إجتثاث الدين

إجــتــثــاث الــديــــن
د. عبدالرضا الفائز
[email protected]

يوم وصلت القوات الامريكية في آذار 1991 إلى ثلث الطريق لبغداد، كان سبيلها مفتوحا لتختصر زمن وكلفة المهمة التي عادت من أجلها في 2003. فلماذا انسحبت القوات بذريعة واهية وعادت إدراجها حين كانت قادرة بسهولة بعون انتفاضة الجنوب والشمال وضباطها أن تغيّر، كما فعلت حين عادت بعد 12 عام؟
إستنادا إلى تراثه (وتاريخه)، أنقذ صدام كامب ديفيد وأفشل الوحدة في قاعة الخلد، وبدأ سلسلة حروبه العبثية في الخارج والداخل، تأسيسا لمشروع تخريب المنطقة وإنهاء العرب (بإمكانات العراق)، استكمالا لدور برع به وأرتفع(1). تلتها خيمة صفوان بعد فشل (في مصيدة) غزوه الخائب وتوقيعه 12 اتفاقا “دوليا” مذلا كبلت العراق من أجل أمن كرسيه الذي عُرفَ عنه اعتباره خط نار تحترق دونه كل الاعتبارات والأخلاق والقيم، مضحيا من اجله أرض الوطن وأهله في أكثر من مكان، لم تكن ما وُقعَ في تلك الخيمة أسوأها. فأعطت تلك الاتفاقيات له رخصة قمع انتفاضة الجنوب والشمال التي كان انتصارها يمنع توقيع تلك الاتفاقيات المذلة. وهكذا عادت القوات متراجعة بما حملت، في انتظار يوم آخر بُيّتَ له، فالاستفادة من الصنم لم تنفذ حينها بعد.
حين تعفنت تفاحة النظام (وتهرأت ثقافة أتكأ عليها، وأكتمل اجتثاثها – دون رجالها – قبل 2003)، أصبح الطاغية مكروها ومحتقرا حين اختفى بعد هزائم وحروب في جحور وقصور، مارس فيها الاستهتار والتعالي والإتجار بالقيم. ومع عهره (تحت رسالة الجوع والعذاب) بوحدة فرقّت العرب وحرية استعبدت الشعب واشتراكية احتكرت فيها عائلته وعشيرته نهب البلد مؤسسا لحقبة الفساد (المستمرة)، عادت المدرعات وحدها لتدخل بغداد، وفر زبانيته كما خلقوا بالملابس الداخلية البيضاء (كما صُوروا) وقُبضَ عليه فأرا (كما ولد) دون رصاصه تمنحه قليلا من شرف ليشنق بعد محاكمة أخذت سنة، لو حوكم فيها بقوانينه لأعدم في رمشة عين.
أُعلنَ العراق بلدا محتلا كما أُحتلت ألمانيا وإيطاليا واليابان وغيرها، تحررت جميعها من آثار النازية والإقطاع الفكري عدا تلك التي دخلتها إيديولوجية أجلت تقرير المصير فيها بضع عقود. لكن الشعب في العراق ليس كالشعب في ألمانيا واليابان وإيطاليا وغيرها، حيث الناس هناك عايشوا النهوض وأدركوا طرق التقدم قبل هتلر وموسليني بسنين تعود لعصر النهضة، ربما. فهنا المقدس بلا ثقافة(2) مع كل تعقيدات فهمه ورواسب التعامل مع طبقات إدراكه في مذاهب وطوائف ومُلل ودورات تنافست، في صراعات لم تهملها السياسة في عهودها والمصالح في انتهازها. عندها فُتح صندوق التحلال (تحرير في احتلال)، فكانت الطائفية أول وصفاته “فرق تسد”.
أُشيع معاقبة “السنة” ودُفعَ فلول صدام (أو سُهلَ لهم) الالتحاق بالقاعدة في “مقاومة” تهاجم الشيعة المدنيين. أُنتدبَ جيمس ستيل (المستشار الأمني للقوات العراقية) لتعزيز تدريب مسلحي فصائل الشيعة(3). وفتحت حدود العراق لمن هب ودب دعوة لكل إرهابي ومجرم، خدمة لهدف قديم تناوله الاستراتيجي الإسرائيلي أوديد يونون في الثمانينيات الماضية لتقسيم عرب العراق في شيعة وسنة، مع تشجيع الكرد تعزيز رفع مطالبهم القومية لتقسيم العراق في مكونات مشلولة تتصارع “شيعة وكرد وسنة” تقزم الجوامع وتعظم الفوارق، ضحيتها العراق ونفع أعداءه.
وفي عودة إلى عنوان المقال “اجتثاث الدين”، ذكرّتنا حفلة المغني المصري محمد رمضان وما بعدها في إحتفالات رأس السنة الميلادية وما ظهر فيها من ثغرات، في جيل صاعد أو قادم وناقم متحرر “فاضحة” وما قابلها من فزعات لجيل نازل أو غافل ونائم متزمت “مبرقعة”، جعلتنا نرى جانب من إطلالات محو العراق(4) وما ذكرته مؤسسة راند الأمريكية ذائعة الصيت في مقابلة ذكاء خاضع للتخطيط والبرامج مع جهل زاده التزييف والخرافة. وبفضل أحزاب حملت أسم الدين تجارة (وإن أردت أن تقنع جاهلا فاستخدم الدين) تحقق ما حصل ويحصل في تكريس ثقافة يشهد رجالها حبهم العاري للسلطة والمال والنفوذ (رغم ادعاؤهم – الكاذب- أتباعٌ لعلي وعمر) تحت سلطة فشلوا فيها كما أعترف الزعماء فيهم علنا، فيصرخون بحكم الأغلبية حين يفوزون والمحاصصة حين يخسرون مُتذاكين في مكر من أجل الغنائم ونكران مخز للوطن في ممارسات عززت التراجع والتخلف وهمشت التقدم، صانعة للعطل والبطالة عهدا تحت ظلال الإلهاء والتجهيل، قابلين أن يكونوا (من أجل الحرام) سلاحا وأداة طعن الدين “بالدين” (كما فعل صدام في عهد ثقافته).
لقد تُركَ صدام 12 عاما ليتعفن وينفضح، وأُستخدمَ (بالمفعول به) في اجتثاث ثقافة لها لونها وتطلعاتها. وبالمثل يُستخدمون هم اليوم (بالمفعول به أيضا). وهي حرب يكون فيها العدو يقاتل النوع نفسه في حرب الضد النوعي لتكون فيها الذات ضد الذات، تعزيزا لثقافة فن رمضان واحتفالاتها وتكميلا لمحو قادم سلاحه قلع لسابق واستزراع لقادم(4). ولله الأمر في وعد بنصر المؤمنين. إما الذين قالوا، وطمعا بالحرام أصروا “أسلمنا”، فلهم حساب من الله أشد مما سوف يأتي من التاريخ والناس، والعاقبة للمتقين.
المصادر:
1- “خير الله طلفاح رجل الظل لصدام حسين”، فايز الخفاجي، دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد، 2016، صفحة 125. عن علاقة صدام مع CIA بموجب ملف للمخابرات المصرية “سري جداً” رقم 16829 في 19/6/1961.
2- “الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة”، أوليفر روي، ترجمة صالح الأشقر، دار الساقي، بيروت، 2016.
3- “نحن داعش”:
ISIS is US, Wayne Madsen & John-Paul Leonard, Progressive Independent Media, 2016. http://www.progressivepress.com
4- “محو العراق – خطة متكاملة لإقتلاع عراق وزرع عراق آخر”، مايكل أوترمان وريتشار هيل مع بول ويلسون، ترجمة شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2011. الفصل الأول. ملاحظة: يذكر الكتاب أيضا في فصله الأول دور صدام حسين كعضو ارتباط للبعث في التنسيق مع المخابرات الأمريكية في اغتيال عبدالكريم قاسم 1959.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here