حفاضات أطفال في قبضة السي آي أي

رداً على هجوم ادموند بيرك على الثورة الفرنسية، أصدر توماس بين كتاباً بعنوان حقوق الانسان عام ١٧٩١م، والذي أثار حينها حساسية الحكومة الملكية البريطانية فمارست شتى أنواع الضغوط على الناشر لايقاف الطبع ولكن دون جدوى، ولما تمت طباعة الجزء الثاني عام ١٧٩٢م عرضت الحكومة على الناشر شراء جميع النسخ بسعر مضاعف لمنع وصولها الى القراء، ومرة أخرى رفض الناشر عرضها، عندها لجأت الحكومة الى تلفيق تهمة القذف والإساءة للملك ضد الكاتب الذي دافع عن نفسه بالمحكمة قائلاً ( اذا كان الدفاع عن حقوق الانسان قذفاً فاكتبوا ذلك على شاهدة قبري ).

مرت على تلك الحادثه أكثر من قرنين أسهمت خلالها الثورات ونشاطات الاحزاب والمنظمات الجماهيرية في اثراء الديمقراطية، حتى أضحت اليوم حريه النشر والصحافة أحد أهم أركان الانظمة الديمقراطية، مع ذلك فان ما تعرض له جوليان أسانج مؤسس ويكيليكس من إقامة جبرية في السفارة لسبع سنوات واعتقال جاوز الثلاث سنوات وما ينتظره في الولايات المتحدة من سجن يتجاوز المئه عام (هذا ان لم تتم تصفيته) يشكل فضيحة مدوية ويكشف نفاق ودجل حكومات العالم الحر بادعاءها حرية الوصول الى المعلومة.

كان آخر ماتم كشفه في القضية أن الادارة الامريكية السابقة خططت مع السي آي أي للتجسس على أسانج أثناء لجوءه في سفارة الاكوادور بغية إغتياله ( ما يذكّر باغتيال خاشقجي)، كما انها جمعت عينات من حفاضات أطفاله لأجراء فحص ال دي أن أي عليها. كل ذلك بسبب تزويده الصحف الكبرى بوثائق وفيديوهات تكشف جرائم الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان ومراسلات سرية تفضح النخب الحاكمة، تلك الوثائق التي لم يتم نفيها الى هذه اللحظه من قبل الجيش أو الحكومة، وبدل انزال العقوبة بمن ارتكب الجرائم، يتعرض بقسوة وحشية من أزاح حجب السرية عنها.

تتحصن حكومات الديمقراطية الغربية ضد النقد، وتروض شعوبها عبر آليات متطورة لتصنيع الرأي العام و تواطؤ وسائل الاعلام التقليدية وحجب المعلومة عن المواطن تحت يافطة الأمن القومي، وما إن يتمرد أحد باختراق جدار السرية وكشف الحقائق، حتى يتعرض لتلفيق التهم القانونية، أو التعرض لحملة تسقيط مكثفة للطعن بمصداقيته، وعادة ما تكون وسائل الاعلام والجيوش الالكترونيه جاهزة لتقديم خدماتها في هذ المجال.

عام ١٩٧١ سرّب المحلل االستراتيجي دانيال الزبرغ آلاف الوثائق السرية من البنتاغون والتي تتعلق بحرب فيتنام، وقد نشرت في نيويورك تايمز حينها، وأسهمت في إثارة غضب الشعب الامريكي على حكومته التي تتوسع في حروبها، وترتكب المجازر باسمه وبسرية تامة تحت ذريعة الأمن القومي. بقي الزبرغ مطارداً لسنوات وقد اتهمته الحكومة بالمؤامرة والتجسس و حيازة ممتلكات الدولة بشكل غير قانوني، ولو ثبتت عليه تلك التهم لكان سيحكم بالسجن لمدة ١١٥ عاماً. في عام ١٩٧٣ اضطر الحاكم لتبرأته بعد فضيحة ووترغيت، إذْ تكشف ان بعض الوثائق قد تم تزويرها من قبل حكومة نكسون لادانة الزبرغ زوراً. بعد استنفاد المحاولات القانونية جاء دور الاعلام لشن حملة ضد الرجل فاتهموه بالخيانه والعمالة.

يعيد التأريخ نفسه اليوم بقسوة أشد مع أولئك الذين اخترقوا قانون السرية، فتعرضوا للملاحقة والسجن، وكان جوليان أسانج قد دفع الثمن الأكبر ومازال ينتظر انتقام الحكومة الامريكيه.

بذلت وزارة العدل في ادارة اوباما جهوداً حثيثة لأيجاد مخارج قانونية تدين أسانج إلا أنها وحسب اعتراف المتحدث باسم الوزارة لم تتمكن من ادانته، ولهذا لجأت الى شن حملة اعلاميه للطعن بمصداقية ويكيليكس ومؤسسها. بدأت الحملة بادعاءات ان تسريب المعلومات سيكون خطيراً على حياة الجنود الامريكان في كل مكان، إلا ان روبرت كار – وهو كبير المحققين في البنتاغون والذي قام بمتابعة شاملة لعمليات الجيش لعدة سنوات- قد شهد في محاكمة تشيلسى ماننغ التي زودت اسانج بالوثائق قائلاً : لم تحصل على الاطلاق اية حادثه ضد الجنود لها علاقة بما نشر في ويكيليكس. عندها تركزت الحملة على النيل من شخصية أسانج بادعاء انه مغرور، نرجسي، محب للشهرة، وذلك للطعن بمصداقيته وتقويض مستوى التعاطف االشعبي مع قضيته و ترويض الرأي العام. اذا ما افترضنا أن شخصيه جوليان اسانج هي فعلاً كما يزعمون، فما علاقة ذلك بحرية التعبير وحق النشر، هل تشترط حرية النشر إجتياز اختبار الشخصية أو شهادة حسن سلوك مسبقاً؟

اذا كانت ادارة اوباما قد اعترفت أن مؤسس ويكيليكس لم ينتهك القانون، فان ادارة ترامب قد فبركت له قضية قانونية استناداً الى قانون التجسس الصادر عام١٩١٧، ووجهت له تهمة الخيانه رغم انه ليس مواطناً أمريكيا. وفق لائحة التهم الموجهة اليه

سيقضي أكثر من مئه عام في السجن. كان آنذاك لاجئاً في سفارة الأكوادور في بريطانياً، فتم الضغط على رئيس الاكوادور و استغل صندوق النقد الدولي الأزمة الاقتصادية فيها، فتمت الصفقة بالسماح للشرطة البريطانية باعتقاله مقابل أن تمنح الاكوادور قرضاً ميسراً قدره ٤,٢ مليار دولار، وهكذا انتهى به الأمر في احد السجون البريطانية.

أصرت حكومة بايدن السير على خطى ترامب في المطالبة بتسليمه الى الولايات المتحدة لمحاكمته، ولم تستجب لحد هذه اللحظة لحملات التضامن الواسعة التي انطلقت في معظم أرجاء العالم لإطلاق سراحه.

من المؤسف أن مستوى التضامن معه من قبل المنظمات الديمقراطية والشعوب في المنطقة العربية والشرق الأوسط مخيب للآمال رغم انه يدفع ثمن نشر حقائق خطيرة يتعلق معظمها بما يجري في منطقتنا بالخفاء.

ملاحظة:

أدناه رابط حملة تضامن، أدعو ان يشترك بالتوقيع فيها كل من يؤمن إيماناً حقيقيا بالديمقراطية وحرية التعبير و حرية الصحافة والنشر.

https://assangedefense.org/

قصي الصافي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here