الغرقى الناجون : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم
في طريقهم إلى بلدان لجوء مرّفهة على متن قارب مطاطي مثقل بأعداد إضافية من بشر متزاحمين كعلب سردين متراكمة فوق بعضها بعضا أكثر مما هي مسحوح به أصلا و بوجوه مصفرة و أنفاس هلعة من شبح موت مخيم و على وشيك محتمل جدا .. و فوق ذلك ، عبر بحر هائج بفعل دفعات رياح قوية التي سرعان ما كانت تتحول إلى عاصفة هوجاء ومجنونة تخض قاربهم اختضاضا مخيفا ، لينقذف إلى أعلى حينا ويمينا و يسارا حينا آخر ، حتى يبدو و كأنه دمية ضئيلة ومنكمشة على راحة يد عملاق خرافي ، يعبث به بسخرية قاسية ومستهترة .. و حينما أنقلب القارب لافظا ثقله البشري الهائل نحو أعماق المياه فحينذاك لاحظتهم سفينة إنقاذ أوروبية ذات نوايا و أهداف إنسانية فأسرعت إلى إنقاذ بعضهم من غرق مؤكد ..بينما بعضهم الآخر أبتلعتهم أشداق موجات هائلة تندفع مرتفعة مثل قمم جبال شاهقة ..
و كان من بين الناجين أربعة أشخاص جلسوا الآن في حضرة المنقذ الأعظم قبطان السفينة الرسول المبعوث من قبل مجموعات إنسانية أوروبية مهتمة خصيصا بمصير اللاجئين عند أعالي البحار ..
وقد رأى القبطان أنه من واجبه الرسمي استجوابهم الإداري لمعرفة و تسجيل هويتهم الشخصية الثبوتية في سجل السفينة الخاص عن الأفراد الموجودين على متنها ..
لذا فسأل الأول عن اسمه وجنسيته و عنوانه و عمله و على نحو :
ــ الاسم من فضلك و كذلك العنوان و طبيعة العمل أو المهنة ؟..
ــ أنا مواطن مصري وفنان ناشئ : يعني ممثل ومطرب في نفس الوقت !.. إضافة إلى ذلك فأنا خريج التجارة ..
فرّك القبطان يديه وهو يقول :
شيء جميل .. شيء جميل .. فنان ومطرب ..
التفت نحو الثاني سائلا إياه نفس السؤال فأجاب :
ــ أنا مواطن سوري كنتُ أعمل في التجارة و كذلك في تصريف العملة يعني كنت رجل أعمال ..
استمر القبطان يردد
ــ شيء ممتاز و رائع حقا .. رجل أعمال ومستثمر !.. هذا أمر جيد عندنا ..
بينما تطوع الثالث الملتحي ليكشف عن هويته الشخصية تلقائيا قائلا :
ـــ أنا من أحد بلدان المغرب العربي و عملي هو مجاهد و داعية من أجل نشر الإسلام أينما كان .. ! ..
فهنا حّك القبطان جبينه بحركة عفوية وقال متلعثما
ــ همم !.. نعم .. نعم .. بإمكانك أن تفعل ذلك .. فحرية التفكير و الرأي و العقيدة مكفولة عندنا في أوروبا لأي كان ، ولكن بشرط عدم ممارسة أعمال العنف ..
أما الناجي الرابع من الغرق و ذو شعر طويل منسدل بشكل فوضوي على كتفيه و على نحو هيئة هيبيي السبعينات ، فقال مجيبا على نفس السؤال قائلا :
ــ أنا عراقي الجنسية أما مهنتي ف….
قاطعه القبطان مبتسما بلطف وبشاشة :
ــ أوه عراقي ؟.. عراقي ؟.. لحظة .. لحظة من فضلكم !.. فحتما أنت شاعر !..
فاندهش العراقي ليسأل بدوره :
ــ نعم صحيح .. فأنا شاعر بالفعل!.. ولكن من أين تعلم ذلك ؟..
قال ذلك و دس أصابعه المبللة في نفس الوقت إلى جيبه ليخرج ورقة فيسبوكية ملطخة ببقع شاء وقهوة ، تثبت ذلك حيث كان لقب ” الشاعر ” يتقدم اسمه بحروف كبيرة وبارزة ، مثل لقب طبيب أو مهندس أو محامي مثلا ! ..
فرد القبطان ضاحكا ضحكا مشوبا بنبرة طرافة مبطنة وقد بدا بمزاج رائع فجأة دون سبب واضح وهو يقول :
ــ من أين افترضت كونك شاعر ا؟ .. حسنا .. لأنني من خلال عملي في عمليات الإنقاذ كنت التقي مع العراقيين وكان أغلبهم يقولون أنهم شعراء ..حتى بتُ مقتنعا بأن كل ثالث عراقي هو شاعر في كل الأحوال أو يعتبر نفسه شاعرا حتما ، وكل رابع عراقي يعد نفسه مشروع شاعر حتما، و كل خامس عراقي يفكر أن يكون شاعرا حتما ..
فعلق العراقي سائلا بنبرة جافة ظنا في أن القبطان يسخر منه :
ــ وما هو الأمر السيء أو المعيب في أن يكون المرء شاعرا أيها القبطان ؟..
فهز القبطان رأسه نافيا ومجيبا في الوقت نفسه قائلا :
ـــ لا أبدا !.. على عكس من ذلك تماما ! ..بالنسبة لي فهو لأمر مفهوم بل و محبب و جميل .. أعني هذه الظاهرة الشعرية المنتشرة عندكم ..إلا أن الشيء الوحيد الذي لا أفهمه قطعا في هذا الأمر هو : كيف يمكن لمجتمع فيه هذه الأعداد الهائلة من شعراء في الوقت الذي لا زالت ترتفع فيه نسبة العنف إلى هذه الدرجة العالية من قسوة مرعبة و مفرطة ؟!.. فحسب الأخبار ما من يوم يمر و إلا عندكم أما شخص مقتول أو أشخاص مقتولون .. فالشعر والدموية أمران متضادان جدا ، حيث أحدهما نقيض الآخر تماما ..
فرد العراقي بنبرة فجائعية مؤثرة :
ــ لأن قدرنا العراقي قاس جدا و لحد اللعنة !..
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here