انقلاب 8 شباط 1963 الدموي/ الحلقة الرابعة

Image preview ملاحظة: 1- صورة غلاف (>كريات التنوير والمكابدة). 2- مقتبس الحكم لمجموعة من معتقلي كربلاء من ضمنهم علي الشبيبي وولديه. 3- صورة الراحل همام علي الشبيبي. 4- سجن الحلة 19/07/1964. الواقفون من اليسار: حميد حلوائي. كاظم الناصر. صاحب جاسم البلداوي. صاحب حسين. رشيد الترف. الجالسون: حسين عبد الرزاق. علي الشبيبي. كريم عيسى

أدناه المقال:

انقلاب 8 شباط 1963 الدموي/ الحلقة الرابعة  

يستذكر العراقيون يوم 8 شباط من كل عام أحداث جريمة انقلاب شباط الدموي عام 1963. حيث قام الانقلابيون باعتقال الاف الوطنيين وزجهم في السجون وتعريضهم للتعذيب والتصفيات بأبشع وسائل التعذيب الفاشية، فخسر العراق خيرة أبنائه الوطنيين. وكانت عائلتنا الصغيرة من بين آلاف العوائل العراقية التي تعرضت لحملة الانقلابيين في إرهابهم البربري.   

تناول والدي -طيب الله ثراه- بتواضع وحذر شديد بعض أحداث وتبعات هذا الانقلاب الدموي في مخطوطته (ذكريات معلم)، ولكنه حاول أن يكون حذرا وتجنب الكثير من التفاصيل والشواهد بسبب ما كان يتعرض له من مضايقات وضغوط مستمرة من الأجهزة الأمنية البعثية والعارفية … تكللت جهودي بجمع مخطوطات الوالد (ذكريات معلم) ونقلها على الوورد ومن ثم مراجعتها وتنقيحها وإملاء الفراغات الضرورية، وطباعتها عام 2012 بعنوان (الرائد علي محمد الشبيبي/ ذكريات التنوير والمكابدة). وللأسف كان نشرها جداً محدودا لضعف إمكانياتي وعدم تواجدي في الوطن. وفي عام 2021 عرض عليّ الاستاذ فخري كريم رئيس مؤسسة دار المدى بإعادة طباعة ونشر المذكرات وفاءً منه للوالد، فوافقته شاكرا مبادرته الطيبة. وهكذا صدرت الطبعة الثانية عام 2021 من دار المدى مشكورة لهذه المبادرة الرائدة  بحلة جديدة تم فيها تنقيح الأخطاء الفنية والتقنية التي وقعت فيها الطبعة الأولى، وهي متوفرة الآن في بيت المدى في شارع المتنبي (بغداد) أو في غيرها من المكتبات التي تتعامل مع دار المدى في المدن الأخرى. سأنشر بعض ما كتبه الوالد في  -ذكريات التنوير والمكابدة- عن أحداث انقلاب شباط وتبعاته. وأدناه الحلقة الرابعة تحت عنوان “قلوب تحترق!”.  

السويد/ 7 شباط 2022   

محمد علي الشبيبي  

 

 “قلوب تحترق بصمت!”  

ذات يوم وقد خرجنا من الزنزانة لقضاء الحاجة. الأمهات والآباء خلف السياج في الشارع. بعض الآباء أيضا يمتعون أنظارهم برؤية فلذات أكبادهم. يسألونهم عن حالهم وما يحتاجون. أسمع صوتا شجيا، وكلمات تعبر عن أسىً عميق. إنها أم، صوتها الهادئ يصل سمعي كلحن كمان حزين. كان رأسها يميل يمينا وشمالا مع لحن كلماتها. شُغِلتُ عن كل ما حولي. ذلك الصوت وحده كان يحز في قلبي. الله ما أقسى الإنسان مع أخيه الإنسان! 

حين عدنا إلى الزنزانة، عاد الشباب إلى شؤونهم. بعضهم يلزم السكون دائما، آخرون يتحدثون، بعضهم يحب الهزل والضحك، آخرون يطالعون. أنا، ما يزال صوت تلك الأم يرن في رأسي. كدت أبكي. لكن بعد هذا بقليل بكيت شعراً. كان خلفي اثنان من فرس كربلاء، قال أحدها لرفيقه، أتذكر الشاب الأشقر “همام” قالوا عنه إنه قتل! أجابه صاحبه بالفارسية “حَرفْ نَزَنْ، إنْ بُبُاشْ!” ومعناها أسكت هذا أبوه. أدرت وجهي إليهما، وقلت ما يملك أبوه لنفسه أمرا، ولا أنتما، مصيرنا بيد القدر. وثارت أشجاني، فناديت اليراع، ليحول دموعي شعرا، فكتبت:  

بُـنَـيَّ 

بُني لقد أمسـى فؤادي مقسمـا                                    

 

 

فعندكمـو شطر وعندي هنا شطرُ 

وفي كل شطر يـوغـل الداء إنما 

 

يصارع هذا الداء في محنتي الصبرُ 

أقـول لدهري: كفَّ يا ويك وارتدع 

 

وحسبك إني ليس يثنيني الذعرُ 

ويـكفيك إنـا قد تشتت شـمـلنـا                  

 

وان دجـانـا غاب عن افقه بـدرُ 

ولا تـنتظـر منا أنـينـا وادمعـاً                 

 

وانْ نـزلتْ فـالحـر أدمعه جمرُ 

بني تـحمل ما تـلاقيه بـاسـمـاً 

 

فـأنت فتى فيمـا تـوارثـته حرُّ 

ودعني بـأشـواقي أذوب وحسـرتي 

 

تزيـد و يذكيها من اللـوعة الفكرُ 

 معتقل مركز شرطة كربلاء 27/04/1963  

وحين خرجنا عصرا إلى المرافق، أدخلت الورقة التي كتبت الأبيات فيها بحاشية -المنشفة- ورميتها إلى أمه وأخواته. فهن أيضا كبقية الأمهات والأخوات، يقفن خلف السياج، بنظراتهن يطمئن نفوسهن على حياتنا. كُنّ يعرفن مني وسائل إيصال ما أنظم في مثل هذا المكان. كما يعرفن كيف يحتفظن به! 

وهمام، إن شبحه لا يفارقني. لو قبضوا عليه لن يرحموه أبدا. إن صدورهم تغلي حقدا ضده. سألوني عنه كثيراً. وأجيب أنتم تعلمون عنه إنه طالب كلية في بغداد، فما يدريني ماذا حدث له. قال لي أحدهم، أنت نعرف أن لا صلة لك بأية حركة عمليا، لكنك تميل إليهم. قلت، بصفة شخصية مع أفراد. معرفتي بهم كزملاء في التعليم وآخرين كانوا من تلاميذي. صلتي؟ الأصح أن يقال صلتهم. ولم تتعد إلى أمور أخرى. وأنا كما حدثتكم أني كنت  في فترة من حياتي مناضلا سياسيا وشيوعيا أيضا. ولا غرابة. ثم قلت: هل لي أن أسألك، كم هو سنك الآن؟ أجاب، وما معنى هذا؟ قلت، أجبني وسأذكر لك الغرض. أجاب اثنان وعشرون عاما. أجبته: حسبما سجلته عن نفسي باني انسحبت من الحزب عام 1947 أي أن سنك يوم انسحبت سبع سنين أو أقل. ويؤسفني إنكم – وبغض النظر عن موقفكم هذا- توجهون التهم بمقتضى السماع، وهذا أسلوب يخالف أصول العمل السياسي. استشاط غضباً فوجه لي كلمات شتائم نابية. لكن واحدا نهره، وأمره أن يغادر مكانه. بعد يوم عاد إليّ ليكمل نقاشه! وافتتح كلامه، لماذا تركت حزبكم، كما تدعي؟ قلت، إني أومن إن الخدمة للوطن عن طريق العمل السياسي يجب أن لا تحتكر، ويجب أن تمثل الأحزاب مختلف الطبقات، وتتعامل فيما بينها باحترام لتكسب الجماهير. وللجماهير الحق الأكبر، بان تختار حسب فهمها لمناهج  وسياسة تلك الأحزاب. لأن بعض الأحزاب الوطنية المتحررة، تضع برامجها لصالح الطبقة المتنفذة في قيادتها. أضرب لك مثلا، إن الحزب المؤلفة قيادته من تجار وأبناء تجار لا يمكن أبدا أن يدافع عن العمال أو الطبقة المتوسطة حتى وان تعرض لذكرهم في منهاجه كفئة لها الحق بان تدافع عن نفسها وتطالب بحقوقها. سئم صاحبي من حديثي هذا . وصاح بي، كافي عاد. يحاضر براسي. وينكر ويقول آنه مو حزبي! حقا لقد أخطأت الحديث. الحديث مع مثله خطـأ، ولزمت الصمت. وعدت أفكر بـ “همام”. جاءت أمه سألتها عنه. قالت: عادت خالته بعد أن يئست من الاهتداء إليه. وا أسفي عليك يا حبيبي ثم كمن همس أحد بإذنيه، قلت لنفسي، إنه سالم بلا شك، فلو كانوا قد قبضوا عليه لوصل الخبر إلى كل منظماتهم هنا. وسكن قلبي واطمأن. 

وجودنا في بناية المكتبة كيفما يكن مريح بعض الراحة. فهنا عدد قليل من الموقوفين جيئ بهم من أجل التحقيق. بعضهم لذويه مكانة فهم من الطبقة البرجوازية، ولهم فضل على آباء بعض قادة الحرس القومي، إذ هم من طلبة العلوم الدينية، الذين شجعهم العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، أن يقطنوا كربلاء، وأنا أعرف كثيرا منهم منذ كانوا في النجف. فمدينة النجف لا يمكن أن يزاحم فيها أبناء النجف القادمون من مدن الجنوب أو الفرس، وفعلا تقبلوا رأيه. وان يكن ما يزال في النجف منهم من استطاع أن يثبت في العلم والدراسة، وعلى الأكثر، هؤلاء من هم ليسوا من الفقراء المهاجرين من العمارة، لذلك حلوا في النجف واحتلوا مكانة مرموقة. كان النجفيون يحتقرون أهالي الناصرية وسوق الشيوخ والعمارة، ويسمونهم -شروكية-، الواحد شروكي أي شرقي. وأنا أعرف كثير منهم منذ كانوا في النجف. 

أعود فأقول، إن بعض أفراد من الأسر الكربلائية -وخاصة العلوية- المرموقة لم يمسسهم سوء. وكان التحقيق معهم من قبل الحرس لصالحهم. أنا متأكد من ذلك والمستقبل كشاف. يبدو إن ما نسمع كل يوم ليلاً من تعذيب لبعض الذين يحقق معهم صار أمرا اعتيادياً، وصرت أنام الليل دون أن أشعر بما يقلق. همست بإذن صديق بجانبي، أنت هل تسمع -على العادة- عويل المعذبين. أجاب، لا إنهم يكمون الأفواه بأكمام تشد من الفم إلى الإذنين حتى الخلف، فلا يستطع المعذب كلاما أو صياحا!  

من (ذكريات التنوير والمكابدة) للمربي الراحل 

علي محمد الشبيبي 

Image previewImage previewImage preview

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here