مسرحية “قيامة الأرض” وتجريب المسرح المفتوح

مسرحية “قيامة الأرض” وتجريب المسرح المفتوح

د. رمضان مهلهل سدخان

مسرحية “قيامة الأرض”، التي هي عمل مشترك بين الممثلين العراقيين والممثلين الإيرانيين والتي تُعرض في البصرة في مجمّع القصور الرئاسية منذ 26 / 12 / 2021 ولغاية 9 / 1 / 2022، هي المسرحية الملحمية الأضخم في تاريخ المسرح العراقي من حيث ثيماتها المتعددة ومعالجاتها الإخراجية الصعبة ومشاهدها الكثيرة العنيفة في معظمها وعدد ممثليها الذي يفوق المائة والخمسين ماعدا الشخوص الثانوية والمساحة الكبيرة التي يتحرك عليها هؤلاء الممثلون والفترة الزمنية التي عالَجَتْها والرسائل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والإنسانية التي بَثّتْها بالرمز تارة وبالتصريح تارة أخرى في حوار مركّز مدعوم بمؤثرات صورية وصوتية. وهي بهذا كسرت المألوف والدارج في الأعمال المسرحية السابقة بل كسرت التقاليد المسرحية التي أرساها أرسطو ومَن بعده.
موقع العرض:
خشبة المسرح هي عبارة عن نصف قوس طبيعي كبير يمتد إلى أكثر من 500 م تتوسطه شاشة عَرْض كبيرة وبجانبها شاشة أصغر بوصفهما أداتين مساعدتين تضافان إلى مَشاهد الممثلين الحيّة أمام الجمهور الذي يجلس في الهواء الطلق على مساحة شاسعة هي الأخرى بمواجهة هذا القوس المترامي الأطراف الذي تجري عليه الأحداث الممتدة إلى آلاف السنين وصولاً إلى يومنا هذا. ديكور المسرحية منجَز بعناية فائقة يعكس ما يدور من أحداث مستقبلية فضلاً عن استغلال التضاريس الأرضية الطبيعية لتشكل عنصراً مهماً آخر في محتوى المسرحية. وبهذا فهي جمعت بين المسرح الإغريقي القديم الذي تُعرض أحداثه في الهواء الطلق والمسرح الحديث الذي يعتمد على المؤثرات الصوتية والضوئية والصورية وعادة ما يكون داخل صالات عرض معدّة لهذا الغرض.
ملخص المسرحية:
تفتتح المسرحية بمشهد آدم (ع) وحواره مع الرب وكيفية إغوائه من جانب الشيطان الذي دفعه إلى شجرة التفاح وتناول ثمرتها التي ما إن امتدت يده إليها حتى حدث انفجار هائل جداً أيقظ الجمهور ليسود الظلام المسرح بعد ذلك، فيهبط آدم من جنته إلى الأرض. أيقظ هذا الانفجار الشديد المشاهدين وكأنه أريد منهم أن يفتحوا عيونهم إلى الأهوال التي ستحيق بالبشرية بعد تلك اللحظة وأن لا يبقوا في غفلة من أمرهم. بعدها تترى الأحداث لتتناول حياة أنبياء آخرين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم افضل الصلاة والسلام) وصولا إلى رسولنا الأكرم محمد (ص). وتستمر وتيرة الأحداث لتصل إلى آل البيت الكرام ضمن فترات الحكم الأموي والعباسي. تنعرج أحداث المسرحية إلى تاريخ العراق وتبرز عبر لقطات معبّرة أيام حكم صدام حسين وسقوطه والاحتلال الأميركي وأحداث العراق ما بعد 2003 ووصول داعش وطردهم من جانب الحشد الشعبي وقصة اغتيال أبي مهدي المهندس وقاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد. ولم تنتهِ أحداث المسرحية عند هذا الحد، بل عمد المؤلف إلى إيصال فكرة أن الصراع بين الخير والشر مستمر إلى يومنا هذا حتى ظهور منقذ البشرية الإمام المهدي (ع). هذه الأحداث الكثيرة جرى تكثيفها في ساعتي عرض فقط.
ثيمات المسرحية:
المسرحية كسرت المألوف والدارج في الأعمال المسرحية منذ أرسطو وتبنيه مفهوم الوحدات الثلاث. إذ تصدّت المسرحية إلى معالجة ثيمات عديدة في أمكنة مترامية الأطراف ضمن فترات زمنية ممتدة إلى أغوار تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا.
هي مسرحية أخلاقية: عالجت موضوعة الخير والشر قبل بدء الخليقة وبعد بدئها والصراع الذي يتجدد دوماً وإن اختلفت الأزمان والشخوص والأمكنة.
هي مسرحية اجتماعية: عالجت ما يدور في خلد الناس من مختلف مشاربهم عبر العصور من خلال تصوير ردّات أفعالهم تجاه ما يجري حولهم من أحداث تتطلب منهم موقفاً اجتماعياً صريحاً. ولا أدلّ على ذلك من هول الانفجارات الضخمة التي اكتنفت المسرحية بين الحين والآخر وكأنها تريد أن توقظهم مراراً وتكراراً.
هي مسرحية سياسية: تعرّضت إلى تاريخ العراق القديم والحديث مروراً بحكم صدام وبعده حتى نهاية العام 2021.
هي مسرحية دينية: تتبعت سيرة الأنبياء منذ آدم وحتى رسولنا الأكرم؛ وسيرة الأئمة الصالحين منذ الإمام علي (ع) وحتى آخر إمام منتظر (ع).
هي مسرحية عسكرية: أبرزت الحروب والمعارك منذ معارك المسلمين الأوائل في أحُد وصفين والنهروان والطف وصولاً إلى معارك تحرير البلاد من داعش.
تفرّد المسرحية:
سعة المسرح مما جعل الأحداث تجري أمام الجمهور من ثلاث إن لم تكن من أربع جهات.
استغلال تضاد الضوء والظلام ليكون فاصلاً بين المَشاهد والفصول بديلاً عن الستارة التقليدية.
عرض المَشاهد العنيفة التي يتعذر عرضها على المسرح التقليدي المقيّد بخشبة وأبعاد ضيقة. وهكذا رأى الجمهور مَشاهد دخول الخيول وسفينة نوح والإبل بل حتى سيارات داعش المدججة بالأسلحة وسيارات الجيش والحشد. رافق هذه الأحداث العنيفة أصوات التفجيرات الشديدة التي تصك مسامع الجمهور الذي يحسّ بحرارة التفجيرات ويشمّ رائحة البارود المتفجر ويذهل لهول أصواتها.
الجمهور كان جزءاً لا يتجزأ من المسرحية لأن من بينه ومن خلفه تدخل الشخوص لاسيما في مشاهد دخول أصحاب المشاعل لحرق الحطب الذي جُمع لحرق نبي الله ابراهيم الخليل (ع) بعد أن قذفوه بواسطة المنجنيق، وكذلك مشهد تشييع فاطمة الزهراء (ع) التي مرّ موكب جنازتها من بين الجمهور الذين وقفوا تعظيماً لموقف هذه الامرأة الكبير، وكذلك موقف المشاية الذين جاؤوا من خلف المشاهدين ومرّوا من جانبهم الأيسر بطريقة تحاكي جداً ما يجري في أيام محرم الحرام هكذا بكل واقعية.
الجمع بين المسرح القديم أيام الاغريق إذ لا ستارة ولا بناء مغلق وبين المسرح الحديث المتمثل باستخدام المؤثرات والحِيَل المسرحية بأدق صورة في عملية مزج رائعة للغاية بين القديم والحديث.
نقاط مضيئة:
الحضور اللافت للعائلة البصرية بعد أن هجرت تلكم العوائل المسرح والسينما منذ أن حلّ المسرح الهابط والتهريج مكان الأعمال الجديرة بالمشاهدة. كان حضور العوائل والنساء يفوق العدد الذي حضر المسرحية من الفئات الأخرى بأضعاف.
تجريب المسرح المفتوح الذي أثبت نجاحه الكبير وتعويض قيود المسرح القديم، تلك القيود التي تحول دون عرض المَشاهد العنيفة كالمعارك والتفجيرات واستيعاب الأعداد الهائلة من الممثلين.
وبعد:
هذه التجربة المسرحية الناجحة بجميع المقاييس تفرض على القائمين على المسرح في العراق التفكير بجدية إلى إرجاع المسرح إلى طبيعته الأم مع الاستفادة طبعاً مما تقدّمه التكنولوجيا من امكانيات تساعد في العرض وإيصال الافكار بواقعية أكبر. بمعنى، بدلاً من التفكير ببناء دور عرض مسرحية وصالات مغلقة داخل الأماكن المكتظة، لابد من التفكير ببناء مسارح مكشوفة تمتد على أراضي شاسعة وهذا يفرض استغلال المتنزهات والحدائق العامة الكبيرة والأماكن المفتوحة البعيدة عن ضجيج المدينة الصاخب لإعطاء حرية أكبر ليس لحركة الممثلين فقط بل حتى العجلات الحربية والسيارات وغيرها من الأشياء التي يصعب تنفيذها في المسرح التقليدي المغلق المحكوم بأمتار قليلة.
أخيراً:
ورغم هذا كله، لم تحظَ مسرحية “قيامة الأرض” بما تستحق من التغطية الاعلامية التي تليق بهذا العمل المتفرد فنياً. الإعلام الذي يتهافت على تغطية الكثير من الأحداث والعروض التافهة يشيح بوجهه عن هذا الحدث الكبير والجديد في طريقة عرضه وتناوله.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here