فرات المحسن
دائما ما تتداول في الأوساط السياسية وأيضا بين قطاعات شعبية عراقية واسعة، فكرة عن مدن آمنة، دون حذر أو تدقيق بالمعنى العام لمثل هذا التوصيف، وغالبا ما توسم مدن جنوب ووسط العراق بتلك التسمية، ويقرن التوصيف بقدرة تلك المناطق على استقبال مشاريع استثمارية، يؤمل أن يصاحبها تصاعد وتيرة دخول اليد العاملة في سوق العمل، وتطور البنى التحتية لتلك المدن، ووفرة في المردود المالي، ليأتي كل ذلك وفق توفر بيئة مناسبة يتقدمها استقرار الوضع الأمني.
ولكن يا ترى ما طبيعة الإجراءات المتخذة لجذب الاستثمارات، وما هو وضع الأمن والآمان في تلك المدن. فلمثل هذه الموضوعة حسابات وتماثلات عديدة، لا يمكن إبعاد النظر عنها، ومنح شهادة تزكية لمثل ذلك التوصيف، دون تمليه والكشف عن طبيعة المشهد والحدث اليومي في تلك المدن.
يعد الاستثمار أحد أهم العوامل التي تدخل في تطور قطاعات الاقتصاد العام للدولة وثبات مؤسساتها المدنية. فالاستثمار يخلق فرص عمل، ويزج بالتقنيات الحديثة في مناهج التخطيط والإدارة. ويعد الوجه البارز والمعبر عن النمو والرفاه الاجتماعي أيضا، ويمكن اعتباره أداة تستغلها السلطة لتصحيح مساراتها الاقتصادية وبناء منشآتها واستقرار وثبات سياساتها الاقتصادية، وتوسع وعقلنة ومنهجية مؤسساتها. ويعد من أهم مصادر اكتساب الخبرات لصالح بناء وإعمار البلد، ويعد ضمانة مستقبلية من خلال الحصول على مكاسب الاستثمار المستقبلية المادية والمعنوية. ولكنه دائما ما يحتاج إلى بيئة مناسبة، ليجد له موطئ قدم، ويشق طريقه بنجاح، وتلك البيئة تعتمد أساسا على عوامل كافلة وضامنة لنجاح الاستثمار، واستقراره وتقدم عملياته.
فتوفر الأمن والاستقرار السياسي، وثبات منهجية التعامل بالقوانين الضامنة لحرية وعمل الاستثمار، تعد عوامل مهمة وفاعلة في جذبه، وضمان حصوله على ما يوازي المال المتدفق والجهود والأرباح المرجوة، أيضا توفر اليد العاملة المناسبة والتسهيلات الإدارية، التي تتلاءم وعمله ، وأن تكون هناك آليات تتوافق وطبيعته والغاية منه، من مثل تخصيص الأراضي ومواقع العمل، وقربها من أماكن توفر الطاقة والمواصلات، ووجود اليد العاملة الرخيصة، وقبل كل هذا الأمن المستدام. وجميع تلك العوامل تهدف إلى تحقيق العوائد المكافئة لرأس المال المستثمر، والذي يترافق مع تنمية ثروات البلد وتأمين حاجات الناس وتوسع سوق العمل.
في مثل حال العراق، فلازالت الكثير من مناطقه، تعد حيزا طاردا للاستثمارات، بسبب العديد من العوامل التي تنتفي وتعدم فيها أغلب الشروط المذكورة أعلاه، مما يقف عائقا في وجه محاولات جذب الاستثمار الأجنبي، واشتغال وتطوير الاستثمار الوطني. فالبديهية المعروفة هي خوف رأس المال من الخسارة وضياع المال، في ساحة يتهدد فيها وجوده، على مدى ساعات اليوم. والمجازفة برأس المال، تعد حينها مغامرة غير محسوبة الخطوات، ودائما ما تكون نتائجها كارثية، لو أقدم أصحابها على عمل استثماري دون حسابات مسبقة، ليس فقط في جانب دراسة الجدوى الاقتصادية وقيم الكسب المادي، بقدر ضرورة المعرفة المسبقة والتامة والإلمام بالبيئة المناسبة للاستثمار .
التوصيف المعني بالمدن الآمنة وفي حساب المشهد الجغرافي ـ السياسي الحالي، يشمل جوانب ومقتربات حوضي دجلة والفرات، الممتد من شمال بغداد ويمكن أن تكون محافظة ديالى ضمن حيزه، حتى الحدود الجنوبية لمحافظة البصرة. وفي هذا التوصيف وحدوده يثار التساؤل عن حقيقة توفر الأمن، في تلك البقعة الواسعة ومدنها الكبيرة والصغيرة، وما طبيعة البيئة المناسبة لجذب وعمل الاستثمار؟.
يمتاز سكان تلك المناطق بعوامل مهمة، تؤثر في تشكيلة الحياة اليومية المعاشة وقيم المرء وحراكه اليومي، وتفرض العلاقات الاجتماعية عليه شروطا جبرية في مجملها، تستنزف قدراته وتبعد عنه فرص الارتقاء والتقدم، وتفقده قدراته الدفاعية. ونرى أن أولى تلك العوامل هي الفقر بسعة رقعته السكانية، وثانيها الأمية المتفشية بنسب كبيرة مع كثافة سكانية ظاهرة، ثم تأتي الانتماءات العشائرية التي تجبر المرء على البقاء تحت سطوة سلسلة من المفاهيم الاجتماعية، تؤدي إلى إجباره على ازدراء قيم الحضارة، وتجعله يشعر بالضعف والتهديد إن ابتعد عن انتمائه العشائري والمجتمعي، وتلك المفاهيم تستغله وفق قاعدة الحماية مقابل الرضوخ لتقاليد العشيرة. ومع عامل الدين الذي يمليه الوعاظ على أتباعهم، تسيطر على الناس أنواع مختلفة من التوترات الدائمة في العلاقات، تفاقمت معها الخلافات والأحقاد وصعدت من عدم الاستقرار الاجتماعي، والأهم من كل ذلك ما سببته من ثلم للمشترك الوطني بين تلك المجتمعات.
تفاقمت تلك الحالات منذ فترة امتدت على مراحل وأشكال مختلفة، منذ ما قبل العهد الملكي ثم الجمهوري، واستشرت وظهرت بأتعس صورها بعد التغيير الذي حدث عام 2003 إثر سقوط الدكتاتورية وتهشم مؤسسات الدولة على يد المحتل الأمريكي، الذي دفع العراق للانهيار مجتمعيا واقتصاديا وسياسيا، وتعرضت وحدة المناطق حتى الصغيرة منها، للتصدع والاختلال في العلاقات الإنسانية. وبدأت بعض المجتمعات تتحول إلى ساحات صراع واقتتال على مصالح، أو لنسمها على حقيقتها صراع لكسب الغنائم، عبر استغلال الموقع والنفوذ والقوة. والسبب في أغلب تلك الوقائع يأتي جراء افتقاد أو خلل في سلطة القانون، الذي من الموجب أن يضع الحدود للسلوك الفردي والجماعي، وكذلك لمراعاة مصالح المجتمع العليا. ونرى أن مفهوم سلطة القانون بات مبهما ومشوها، ولا يعمل على الأخذ به وتحقيقه في مجالات عديدة. ويفرض في أغلب تلك المناطق، فقط على من يفتقد القوة المادية والمعنوية. فقد باتت العشائر والمليشيات والأحزاب، الحاكم الفعلي وأصحاب القرار الأول، والحيز الذي يلجأ إليه الناس في عرض وحل مشاكلهم. لذا نرى أن تلك المناطق تفتقد للكثير من عوامل الاستقرار المجتمعي وقبله السياسي.
ففي جانب عمل الاستثمار،دائما ما تتعرض الشركات للابتزاز والإجبار على دفع إتاوات، أو تعيين أبناء المناطق للعمل لديها، وبدون ذلك تتعرض لسرقة معداتها أو غلق الطرق بقوة السلاح لمنعها من مزاولة أعمالها. ومثل هذا الابتزاز والتهديد تتعرض له أيضا قطاعات كثيرة من الموظفين الحكوميين الذين يواجهون اعتداءات يومية. وتلك في حقيقتها نذر شر وشؤم تجاوزت جميع المحرمات، وأصبحت تهدد بنية المجتمع. ويترافق كل ذلك مع هزال السلطات المحلية ورعبها من سطوة المليشيات المسلحة وعصابات الجريمة أو ما يأتيها من تهديد من بعض العشائر الحامية لرجال العصابات، ويتزامن هذا مع فضائح مالية وسوء إدارة تقترف وسط مؤسسات الدولة ومن قبل منتسبيها، لتكون جميع تلك الأسباب مقدمات لدخول المجتمع ومؤسساته، حالة رضوخ وإرغام، لتنفجر وسط المجتمع بعدها عدوانية منفلتة وتوترات عامة، وتكون الحلول العنفية فيها السمة الغالبة، لتضمر معها كليا معالم القبول بالتغيرات الكافلة لتحول المجتمع نحو التحسن والرقي الحضاري والمدنية. عندها يصبح ذلك المجتمع مجتمعا طاردا للإصلاح والبناء وتعدم فيه كليا البيئة الجاذبة للاستثمار الوطني والخارجي.
ومع تفشي واستشراء تلك المظاهر، فقد بات من العسير على الحكومة المركزية والحكومات المحلية وضع الحلول المناسبة وطمأنة رأس المال واستقطابه. فالوضع المنفلت يتطلب حلولا جذرية وحاسمة تبدو في مظهرها العام فوق قدرات تلك السلطات. فعلى تلك السلطات الحكومية إن أرادت تقويم الأخطاء والسير بالعراق نحو التقدم وبناء الدولة المدنية وجذب الاستثمار،فعليها البدء أولا بتطهير الجهاز الحكومي من عيوبه، ثم الشروع بحماية السلطة القضائية وتطوير عملها وضمان استقلاليتها وحيادية قراراتها، وجعلها صاحبة القرار الأول في حل النزاعات. وقبل ذلك توفير قوات كافية لردع المليشيات والعصابات، ووقف تدخل العشائر ومنعها من التحكم بحياة الناس وتهديدها للأجهزة الحكومية، وفرض مفاهيمها وقراراتها عليهم. وقبل كل ذلك حصر السلاح بيد السلطة. ولتترافق كل تلك الإجراءات بوضع خطط سليمة ومناهج وقوانين وطرق وتسهيلات ضريبية وخدمية من شأنها جذب رؤوس الأموال وطمأنتها للدخول والاستثمار في الأرض العراقية.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط