حكومة أقلية وطنية

ساهر عريبي

[email protected]

تقود مملكة السويد منذ الثلاثين من نوفمبر الماضي حكومة جميع أعضائها من حزب واحد هو العمال الديمقراطي الاشتراكي برئاسة مادلين أندرسون زعيمة الحزب, رغم أن الحزب لم يفز بأغلبية مقاعد البرلمان السويدي المؤلف من 349 عضوا خلال الانتخابات التي جرت عام 2018. فقد فاز بـ 100 مقعد فقط, أي أقل من ثلث مقاعد البرلمان لكنه مع هذا كلّف بتشكيل الحكومة من قبل رئيس البرلمان الذي ينتمي لحزب المحافظين المنافس للحزب الاشتراكي والذي احتل المرتبة الثانية في الانتخابات مع حصوله على 73 مقعدا برلمانيا.

قد يبدو الأمر مثيرا للاستغراب إذ كيف يمكن لحزب لم يحصل على الأغلبية البرلمانية أن يشكل الحكومة وكيف مرّر البرلمان مثل هذه التشكيلة التي لا تحظى إلا بتأييد أقل من ثلث أعضاء البرلمان. والجواب يكمن في عدة قواعد تحكم العملية الديمقراطية في السويد, اولها وهي قاعدة لا تشذ عنها جميع الأنظمة الديمقراطية في العالم عدا تلك السائدة في العراق! وهي قاعدة  منح الحزب الفائز الفرصة لتشكيل الحكومة وإن لم يفز بالأغلبية, فالغرض من الانتخابات هو تحديد الحزب الذي يحظى بأعلى تأييد بين أبناء الشعب.

يمنح الحزب الفائز الفرصة أولا فإن كان قد فاز بأغلبية مقاعد البرلمان فيشكل الحكومة لوحده عادة وإن لم يفز بالأغلبية فعليه عقد تحالفات مع فائزين آخرين ممن يتقاطع معه بالآيديولوجيا والبرامج وليس بالمصالح . فالأحزاب الاشتراكية تبحث عن حليف ضمن بلوك اليسار مثل حزب البيئة أو أحزاب اليسار التي تختلف تسميتها من بلد لآخر ولكن تجمعها التوجهات الاشتراكية.  وأما التحالفات مع أحزاب اليمين فمستحيلة لاختلاف برامج أحزاب اليمين عن اليسارية.

أحد أوجه التباين مثلا هي الضرائب إذ تسعى أحزاب اليمين عادة إلى تخفيضها عن أرباب العمل فيما تفعل الأحزاب اليسارية العكس إذ تزيدها على اصحاب الدخل العالي من شركات وأفراد وتخفضها عن أصحاب الدخل المتدني. وهناك تباين أيضا فيما يتعلق بمحاربة التغييرات المناخية ومعالجة قضايا البيئة. والاستثناء الوحيد هو في تشكيل حكومة وحدة وطنية عند مرور البلاد في حالة طوارئ مثل تعرضها لعدوان خارجي. ولذا فلايمكن في الظروف العادية  عقد تحالفات بين اليمين واليسار من أجل تشكيل الحكومة.

تولى رئيس الوزراء السابق توماس لوفين تشكيل الحكومة عقب انتخابات العام 2018 وقد شكلها من 23 وزيرا منهم 18 من الحزب الاشتراكي و 5 من حزب البيئة. ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن حزب البيئة يمتلك 16 مقعدا برلمانيا فإن التحالف الذي شكل الحكومة لا يمتلك سوى 116 مقعدا, وهو بعيد عن الأغلبية البرلمانية المطلقة وهي 175!  إلا أن البرلمان مرّر الحكومة!

وأما تفسير ذلك فهو أن الدستور السويدي اشترط لتمرير الحكومة عدم معارضة  الأغلبية المطلقة وليس تأييد الأغلبية المطلقة لها! وفي ذلك تسهيل لتشكيل الحكومة وعدم تأخيرها كي تستمر بتقديم خدماتها للشعب رغم أن السويد واحدة من أفضل دول العالم على هذا الصعيد. وقد تكرر المشهد هذه المرة بعد استقالة لوفين وتكليف زعيمة الحزب الاشتراكي الجديدة ماجدالينا أندرسون بتشكيل الحكومة أواخر نوفمبر الماضي.

إلا أن الأمر كان مختلفا هذه المرة! إذ شكلت أندرسون حكومة من حزب واحد فقط هو حزبها دون إشراك اي وزير من حزب البيئة أو حزب اليسار!  فقد صوت 173 نائبا ضد توليها المنصب يمثلون أحزاب اليمين فيما صوت لصالحها نواب حزبها فقط( 100 نائب) إضافة إلى نائب واحد من أحد الأحزاب. فيما التزم الحياد 75 نائبا يمثلون أحزاب اليسار والبيئة والوسط وهو حزب معتدل.

وبذلك تستمر حكومة أقلية بحكم السويد ولحين الانتخابات النيابية المقررة في سبتمبر المقبل. الملاحظ هنا أن الأحزاب التي أمتنعت عن معارضة التشكيلة الحكومية كان بإمكان أي منها بل وحتى انشقاق عضو واحد أو اثنين من أعضائها إسقاط الحكومة لكنها امتنعت رغم أنها لم تطالب مقابل سكوتها بمناصب وزارية.

كل الذي طالبت به قرارات تنسجم مع رؤيتها السياسية وتتعلق معظمها بالحفاظ على البيئة وتحسين الخدمات واوضاع الطبقة المتوسط وتلك ذات الدخل المحدود وغيرها من القرارات. لا تبحث تلك الأحزاب عن تقاسم الكعكة الحكومية! فليس هناك عقود تستحوذ عليها ( المكاتب الاقتصادية) لتلك الأحزاب  التي تفصح وبكل شفافية عن مصادر تمويلها, فضلا عن أن السويد واحدة من الدول التي تتصدر المؤشر العالمي للنزاهة والشفافية.

ليس للأحزاب السويدية مرجعية دينية بل كل ما تؤمن به قيم إنسانية ومثل عليا مثل العدالة والمساواة والنزاهة والعمل والإخلاص وخدمة المجتمع والإيثار. فما يهم الحزب هو تسيير أمور البلاد بغض النظر عن المشاركة في الحكومة من عدمها. ولعل ما يثير الأسى هو عقد مقارنة بين هذه الأحزاب العلمانية وبين الأحزاب التي تدعي أنها إسلامية في الشرق الأوسط ومنها تلك التي تتصدر المشهد السياسي في العراق.

فتلك الأحزاب التي تدعي انها تمتلك منظومة قيمية تطرحها بديلا للمنظومة القيمية الديمقراطية الغربية, تنظر للحكومة على أنها كيكة تتقاسمها مع الآخرين وليس مكانا لحل أزمات الشعب العراقي وهي لا تعد ولا تحصى مقارنة بالوضع السويدي. اعتادت ومنذ أكثر من 18 عاما على تشكيل الحكومات المتعاقبة بهدف نهب الموازنة العراقية دون أن تقدم خدمات تذكر للشعب. كما أنها عادة ما تنقلب على حجر الزاوية في النظام الديمقراطي ألا وهو منح الفائز في الانتخابات الفرصة لتشكيل الحكومة وإن لم يفز بالأغلبية البرلمانية. فلابد من تكليفه فإن فشل فيكلف الفائز بعده وإلا فتعاد الانتخابات.

جرى الالتفاف على الفائز في العام 2010 وفي انتخابات عام 2018 واليوم تحاول بعض القوى إعادة الكرّة. واما السبب فلأن القواعد التي تحكم  عمل القوى السياسية ليست أخلاقية فضلا عن كونها ليست دينية, فهي قائمة على شراء ذمم كتل ونواب من أجل تشكيل التحالف الأكبر  والهدف هو الاستحواذ على عقود الحكومة. واليوم يتكرر ذات السيناريو مع التيار الصدري الذي فاز بالانتخابات. إذ تسعى القوى الخاسرة وبلا خجل إلى مصادرة حقه الديمقراطي في تشكيل الحكومة بل حقه في أخذ فرصته لتشكيل الحكومة! فهل توجد ديمقراطية في العالم تمنح الخاسر حق تشكيل الحكومة! 

لم يكفِ هذه القوى الخاسرة والعديمة القيم نهب أكثر من 1000 مليار دولار طوال السنوات الماضية ولا الفشل في حل أي من ازمات العراق, بل زادتها حدة ولعبت على جميع الأوراق من طائفية وقومية واتهامات لخصومها بالعمالة ورهنها لسيادة العراق للخارج ومشاركتها في قتل مئات المتظاهرين العراقيين واغتيال عشرات الناشطين, لم يكفها كل ذلك بل تريد اليوم ان تصادر حق الفائز تحت ذريعة أسطوانة وحدة المذهب وغيرها من الاسطوانات المشروخة التي لن تنطلي على الشعب الذي زاد وعيه وعرف حقيقة هذه القوى المتاجرة بالدين والمذهب.  

لقد قدمت هذه القوى أسوأ نموذج للأحزاب الإسلامية عبر التاريخ, ووجهت ضربة للدين الإسلامي حتى أصبحت طروحاتها وشعاراتها التي رفعتها طوال عقود مثار سخرية واحتقار خاصة إذا ما قورنت سيرتها بالحكم بسيرة من تصفهم ب“ الكفار“ ومنها الأحزاب السويدية التي تضع القيم الأخلاقية والديمقراطية ومصلحة البلاد فوق أي اعتبار آخر! 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here