النظام السياسي الوطني

د. ماجد احمد الزاملي

نشأت المشكلة الاجتماعية حين وجد الإنسان نفسه مهدداً من قبل أخيه الإنسان ولم يعرف في ذات الوقت حدود وضوابط حقوقه وحقوق غيره ، فاختار الإنسان لنفسه ظاهرة السلطة وجهاز الحكومة لحل هذه المشكلة وتأمين الحقوق فأدى ذلك بدوره إلى تبلور مشكلة أخرى عُرفت بالمشكلة السياسية، وما هذه الأخيرة إلاّ الجانب المتعلق بالحكم والسلطة من جوانب المشكلة الاجتماعية؛ وبما أن السلطة سيادة ومصدر قوة وفرصة للاستغلال والانتفاع والإنسان ميّال لذلك بالفطرة انفتح الإنسان على جوانب جديدة من الصراع هي الصراع على السلطة والصراع مع السلطة ,وفي خضم هذا الصراع تمكَّن البعض من التفرد بالحكم والاستئثار بالسلطة ومنع الآخرين من الوصول إليها باستخدام أساليب غير شرعية، ليصبح نظام حكمهم استبدادياً لتفردهم بما هو حق مشترك مع البغي في استخدامهم السلطة وما تمنحه من قدرة على قهر الآخر للحفاظ على المكاسب. “الحاكم لا يمكن أن يغتصب سلطة غير مشروعة دون أن يميز أولئك الذين يجب أن يشتركوا معه فيها، ثم إن الأفراد لا يسمحون بأن يقع عليهم جور أو ظلم إلاّ إذا كانوا مدفوعين بطموح أعمى ، إنهم يحبون السلطة أكثر مما يحبون الاستقلال وبخضوعهم للعبودية قد يتجهون بالتالي إلى استعباد الآخرين… وليس بوسع أي سياسي مهما تكن مهارته استعباد أناس تنحصر رغبتهم الوحيدة في التمتع باستقلالهم. أما عدم المساواة فتجد طريقها بسهولة بين العقول الطموحة أو الخائفة، التي تقف دائماً على استعداد للمغامرة في سبيل تحقيق أغراضها ويستوي لديها أن تكون آمرة أو خاضعة مستعبدة”. لما كان الأمر كذلك فإن هزيمة المستبِد لا تستدعي أن ينهض المستبَد بهم لمحاربته كي يهزموه بل يكفيهم الامتناع عن عطائه، فالخلاص مرهون بالكف عن خدمة الطاغية. وفي الحالة العربية نجد أن النخب الحاكمة وما يعود عليها من المال العام وما يتمتع به أفرادها من مصالح ضخمة في ظل العلاقة بين السلطة والثروة أي المنفعة التي تمنحها السلطة وتقترن بالاقتصاد؛ فإنها غير مستعدة للتخلي عن امتيازاتها أو التخفيض منها على الأقل وهو سبب رئيس لإعاقة البناء الديمقراطي واستدامة السلطوية، كما يلتحق بهذه النخب فئة أخرى تتشكل من كبار الموظفين والممارسين لأعمال السمسرة ما يشكل طبقة متحالفة تجمعها المصالح الشخصية المشتركة، وفي هذه الحال وبدل الفقر والحرمان سيوظف المال والثروة كأداة لكسب وشراء الولاء .وهو ما يمكن ملاحظته كذلك في توظيف المال الفاسد في الحياة السياسية وتصدِّر القوائم الانتخابية وباقي مظاهر الزبائنية السياسية بوصفها نظام سياسي واجتماعي قائم على المحسوبية يسمح للزبائن والرعاة من الاستفادة من الدعم المشترك كونهم يوازون بعضهم البعض على أصعدة سياسية واجتماعية وإدارية مختلفة . وإزاء هذا المنطق والواقع لم يكن من الغريب أن يكون ترتيب أقطار المنطقة وفق مؤشرات الشفافية والحكم الجيد ضعيفاً جداً. واليوم أصبحت الديمقراطية نظاما حقيقيا على الأرض، وتجربة واقعية معاشة في بلدان عديدة، وهي كذلك لا تعني قطعا أنها عصا سحرية كما يتوهمها البعض، فيصاب بالخيبة عندما لا يجدها كذلك، أو يدعي ذلك زوراً البعض الآخر، إما ليمتطوا موجتها من أجل أغراضهم، أو يتعمدوا ذلك عارفين أنها ليست كذلك، ليقدموها للناس بهذه الصورة غير الواقعية، ليُصيبوهم بالخذلان، عندما لا يجدون “الديمقراطية الحقيقية ” المأمولة، وينفضّون عن الديمقراطية خائبين بها ناقمين عليها، وهذا ما يفعله بشكل واع خصوم الديمقراطية من إسلاميين أو استبداديين، عندما ينتقدون الديمقراطية وكأنها يجب أن تكون نظاما مثاليا… وفاشلة لأنها لا تكون كذلك. في الديمقراطية تصبح السياسة والحكم مثل الطب الحديث تماما، فالطب الحديث هو علم بالكامل، وكلما ذهبنا نحو الماضي يصبح الطب أكثر فأكثر تصورات وأعرافا…. واليوم أية دولة، مهما كانت متخلفة، تريد تحسين الوضع الصحي لشعبها تذهب مباشرة إلى الطب الحديث، وهي لا تستبدله بالطب البدائي أو الشعوذة بذريعة أن شعبها غير مؤهل بعد لهذا الطب الحديث المناسب فقط للمجتمعات الحديثة. تاريخيا بنيت الدولة الديمقراطية، ليس ككلية جاهزة، بل كعملية تطورية مستمرة، وبناء متدرج، ومعنى ذلك أنه على أي شعب في العالم المعاصر يريد أن يبني مجتمعه بشكل أفضل، مهما كانت درجة نموه، عليه أن يستفيد من تجارب الآخرين الذين سبقوه في إنجاز ما، وأن يستخدم مثلهم الأساليب الحديثة المتطورة في السياسة كما يجب عليه استخدامها في الطب والزراعة والعمارة وسواها من مجالات الحياة. وهذا ما يسمى في العلوم الإنسانية بـ “الدمقرطة”.
إن القوانين والتشريعات التي يتم تشريعها وكذلك الأشكال التنظيمية، في بلد ما، تعكس أو تعبّر عن تصور السلطة لقيمة ومفهوم العدل. بناءً على ذلك وبوجه عام، فإنه في الأنظمة المستبدة تسير الأمور دوماً من أعلى إلى أسفل. بينما في الأنظمة الديمقراطية تسير الأمور من أسفل إلى أعلى وبالتبادل. وتبدو أهمية قيمة العدل في الحياة السياسية والاجتماعية إلى حد أنه يبدو طبيعياً أن نعتبرها الشرط الأساسي لوجود “دولة” بتنظيمها السياسي والقانوني والاجتماعي، فإذا غاب العدل فنحن أمام أي شكل اجتماعي آخر غير الدولة فالنظام السياسي العادل هو الذي يعمل لصالح المجتمع، ويحترم حقوق المواطنة ويقيم “دولة القانون”. ومن المعروف أن الاستبداد يستند أساساً ـ في المعطى الثقافي ـ على الموروثات التقليدية السائدة حتى اللحظة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، كما أنه يتغذى دائماً من ينابيع الثقافة العربية “القديمة-الحديثة” القائمة بمجملها على قاعدة القهر والتغلب والملك العضوض، حيث أثبتت التجربة السياسية العربية والإسلامية عموماً ـ منذ حروب الأخوة الأعداء في بواكير الإسلام، وحتى عهود الاستقلال الشكلي ـ أن مجتمعاتنا وأوطاننا لا تزال مرتهنة قسرياً لتنظيمات أخرى داخل المجتمع كالجيش، أو العائلة/العشيرة، أو الحزب، أو الطائفة، أو مركَّب من بعض هذه التنظيمات أو كلها ويمكننا أن نلاحظ في المثال والحالة السياسية لكثير من الدول العربية والإسلامية المعاصرة اجتماع كل تلك العناصر تحت قيادة حزب أو فئة أو فرد مستبد واحد، ينبغي تقديسه وتقديم فروض الولاء والطاعة له في كل الأوقات، بما يوحي وكأننا أمام عقلية وصائية بدائية لم يغادر فيها الإنسان لحظة وجوده الأول على سطح هذه الأرض. ولقد كانت الثورة الانجليزية 1688، و نشر مؤلفات جون لوك يشكلان خاتمة الفترة التي شهدتها الفلسفة السياسية الخلاقة في انجلترا و تبع ذلك فترة من الهدوء و الركود و أصبح الفكر السياسي الانجليزي ذا طابع محافظ و راضي بشكل عام عن الأوضاع القائمة في البلاد، و بناءً على هذا فقد انتقل مركز الثقل في مجال النظرية السياسية إلى فرنسا. منذ أواخر القرن السابع عشر إلى ما قبيل الثورة الفرنسية و كان هذا نتيجة من جراء سياسة لويس الرابع عشر. التي أثرت إلى الاذلال الخارجي وعن التدهور الخارجي حتى شارفت البلاد على الافلاس، يضاف إلى ذلك طغيان أفكار لوك التي تُعد الأساس التي تبنى عليه حركة التنوير الفرنسية في القرن الثامن عشر، كما يمكن القول عموماً أن حركة الفكر السياسي الفرنسية شددت على فكرة القانون الطبيعي و الحقوق الطبيعية والمصلحة الذاتية المستنيرة، وعليه يجوز القول أن النظرية السياسية في القرن الثامن عشر بدأت تأخذ مركزها في فرنسا و التي بلغت ذروتها نتيجة سياسة لويس الرابع عشر القائمة على الملكية المطلقة و الحق الإلاهي( محفوظ مهدي. اتجاهات الفكر السياسي في العصر الحديث. لبنان: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1990. ص.101).
أن المواطن العربي كثيراً ما يتصرف بشكل مضاد لمصالحه ومصالح وطنه وأمته، وهو يفعل هذا بدافع شحنة التشوهات والمتناقضات والعاهات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها، والقصور الذاتي الذي هو واقع فيه نتيجة سيطرة مفاهيم وثقافة الاستبداد على حركته الوجودية ككل، كالضبط والردع والأمر والنهي …. الخ . من هنا يأتي تأكيدنا على ضرورة تغير الطبائع والنفوس، كأساس لتغيير الواقع الخارجي، أي تغيير الواقع الثقافي والمعرفي السائد حيث أن جذر العطالة وعلة الأزمة كامن هنا.. لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الإرادة والحيوية والتضحية ـ وكل قيم الفاعلية والحركية والنشاط والاندفاع العقلاني باتجاه العمل المنتج والمبدع ـ لا يمكن أن ينطلق مبدعاً ومنتجاً في أي موقع أو مجال من المجالات، بل يبقى في موقع المتلقي والمتأثر والمستهلك لمنجزات وإبداعات الآخرين .. ومجتمعاتنا العربية حالياً تقدّم لنا أفضل مثال ونموذج حي على ذلك الارتكاس الحضاري والتقهقر المعرفي الإبداعي على الرغم من بعض النقاط المضيئة هنا وهناك، وهي على كلٍ بسيطة وقليلة لا تشكل حالة فريدة متميزة يمكن الاعتماد عليها.. حيث أنها حضارة لا تنتج شيئاً على الإطلاق تقريباً، وتستهلك كل شيء مما ينتجه ويصنعه الآخرون.. حتى سياساتها الداخلية المحلية، لا يرسمها أو يخططها قادة وزعماء تلك الدول إلا بما يتناسب مع مصالح الدول والقوى الكبرى.. إنها مجرد مجتمعات خاملة مستهلكة تعبة لا تقدم شيئاً للحضارة ولا لنفسها، يتحكم فيها مجموعة حكام يفكرون بعقليات بدائية، ويحكمون بلدانهم من زمن بعيد على أسس عشائرية عائلية عاطفية هوجاء، بعيدة كل البعد عن أي منطق أو مبرر عقلي صحيح، سوى تكريس مكاسبهم ومصالحهم، والبقاء الدائم في الحكم واستمرار الوجود على رأس النظام والدولة.
إنَّ مجتمعات دول العالم تتميز ببعض الخصائص؛ حيث التطور الداخلي فيها لم يجرِ بشكل طبيعي نتيجة السيطرة الاستعمارية؛ كما أن هناك عناصر متداخلة ومتناقضة ومتجاورة مع عناصر أخرى؛ ووجود أشكال وأنماط متنوعة للإنتاج والطبقات والشرائح الاجتماعية؛ مع تعدد القيم وتناقضها وتداخلها؛ وتعدد الايديولوجيات وعدم وضوحها وتحددها؛ وعدم استقرار البناء الاجتماعي والسياسي؛ والنزعة العسكرية والسلطوية القمعية؛ ووجود مظاهر الانشقاق وتعدد التناقضات والخلافات في البناء الاجتماعي. في ظل حالة عدم الاستقرار في الأوضاع السياسية التي أدت إلى تشوهات في المؤشرات الاقتصادية الأهمية النسبية للإنفاق على المتطلبات العسكرية والأمنية، وتبوؤ الأنشطة الاستهلاكية والخدمية مراتب متقدمة في مجال الإنفاق الاستثماري الخاص، فضلا عن العوامل الخارجية التي أخذت بالعمل على تغييب الهوية الوطنية واستبدال ثقافات غربية بالوعي القومي, سيأخذ هذا التراجع الذي تشهده البلدان العربية بالاستمرار مع الزمن, وسيقود إلى فقدان السيادة على مستوي الدولة، وتراجع مؤشرات التنمية. تداخل مفهوم التنمية السياسية مع مفاهيم أخرى كالتحديث السياسي والتغير السياسي، فالأول يعني عملية تجديد تمكن النظم السياسية من مسايرة التغير الاجتماعي والاقتصادي السريع من خلال تبنيها لثقافة سياسية ذات طابع عقلاني ونابعة من بيئة غير محليّة أي خارجية كالدول الغربية، أما الثاني وهو “التغير السياسي” يعني الإنتقال البطيء من التوازن الموجود، وهذا التحول يحدث في كل أجهزة الدولة السياسية والذي يصاحبه تغيرات اجتماعية مماثلة في مؤسسات المجتمع والثقافة السائدة، أما التنمية السياسية، فهي عملية مقصودة وتُعد خروج عن التوازن الموجود في كل المجالات وتنطلق من فكر جديد تتميز بالعقلانية في التخطيط وهدفها الوصول إلى أفضل مستوى على المدى البعيد. وبالتالي فالتنمية تتضمن وتحتوي على التحديث لأنها شاملة.
الولاءات والانتماءات القبلية هي التي تجعل النسق السياسي في الوطن العربي نسقًا انقساميًا، وإن كانت هذه الانقسامية تقوى وتضعف أمام قوة الانتماء الفكري والسياسي أو ضعفه، ووجود عصبيات أقوى وأكثر فاعلية من عصبية قربى الدم. أن الأنظمة السياسية العربية في أغلبها إما قائمة على أساس الحزب الواحد، أو العائلة الواحدة، او أبناء جهة واحدة. ومن هؤلاء وهؤلاء تتكون الأجهزة القيادية والرئاسية. وعلى رأس هذه الأجهزة مجموعة من الأشخاص يرتبطون بتلك الانظمة السياسية بصلات قربى كثيرة. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية تزايد الاهتمام بدراسة أوضاع الدول حديثة الاستقلال، حيث كانت تعيش في حالة من التخلف . واعتبر علماء الاجتماع والسياسة الغربيين أن المجتمع الصناعي في الدول الغربية المتقدمة يشكل نموذجا يحتذى به .وتم النظر إلى عملية التحديث على أنها عملية انتقال نحو الأنماط والنظم الاجتماعية والسياسية التي تطورت في أمريكا وأوروبا الغربية، ثم انتقلت إلى بقية القارات . حيث أن عملية التحديث تطال في تأثيرها مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والتحديث في علم اجتماع التنمية يعني حسب اغلب المنظرين لهذا العلم نقل للنموذج الغربي ,واعتبار الديمقراطية بمفهومها الواسع، خاصية رئيسية للمجتمع الحديث في المجال السياسي. أن التنمية السياسية من المواضيع الحديثة التي إستنبطها العلم السياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ ودخل في الإستخدام الأكاديمي – إذا جاز التعبير – وخاصة في مراكز الأبحاث والدراسات السياسية التطبيقية، حيث وظف مفهوم التنمية السياسية من قبل الجامعات الاوروبية والامريكية تحت شعارات التطوير والتحديث السياسي وتم إجراء العديد من الدراسات بهذا القصد تحت إطار المشاريع التنموية والتحديثية، من أجل إستمرار تحقيق مصالحهم الإقتصادية والإستراتيجية ودفع الأنظمة السياسية للإقتراب الشكلي من النموذج الغربي؛ لأنه على حد زعمهم يشكل النموذج الذي يحتذى به في العالم، والقائم أصلا على الديمقراطية والليبرالية السياسية القائمة على التعددية السياسية، وحرية الفكر وإنتقال السلطة عبر صناديق الإقتراع ونظام البرلمان . إن التنمية الإقتصادية والإجتماعية هي في الغالب عملية غير متوازنة. فبعض المناطق وبعض الطبقات الإجتماعية والجماعات الأثنية أو الدينية/ أو المذهبية تكون مهيّأة أكثر من غيرها لاستثمار العملية التنموية والإفادة منها، وهي بالتالي أكثر إلحاحاً على المشاركة السياسية، إمّا لكونها قد سبقت غيرها في ميدان التعليم والنمو الإقتصادي والخدمات الإجتماعية فتكونت لديها الحاجة واما عندها التطلّع وتهيأت لاستثمار الفرص المتاحة أمامها نحو المشاركة السياسية، وإما بسبب عكسي تماماً، أي أنها قد تكون أكثر حرماناً وأكثر التصاقاً بهويّاتها الخاصة (مناطقية أو قبلية أو طائفية) وتجد في موضوعة التنمية السياسية مخرجاً لها من وضعها الثانوي، ومعاملتها الدونيّة، وهي بالتالي تصرّ في المطالبة من أجل رفع مستواها الى مستوى الجماعات والمناطق الأ وفي المجال السياسي أيضا هناك من يرى أن عملية التحديث السياسي هي التحولات والتغييرات السياسية التي حدثت في أوروبا وبقية أنحاء العالم منذ النهضة الأوروبية. وهذه التغييرات يُشار لها كخصائص لعملية التحديث السياسي، وتشمل: تحقيق مزيد من المساواة وإعطاء فرص للمشاركة في صنع السياسة، وقدرة النظام السياسي على صياغة وتنفيذ السياسات، والتنوع والتخصص في الوظائف السياسية، وعلمانية العملية السياسية وفصلها عن الدين. تم معالجة ودراسة التنمية السياسية من الدارسين الغربيين في بدايات الاهتمام بالموضوع على أنها عملية نقل للنموذج الغربي في بناء المؤسسات والأنظمة السياسية، والتخلص من الانظمة والقيم التقليدية التي تعيق تطور المجتمع بشكل عام. وكانت النظرة إلى التنمية التي حدثت في الغرب، على أنها عملية ذات صفة عالمية يصلح تطبيقها أو نقلها إلى كل دول العالم الثالث. وكان التركيز والاهتمام في دراسات التنمية السياسية الأولى منصب أكثر على التعرف على الخصائص التي تميز المجتمعات المتقدمة وتطورها عن الخصائص التي تميز المجتمعات المتخلفة. كما جرى التركيز على المراحل التي تمر بها المجتمعات نحو التطور، والقوى والعوامل التي تعجل من عملية التنمية . كما اعتبرت عملية التنمية والتحديث بأنها تمر بمراحل متعاقبة باتجاه واحد صاعد، وأن كل المجتمعات البشرية لا بد أن تسير في هذا الاتجاه الذي مرت به الدول الغربية. رغم الصعوبات التي واجهت الباحثين في مجال التنمية السياسية في تحديد مفهوم محدد وواضح، إلا أنهم حاولوا وضع بعض التعاريف التي قد تؤدي إلى تقريب الرؤى حول هذا المفهوم. وآليات التنمية السياسية هناك مجموعة من الآليات التي لابد من توفرها لضمان نجاح عملية التنمية في مجتمع معين وخاصة في دول العالم الثالث ومن أهمها, المعايير الاجتماعية عن طريق مختلف مؤسسات المجتمع، بما يساعده على التفاعل معه. ومنه فإن التنشئة السياسية تهتم بشخصية الفرد وتطويرها وصياغتها وفق نموذج معياري مسبق لتعميق القيم والتوجهات السياسية الشائعة المستقرة في المجتمع، كما تسعى إلى تنمية مدركات الفرد وتعزيز قدراته السياسية بحيث يستطيع التعبير عن ذاته من خلال سلوكات ينتهجها في الحياة السياسية خاصة إذا كان النظام السياسي غير عقلاني وغير رشيد ومنه إمكانية خلق مجتمع مدني منظم قادر على القيام بدوره الفعال. ألانظمة السياسية التي تتمتع بنوع كاف من الاستقرار السياسي، هي تلك الأنظمة التي تمكنت من بناء آليات ومؤسسات تتيح أكبر قدر ممكن من الحراك الاجتماعي وتداول القوة الاقتصادية والسياسية بين أفراد المجتمع، لذلك فإن الديمقراطية التي ينادي بها أي نظام سياسي لا تقاس من خلال عدد الأحزاب التي أجيز لها أن تمارس العمل السياسي، وإنما من خلال التداول السلمي والفعلي للسلطة بين الجميع، وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة، مما يترتب على ذلك من آثار على المستوى الواقعي بحيث تتاح المشاركة الشعبية، وتكافؤ الفرص لكافة إفراد المجتمع دون تمييز. وإذا كان ينظر الى التنمية بمفهومها العام على أنها عملية شاملة ذات مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية، أي انها عملية لا تقبل التجزئة ، وأن أي تحوّل في أحدها يقود دون مناص الى تحوّل وتغيير في البقية. لكن التنمية السياسية كنشاط يقوم به المواطن العادي من أجل التأثير في صناعة القرار الحكومي، ظلت الغائب الأكبر لدى صانع القرار، ولدى الباحثين والكتاب، الأمر الذي أدى الى التشكيك في حتمية (شمولية) التنمية، بالنسبة لبعض الدول، خاصة الريعية منها، أي تلك الدول التي تعتمد على مصادر دخل غير (الضرائب) وتقوم بصرفها على التنمية.
هناك نقص يشوب عملية البحث من أجل إيجاد إطار نظري محدد للتنمية السياسية، وذلك بسبب توجه الباحثين إلى خدمة مصالح حكومية وليس لأغراض علمية ومعرفية، لكن هذا لا يعني فشل عملية الدراسة لأن باحثي العالم الثالث قد تداركوا الخلل وبدأوا بدراسة هذا المجال من أجل ظهور مجتمعات جديدة في العالم الثالث معتمدة على طاقتها الخاصة وخصائصها المنفردة دون الرجوع إلى النظريات الغربية السياسية الخاصة بالديمقراطية. وترتكز التنمية السياسية على مجموعة من الأسس أهمها نشر ثقافة سياسية واعية مخطط لها من قبل الحكومة من خلال عملية التنشئة السياسية مع ضرورة مراعاة التقاليد السائدة عند بناء ثقافة جديدة لتحقيق المشاركة السياسية للجماهير. تحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم، وبالتالي تحقيق الديمقراطية. عدم النظر إلى الدولة من زاوية المصالح الشخصية ومدى قدرة الأفراد على الاستفادة منها، من دون أن يقوم الفرد بتحمل مسؤولياته الكاملة اتجاه دولته. إطلاق الحريات بين جميع فئات المجتمع الواحد بعيدا عن الخوف والإرهاب الفكري، وتحقيق الاتصال بين الجماهير. وجود تعددية سياسية وفكرية ضمن الثوابت القائمة عليها، أي مجتمع من دون إدعاء طرف امتلاكه الحقيقة أو حماية المصلحة الوطنية على حساب طرف آخر. قيام أحزاب وطنية قوية، لديها القدرة على العمل في بيئة ملائمة ، ومشاركة المواطنين في صنع القرارات ديمقراطيا من خلال المؤسسات الدستورية. تفعيل دور المجتمع المدني بإنشاء مجموعة من المنظمات النقابية وحقوق الإنسان وغيرها. ولتحقيق التنمية السياسية يتطلب مراعاة الحريات الفردية والعامة، واحترام حقوق الإنسان والمحافظة عليها عن طريق تشريع قوانين تنظيمية عادلة على كل الأصعدة. وأن تكون هناك قنوات اتصال بين النظام أو النخبة الحاكمة والشعب لكي تكون الرسائل بينهما. وعملية بناء الإنسان عملية شاقة جداً وتتطلب العديد من الجهود، ولا يمكن الاستفادة القصوى من الطاقات البشرية في الوطن العربي، إلا من خلال بناء الإنسان عن طريق، التعليم وتطويره، وهذا يتضمن محاربة الأمية والقضاء عليها، وتطوير ملكات النقد والتعبير والإبداع، إضافة إلى ذلك يحتاج بناء الإنسان إلى رفع المستوى الصحي، توفير الغذاء الكامل، تأمين الوقاية والعلاج من الأمراض، أي بصورة إجمالية تأمين الحاجات الإنسانية الضرورية التي تحفظ كرامة الإنسان. إن المواطن حينما يكون مشاركاً في القرار، سواءً من خلال الرأي أو مؤسسات المجتمع المدني كالمؤسسات التمثيلية أو السياسية، يتحمل تبعات القرار، أما حينما يُحرم من المشاركة ويعيش حالة فقر سياسي فإنه يعيش حالة غُرْبة قد يوفر بيئة ملائمة لخطفه من فئات قد تستثمره لتحقيق أجندتها الخاصة التي قد تكون ضد الصالح العام. لا شك أن الفقر سبب، والبطالة سبب آخر.إن مفهوم الأزمة السياسية يرتبط بالعلاقة بين المدخلات والمخرجات في إطار (النسق) أي النظام وتكون الأزمة عندما يحدث خلل في هذه العملية، وبمعنى آخر تحدث الأزمة إذا ما تغير بناء المطالب والمدخلات بشكل يفوق الموارد المتاحة أو بسرعة اكبر مما هو متوقع ولا تستطيع مؤسسات التمويل مواجهته أو التكيف معه. وكذلك غياب الديمقراطية كأسلوب عمل وقيمة سياسية عليا تضع محددات على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتعمل على إرساء الحكم الديمقراطي، وتُشرك الأغلبية البرلمانية في تداول السلطة، وتفتح قنوات للحوار والتفاوض وتبادل الرأي باتجاهين بين النخبة الحاكمة والشعب وبالعكس، وتمنع الانغلاق السياسي على اسر محددة في تولي المناصب العامة في مؤسسات الدولة، وكذلك رفض الدولة القبول بتمثيل الشرائح الاجتماعية والثقافية والسياسية والتعامل معها وإشراكها في عملية صنع القرار وعدم الانفراد به. تباين السياسات الاقتصادية في الدول العربية صاحبه اختلاف في البناء المؤسسي الاقتصادي لهذه الدول، إعادة تقسيم المجتمع إلى طبقتين,أغنياء وفقراء، ويتلازم مع ظاهرة الفقر والتي تعد تحديا جديا أمام الدول العربية إعادة تقسيم المجتمع إلى طبقتين، أغنياء وفقراء، مع تلاشي الطبقة الوسطي التي كانت عماد المجتمع الغربي في مسار تطوره الاقتصادي ويتلازم مع ظاهرة الفقر ظاهرة البطالة. والتي تعد تحديا جديا أمام الدول العربية بشكل عام. وقد شهد الربع الأخير من القرن المنصرم اتجاهات لتفكك الدولة القومية وإعادة دمجها بالاقتصادات الرأسمالية، إلا أنه يصعب الاندماج من دون إزالة وتغييب الهوية القومية ومكوناتها. وقد بدأت هذه التحولات من منطلقات اقتصادية، وفقا لتوجهات برامج المؤسسات الدولية البنك والصندوق الدوليان إلاأنها واجهت صعوبة لاختلاف أنماطها السوقية والبني الاقتصادية للنظام الدولي الجديد. فاستقرار الدولة والمجتمع الوطني رهن برسوخ مؤسسات ذلك المجتمع وخصوصا الاقتصادي منها , وثقافة هذا المجتمع الحديثة في الحياة الوطنية , و رسوخ لمؤسساته في ظل أنظمة سياسية لا تملك اقتصادا قويا ومتوسعا يشعر فيه الأفراد بالطمأنينة والأمن والاستقرار , فلا تساورهم المخاوف والشكوك من قدرة حكوماتهم على تحقيق أمالهم وتطلعاتهم المستقبلية , وخصوصا من الناحية الاقتصادية. والغاية التي تهدف إليها الدولة في مفهومها السياسي منذ القدم هو وجود نوع من الاستقرار السياسي من خلال وجود تجانس اجتماعي, والاستقرار والتجانس الاجتماعي يُعتبران من شروط الديمقراطية المستقرة، إذ ان الانقسامات داخل المجتمع تحمل في طياتها عدم الاستقرار وبالتالي انهيار الحكم الديمقراطي. إذا كان الكثير من السياسيين اليوم يستعملون في الألفاظ المتداولة كلمة تعددية فإن التعددية المقصودة في وصف المجتمع بالتعددية هو ذلك (المجتمع الذي تعيش ضمنه مختلف قطاعات المجتمع جنبا إلى جنب ولكن بانفصال داخل الوحدة السياسية الواحدة) وقد يضاف إلى هذا نوع من التمايز الوطني.. وقد يكون ما يميز هذا الفصيل عن ذاك معتقدات دينية أو أصول اثنية أو إيديولوجية أو لغوية، وهذا التمايز في الواقع قد يوجد ضمن مؤسسة سياسية حزبية أو حتى منظمة مجتمع مدني داخل مجتمع، ولعل التيارات المؤئتلفة ضمن هيئة معينة أن تكون نوعا من المجتمع التعددي وتحتاج هي بدورها إلى نوع من التوافق ويلاحظ اليوم أنه داخل حزب سياسي واحد تتعايش تيارات متعددة بل تضع لنفسها مسارا للتعايش. الديمقراطية هي ممارسة تتسم بالتنوع والتغيير في الظروف والإشكالات الفكرية والإطار التداولي الذي تظهر الممارسة داخلة , فعندما نتعامل مع الديمقراطية ينبعي مراعاة أنها تراث من التجارب المتنوعة بحسب الظرف التاريخي والثقافة والحاجة والقوى الفاعلة فيها لهذا ينبغي مراعاة التراث على سبيل التثقيف والنسخ عبر ما تفرضه الحاجة والظروف المهيمنة بمعنى, إن نتعامل معها على أنها خبرات ماضية وليس نماذج كاملة. ان للديمقراطية عناوينها من دستور ومؤسسات ومحاكم وانتخابات ونواب وحكومات وصحافة، ولكنها عناوين أفرغت من محتواها وهذا الأمر إظهار لتلك البنية العصبوية التي تقوم على الإقصاء والتمويه وإبقاء الكل في حالة صراع، فهدف السلطة لذاتها داخل العصبية الواحدة،أو مع باقي العصبيات، عبر خلق تحالفات مع بعضها ضد بعضها الأخر وسرعان ما ينتهي هذا التحالف بمجازر دموية تعمق الصراع حول المناصب وتوغل في الإقصاء . لقد أقامت تلك السياسة الاقصائية بإنتاج الرفض الفكري من المفكرين الذين تم زجهم في المعتقلات لأنهم يعارضون أفكار السلطة،هذا قاد السلطة إلى إنتاج العنف المضاد الذي كان يمثل رفضاً لسياستها. أما الإنسان الذي كانت تتحدث عنه فلسفة الأنوار، والذي جاءت الديمقراطية الليبرالية من أجل تحقيق حريته، سواءً في المجال الفلسفي أو في المجال الاقتصادي أو في المجال السياسي، فهو إنسان الطبقة، أي الطبقة البورجوازية. ومن تحول مفهوم سيادة الشعب إلى سيادة طبقة متمكنة هي الطبقة البورجوازية التي أصبحت تمتلك المال والإعلام، ومن ثم فإن الحرية كقاعدة للديموقراطية قد تحولت إلى حرية موهومة دون نفي بعض الامتيازات التي استفاد منها عموم المجتمع وعموما فقد انتهت الديموقراطية الليبرالية إلى تقييد حرية الغالبية, فحرية التملك تحولت إلى تقييد للملكية واحتكارها لصالح مجموعة من الرأسماليين، وحرية العمل تحولت إلى متاجرة بقوة العمل تحت تهديد شبح البطالة، وحرية المنافسة التي طالما اعتز بها النطام الرأسمالي تحولت إلى احتكار منظم لصالح الاحتكارات الجبارة، وحرية الاقتراع أفرغت من مضموها تحت وطأة جبروت الدعاية والإعلام والصحف ذات السطوة والسيطرة الفائقة على العقل البشري، والتي أصبحت تمتلك القدرة على تغيير اتجاهات الرأي العام وفقا للمصلحة الكلية للنظام الرأسمالي. وقد تعرضت الديمقراطية عبر تاريخها الطويل إلى التشويه ، ففي التاريخ اليوناني القديم ظهرت تجربة ديمقراطية, وقد دافع عنها المذهب السفسطائي الذي مثل عامة الشعب, لكن أفلاطون تعرض لهذا المذهب بالنقد وقدم صورة نقدية لتجربة الديمقراطية , وقد يعود هذا إلى الانتماء الطبقي له لانه من طبقة ارستقراطية. ان حرية التعبير ضرورية لكي يتمكن المواطنون فعلا من المشاركة في الحياة السياسية. أي يمكن للمواطنين التعريف بوجهة نظرهم واقناع الاخرين وممثليهم اذا لم تسنح الفرصة لإبداء الرأي بحرية في الموضوعات كافة التي تمس سلوك الحكومة, حرية التعبير ونقد النواقص والاخطاء التي تمارسها الحكومة, كذلك الحق في الانصات للآخرين ، اي قدرة المواطنون على التأثير في برامج الحكومة، فالمواطنون الذين ليس لهم رأي يذكر يخدمون النظام الاستبدادي، لكنهم يكونون كارثة على الديمقراطية. ومن هنا، فإن كل مشروع يهدف إلى تأسيس ديموقراطية في أمة من الأمم ينبغي أن يكون مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى منهج شامل يشمل الجانب النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي… إن الديمقراطية ليست مجرد عملية سياسية ولا هي عملية تسليم سلطات إلى الجماهير وإلى شعب يثصرِّح بسيادته نص خاص في الدستور. فهذا النص يمكن أن لا يوجد أو يلغى من طرف مستبد وتبقى الديمقراطية قائمة باعتبارها شعورا وتقاليد. إن الديموقراطية إذن شعور ومقاييس ذاتية واجتماعية تشكل في مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية في ضمير شعب قبل أن ينص عليها دستور. فالدستور ليس إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديمقراطي، حينما يصبح واقعا سياسيا يدل عليه نص توحي به عادات وتقاليد… ومن هنا تبدوعدم اهمية بعض الاستعارات الدستورية التي تقوم بها بعض البلدان المتخلفة التي تريد إنشاء وضع ديمقراطي بالقياس على الدول ذات التقاليد الديمقراطية العريقة. ان الانتقال على مستوى بلد معين، فإن أول ما يطرحه هو مسألة النموذج الكفيل بتحقيق طموحات الانتقال الديمقراطي، بعبارة أخرى، من أولى الإشكاليات التي يثيرها سؤال الانتقال الديمقراطي، إشكالية النموذج السياسي أو الأفق الذي تسعى إليه النخبة السياسية والفاعلين، والقادر على تحقيق الديمقراطية الفعلية والحقيقية، تبعا لمقومات البيئة السياسية الوطنية، ولطريقة الانتقال. وإذا كان من الصعوبة الإحاطة بكل العوامل التي من شأنها التأثير على صيرورات الانتقال الديمقراطي، وأيضا التأثر بهذا الانتقال، وفقا لعلاقة جدلية تعكس التمايزات العينية والشروط التاريخية لتطور كل مجتمع بشري، فإنه ينبغي في اعتقادنا ربط مسألة الانتقال الديمقراطي بالعوامل الأساسية المميزة لكل بنية اجتماعية تاريخية، أي تحديدا ربط هذا الانتقال بالمستويات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، لا بوصفها مستويات للتحليل والتوصيف ، بل باعتبارها مستويات تتشابك واقعيا وفي لحظات تاريخية في وحدة الأحداث الكبرى، أو في الانعطافات الكبرى. لكن في كل الأحوال، فإن الديمقراطية قبل أن تكون بناء لمؤسسات واعتمادا لآليات، وقبل أن تكون مجموعة من القيم، قائمة على مفهوم السيادة الشعبية وشرعية السلطة، فهي ثقافة وسلوك، وذلك يعني أن إقامة الديمقراطية في مجتمع ما لا يتأتى ما لم تتحول الديموقراطية إلى ثقافة، أي إلى تغيير يقع أيضا داخل الإنسان نفسه وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي، بدءا من الأسرة ومرورا بشتى المؤسسات الاجتماعية الصغيرة أو الكبيرة التي تنتظم داخلها نشاطاته وانتهاء بعلاقة الحكام بالمحكومين. ما يجري من سلوكيات وأنماط تفكير وتطبيقات للديمقراطية يتطلب إعادة النظر سواء بمفهوم الحرية كشرط ضرورة لأي ممارسة ديمقراطية أو بالنسبة للديمقراطية كثقافة أو بالنسبة لعلاقة السلطة بالمعارضة وبالمثقفين وبالحريات بشكل عام. إن فهمنا الصحيح للديمقراطية لا يستقيم بناء على رصدنا لواقع مجتمع معين، نصدر حكمنا بديمقراطيته بناءا على تعدد الفاعلين السياسيين، وقياسا لقدر الحرية التي يمنحها لأفراده أو الهيئات الفاعلة فيه، أو على أشكال المؤسسات التي يتم من خلالها إنتاج و تصريف قراراته السياسية، التي تتبلور بشكل مباشر و غير مباشر إيجابا أو سلبا على الواقع الموضوعي للمواطنين، فلو اعتمدنا هذه الرؤية نكون في هذه الحالة أمام توصيف شكلي بنيوي يبين الأسس الشكلية للديمقراطية ليس إلاّ. لا نريد من خلال القول بإعادة النظر بالديمقراطية، التخلي عن الديمقراطية بل إعادة النظر بفهمنا وبممارستنا للديمقراطية وأن نأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي تطرأ على علاقة النظم السياسية بالخارج و بالمتغيرات التي تطرأ على المشهد الثقافي في مجتمعاتنا وخصوصا ظاهرة المد الأصولي والعنف السياسي أو الإرهاب وبروز الجماعات الطائفية والإثنية ،التي كانت تشكل ثقافات غير مسيسة وبالتالي لم تكن حاضرة كقوى سياسية عندما بدأت النخب السياسية العربية تتعامل مع ظاهرة الديمقراطية قبل عدة عقود.
والديمقراطية اليوم وخصوصا خارج المجتمعات التي نشأت فيها يحتاج لمقاربة جديدة تؤسس على الواقع لا على الخطاب ،والواقع أن الديمقراطية تحولت إلى أنظمة حكم وشعارات فضفاضة إن كانت تتضمن مفردات الديمقراطية الحقيقية وتعبر عن ثقافة الديمقراطية في بعض المجتمعات إلا أنها في مجتمعات أخرى تعبر عن ألتوق إلى التغيير ورفض الاستبداد والقمع والسعي للحياة الكريمة بغض النظر إن كان النظام القائم أو المراد الوصول إليه مُهيكل حسب النظرية الديمقراطية. كل الأنظمة والمجتمعات تقريبا تقول بالديمقراطية،إما بوصف نفسها بالأنظمة الديمقراطية أو بأنها تريد أن تكون ديمقراطية،ولكن على مستوى الواقع القائم نجد أن أوجه التشابه بين هذه الأنظمة التي تقول بأنها ديمقراطية اقل بكثير من أوجه الاختلاف فيما يتعلق بشكل النظام وآلية إدارته وطبيعة الثقافة السائدة فيه.إن المدقق بواقع المشهد الديمقراطي في المجتمعات العربية يلمس أن الجانب المؤسساتي الشكلي للسلطة و وجود انتخابات ودستور ومجلس تشريعي ومنظومات قانونية تتحدث عن الحقوق والواجبات والخطاب السياسي المزركش بشعارات الديمقراطية ، لهما الغلبة في توصيف المشهد بالديمقراطي أكثر من توفر ثقافة الديمقراطية ومن انعكاس الديمقراطية على الحياة الكريمة للمواطنين.
وفي الفكر الغربي تطورت صورة الديمقراطية والمجتمع المدني الذي قادته الطبقة البرجوازية ، إلا أنها تعرضت لنقد على أيدي مفكري الاشتراكية, وقد تولدت حركات كثيرة ترفض الديمقراطية كما هو الحال في الأنظمة ( الأحادية ) القومية كالفاشية والنازية التي تقوم على تصور عنصر قومي استعلائي ، وقد يتردد الباحثون في استعمالها لما أصابها من غموض, وتداخل في المعنى مع غيرها من المصطلحات السياسية لكن محاولات السياسيين والمنظرين في تحديد دقيق للمفهوم أو مفهوم بديل لم يحالفه الحظ ، إلا إن الديمقراطية بقيت لا بديل عنها في توصيف ذلك الفعل السياسي الذي رغم ادعاء الكثيرين من تمثيله لكنها تبقى تمثل قيم المجتمع الحر الليبرالي, وتعبر عن تاريخية التجربة والحقب المعرفية والاجتماعية التي مر بها المجتمع الغربي عبر علاقته بالذات بالتفاعل, وعبر علاقته بالأخر بالصراع والسيطرة واثر هذا على تطور مفهوم الديمقراطية عبر التاريخ. الديموقراطية ليست مؤسسات أو دساتير، ولكنها استعداد نفسي وتربوي، وهي شعور لا يتحقق فقط بتغيير العلاقات تغييرا فوقيا، ولا هو شعور معطى بشكل قبلي. إنه خلاصة ثقافة معينة وتقدير جديد لقيمة الإنسان, تقديره لنفسه وللآخرين.
وإذا حاولنا توظيف المعطيات التي ذكرناها في مجال العلاقة مع الديمقراطية يتبين أن تلك العلاقة وجب أن تكون علاقة تكييف، أي عملية استيعاب وملائمة، مما يقتضي فهماً لمقاصدها وآلياتها، و جهدا يتم بموجبه تهيئة الظروف الملائمة لها في داخل مجتمعاتنا. لعل الإشكالات التي تعترضنا عن الديمقراطية بمفهومها التاريخي، و تجلياتها على الواقع المعاش، و ما يترتب عن تطبيقاتها الموضوعية من أوضاع سياسية و انعكاسات اقتصادية واجتماعية، هل ان مفهوم الديمقراطية يرتبط بالحرية والتعددية الحزبية والمؤسسات التي يتم من خلالها تطبيق القرار السياسي، التي يتوفر عليها مجتمع ما، و بالتالي يتم تصنيف المجتمعات إلى ديمقراطية و غير ديمقراطية حسب كثرة أحزابها و درجة توفرها على تلك المؤسسات، أم أن الديمقراطية ترتبط بالحالة التي يعيشها أفراد مجتمع ما من الناحية السياسية و الاقتصادية والاجتماعية، بغض النظر عن المؤسسات التي تنتج هذه الحالة، أو القوى الفاعلة فيها، و هل الديمقراطية تعبير فعلي عن سيادة الشعب، و بالتالي يمكن الحكم على مجتمع ما أنه ديمقراطي من خلال مسائلة أفراده، و بالنظر إلى الأوضاع التي يعيشونها في جميع مناحي حياتهم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here