتها عن النمو والنضج، وتظل بلا حراك في طور بدائي من الرقي البشري. ومن اجل ذلك ارى ان انبل جهاد للكاتب هو المحافظة على اداة الفكر والرأي، لان هذه الاداة هي في الكيان المعنوي بمثابة القلب : مضخًة يجب ان تعمل حرة على الدوام لتكفل النمو والنضج والرقي للنوع الانسان
.
· مقتبس من كتاب فن الادب لتوفيق الحكيم
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط