مظاهر (عبادة) القادة والزعماء في الحياة المعاصرة

مظاهر (عبادة)القادة والزعماء في الحياة المعاصرة
فارس حامد عبد الكريم
مقدمة؛ اذا كان الفرد متحمساً لشخصية سياسية او دينية لدرجة التعصب الأعمى ولايقبل بتوجيه اي نقد له، فهذا يعني أنه يعاني من مرض إجتماعي ونفسي خطير يعرف في العلوم الإجتماعية المعاصرة بإسم (تقديس أو عبادة الفرد)، وهذا المرض الإجتماعي السياسي هو نتيجة طبيعية للجهل والتربية الفاسدة، اذ يساهم الجهل وقسوة العائلة والمحيط الإجتماعي والمدرسي في تكوين عقول راضخة راضية بجبروت الطغاة وتقديسهم لحد الدفاع المستميت عنهم ومقاتلة من يخالفهم بقسوة وعنف همجي.
ومن ثم يساهم هذا الولاء الأعمى في تكوين عقول جامدة ضعيفة البصيرة لاتتحرك إلا في بيئات الطاعة والولاء المتعصب.
مدى خطورة عبادة الفرد على السلم الأهلي؛
ولايوجد اخطر من هؤلاء الناس على سلامة المجتمع والحريات العامة فهم الخط الأول في معاداة النظام الديمقراطي ومنهم تتشكل المظاهر والفرق المسلحة التي تكتم الافواه وتطارد الأحرار في كل مكان وزمان عبر التاريخ.
عبادة الفرد والإنتهازية؛
مع ملاحظة ان بعض مظاهر تقديس وعبادة الفرد قد تكون عبارة عن مسرحيات يمارسها بعض الانتهازيين لتحقيق مكاسب ومنافع مادية ومعنوية مثل تولي الوظائف والمناصب العامة، ويمكن وصف هؤلاء بأنهم حشرات أو ذباب السياسة.
ويسعى المثقفون والأدباء في صنوف الأدب والفن كافة الى تحرير الشعوب من عادة تقديس الحكام والزعماء والتعامل معها على انها مرحلة مأساوية و مؤلمة مر بها التاريخ البشري.
ومن الواضح ان احترام الشخصيات السياسية والدينية من كل الطوائف والمذاهب امر ندعو إليه ونشجع عليه بإعتباره من الخلق الإجتماعي القويم بينما نرى في عبادة الفرد شكلاً من اشكال مخالفة نهج الشريعة الإسلامية قد يصل الى اعتباره الحاداً والعياذ بالله.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): يهلك فيّ اثنان: محبٌّ غال, ومبغضٌ قالٍ.
موقف الشريعة الإسلامية من تقديس الفرد والزعماء؛
تعد الشريعة الإسلامية سباقة قياساً الى عصرها في النهي عن عبادة الفرد وتأليه الأنبياء ناهيك عن تأليه الحكام ورجال الدين والأفراد، فالشريعة الإسلامية لاتجيز السجود لغير الله تعالى ؛ وتمنع تأليه الانبياء او اعتبارهم ابناء الله وفيها لايرتفع فوق مستوى النقد سوى الذات الإلهية وكذلك الانبياء والرسل، رغم ان الشريعة تعتبرهم من البشر وذلك احتراماً لمقامهم السامي.
مناظرات ونقاش ونقد لكبار الأئمة ؛
وفي التاريخ الإسلامي كانت أراء وفتاوي كبار العلماء اصحاب المذاهب الكبري بما فيهم الإمام جعفر الصادق ع والإمام ابو حنيفة النعمان وابن حنبل والشافعي رض الله عنهم محل جدل ونقاش من قبل العلماء والعامة وكانت المجاهرة بمخالفتها اتباعاً لمذهب معين دون أخر امراً معتاداً دون ان يعد ذلك من قبيل التعدي على مقامهم الرفيع.
جاء في الحديث الصحيح عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ أنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ (أي الإمام جعفر بن محمد الصَّادق (عليه السَّلام) ، سادس أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، كَيْفَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيمَا بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا وَ بَيْنَ خُلَطَائِنَا مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ لَيْسُوا عَلَى أَمْرِنَا؟
قَالَ: “تَنْظُرُونَ إِلَى أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تَقْتَدُونَ‏ بِهِمْ‏ فَتَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ، فَوَ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَعُودُونَ مَرْضَاهُمْ، وَ يَشْهَدُونَ جَنَائِزَهُمْ، وَ يُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ لَهُمْ وَ عَلَيْهِمْ، وَ يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ إِلَيْهِمْ”
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): يهلك فيّ اثنان: محبٌّ غال, ومبغضٌ قالٍ. •وعنه (عليه السلام): يهلك فيّ رجلان: محبٌّ مفرط يقرّظني بما ليس لي, ومبغضٌ يحمله شنآني على أن يبهتني. •
عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبيّة في أمير المؤمنين, وكان والله أمير المؤمنين (عليه السلام) عبداً لله طائعاً, الويل لمن كذب علينا, وإنّ قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا, نبرأ إلى الله منهم.
كل ذلك وسط عالم كانت فيه الشعوب قاطبة تجعل من حكامها أله وتسجد لهم وتمنع توجيه النقد لشخصهم ولتصرفاتهم واقوالهم، نقول رغم ذلك فإن حياة المسلمين والعرب تشهد محاولات لتأليه الزعامات بشكل او بأخر لأسباب ترجع في كثير من الأحيان لأمراض وعقد نفسية وإجتماعية.
مظاهر عبادة الفرد في العصر الحديث؛
ماهي مظاهر عبادة البشر والقادة ورجال الدين بقصد او بدون قصد؟
عبادة وتقديس القادة والزعماء السياسيين والدينيين في العصر الحديث لايتمثل بالسجود والقيام بحركات معينة امامهم لهم كما العصور القديمة بل يبتدأ بإعتبارهم فوق مستوى النقد واللوم بحيث يتعرض من يوجه اللوم او النقد لأقوالهم وأفعالهم الى عقاب مادي ومعنوي شديد ، فإن كان المنتقد قريباً من متناول اليد فقد يتعرض للقتل او الخطف وإجباره على الإعتذار بطريقة مهينة. وإن كان خارج متناول اليد كأن يقيم في الخارج فإنه سيتعرض لحملة إعلامية ساحقة تسقطه معنوياً.
موقف القرآن الكريم؛
فلا غرابة إذن أن نجد القرآن الكريم يتوقف عند هذه الظاهرة التي تتكرر في تاريخ البشر من خلال عرضه المفصل لقصة فرعون الذي وصل به الأمر إلى ادعاء الربوبية منادياً في قومه : ( أنا ربكم الأعلى ) والفرعنه او التفرعن ليست حكاية فريدة في تاريخ السياسة والزعامة، لكنها في الواقع ظاهرة تطبع تاريخ الكثير من الأمم والشعوب بما فيها تاريخنا العربي، وارجع إذا إلى تاريخ الحركات الفكرية والأحزاب السياسية والطوائف والفرق المذهبية التي ظهرت في تاريخنا العربي تجد مصداق ما نقول!!
عبادة وتقديس الفرد في العراق الحديث
واذا القينا نظرة على تاريخ العراق الحديث نلاحظ ان فكرة تأليه وتقديس الفرد نشأت في طل الجمهويات الانقلابية المتعاقبة
فرغم ان العائلة المالكة العراقية كانت ذات نسب هاشمي شريف عبر التاريخ إلا انه لم يركز إعلامياً على هذا الموضوع وكانت وسائل الإعلام والصحف والراديو ولاحقاً التلفزيون نادراً ما تتناول هذا الأمر، فقد كانت وسائل الاعلام تصف الملك بأنه الملك فيصل وكذلك بعد ابنه غازي ووابنه فيصل الثاني بانه ملك البلاد المفدى وانتهى.
وفي عهد الجمهورية وعلى الرغم من بساطة وتواضع الزعيم عبد الكريم قاسم فأن جمهور محبيه قد وصل بهم الأمر الى التحدث بيقين على انهم رأوا صورة الزعيم مطبوعة على القمر، كما ان وسائل الاعلام الرسمية قد ركزت بشكل واضح على شخصه وقدراته وعبقريته الفذة وبرزت لنا لأول مرة في تاريخ العراق الحديث المظاهرات الصاخبة المؤيدة للزعيم والتي ترفع اقواله في لافتات تجوب الشوارع فضلاً عن توظيف الشعر والأدب في مدح الزعيم…
ولكن ذلك لم يكن إجبارياً او يمارس من خلال ضغوط رسمية بل ان بعض الكتاب اشاروا الى انه لمح لهم لمدح وتكريم الزعيم ولكنهم رفضوا صراحة او (غلسوا) دون ان يعاقبهم أحد.
واستمر الامر على المنوال حتى استلام صدام السلطة فحدث تحول جوهري وغير مسبوق في التعامل مع رئيس الدولة بحيث يمكن وصف عهده حقاً بمحاولات فرض عبادة الفرد بمعناه السياسي المعاصر، فعقدت المؤتمرات الجماهيرية الصاخبة وتم استدعاء الشعراء الشعبيين والادباء والفنانين والمطربين لتمجيد نضاله الوطني والقومي القائم على الخطب الرنانة التي تداعب عقول بسطاء الناس بل ان بعض الشعراء ذكر ان صدام استدعاه شخصياً وسأله عن سبب تأخره في دعم القيادة.
فقد ذكرت الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة ان صدام حسين استدعاها وسألها: لماذا لا تكتبين؟ كان يقصد لماذا لا تمدحين. تخلصت من الموقف بذكاء واستعارت عبارة للخليل بن أحمد الفراهيدي: «الشعر يأباني جيّده». سكتَ وسكتتْ. إنه ينتظر جواباً. قالت: ربما أحتاج إلى دفعة. أي تشجيعاً. أجابها: بل تحتاجين إلى نتلّة. والنتلّة باللهجة العراقية تعني السَحبة، أو النَتْرة. مثل الصياد حين يشعر بأن سمكة التقطت الشص فيسحب السنارة بقوة.

وبعد سقوط النظام الصدامي برزت على غير المتوقع ظاهرة عبادة الفرد بطرق مختلفة مع تعدد (المقدسين).
وانتقل هذا التقديس غير المبرر لا شرعاً ولا عرفاً الى مواقع التواصل الإجتماعي في هيئة معارك كلامية كلما تعرض زعيم سياسي او ديني الى النقد، واستغلت الفضائيات هذه الظاهرة ومن اجل كسب المشاهدين ومن ثم الاعلانات التجارية، فعقدت المناظرات بين المختلفين لتتحول تلك المناظرات الى معارك كلامية شديدة اللهجة.
أرسطو وعبادة الفرد
يذهب ارسطو الى أن تقاليد عبادة الحاكم وجدت اصلاً في الشرق، وكان يعتقد جازماً ان عدوى عبادة الحاكم انتقلت من الشرق الى اليونان عن طريق الغزوات التي قام بها قادة اليونان في البلدان الشرقية ومن ثم تأثروا بما شاهدوه هناك من عادة تقديس الملوك حد العبادة .ولهذا كان ارسطو يعتبر ان مثل هذه الحالة اعتيادية بالنسبة للشرقيين وحالة مَرَضية بالنسبة لليونانيين. ويشير ارسطو الى ان الاسكندر المقدوني اثناء غزوه لبلاد فارس لاحظ ان الناس هناك تسجد لملكها وان الملك يتمتع بمزايا خاصة تخوّله حق انهاء حياة رعاياه في اي وقت يشاء حتى لو لم يكن هناك من سبب غير الاهواء الشخصية كأن يريد الملك ان يُدرّب خليفته على الرماية فيوجه سهامه نحو احد المواطنين ليصطاده. فاستغرب الاسكندر من ذلك الوضع وعندما استفسر عن السبب، فقيل له ان الملك في الشرق هو بمثابة إله او وكيل للالهة في الارض، فأُعجِب الاسكندر بهذة الفكرة ولما عاد من بلاد فارس طلب من اليونانيين السجود له.
الثورة الفرنسية
انتشرة ظاهرة عبادة الفرد في اوربا عبر التاريخ الطويل للملكيات الأوربية حتى جاءت الثورة الفرنسية العام 1789 واصدرت قانونا عُرف باسم الدستور المدني لرجال الدين يحرِّم عليهم النشاط السياسي والزمهم ان يقسموا يمين الولاء لهذا الدستور وان يكون تولّي المناصب الدينية بالانتخاب.
ظاهرة ستالين وهتلر
أشهر من اخضع الناس لتمجيده في العصر الحديث هما الزعيم السوفيتي ستالين والزعيك الالماني هتلر
ومما دعم صورة «ستالين» على انه بطلاً أنه كان له ابن ضابط برتبة ملازم، يحارب فى الخطوط الأمامية، وحين وقع فى الأسر، رفض «ستالين» أن يستعيده فى عملية تبادل أسرى نظير جنرال ألمانى، وقال: «كيف أستبدل بجنرال ملازماً؟!». وقُتل الابن فيما بعد، فى معسكر الاعتقال الألمانى.
بعد أقل من ثلاث سنوات على رحيل «ستالين»، أُسقطت أسطورة البطل، فحين انعقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعى السوفيتى، وفى جلسة ختامية مغلقة، فى مثل هذا اليوم 25 فبراير من عام 1956، ألقى الرئيس والزعيم الجديد «نيكيتا خروتشيف» خطاباً طويلاً، هاجم فيه «ستالين»، واتهمه بأفظع الاتهامات. تسرب الخطاب فيما بعد، واشتُهر باسم «خطاب عبادة الفرد».
اسقاط ظاهرة عبادة الفرد غربياً وإبقائها شرقياً
في القرن الماضي وبعد سقوط الملايين ضحية لحروب وصراعات دولية كنتيجة لقرارات فردية سادية-مَرَضية من حكام انفردوا في قراراتهم التي جَرّت على العالم اجمع ويلات ذهب ضحيتها ملايين البشر كنتيجة طبيعية لتقديس الفرد برز في العصور الحديثة فهم جديد لدور الدولة. فاعتبرت الليبرالية الكلاسيكية، انالدولة مسؤولة عن حماية الحقوق الأساسية، مثل حرية التعبير والتجمع وترسيخ حكم القانون وتوفير الخدمات العامة كالشرطة والتعليم، والصحة العامة . واعترفت الحكومة بمواطنيها بوصفهم فاعلين عقلانيين وأخلاقيين ومستقلين عبر منحهم حقوقا فردية، مثل الحق في المشاركة في السلطة وتنظيم أنفسهم، لكن مع سياسات الهوية وتطور الفردانية الغربية، بات يُنظر إلى الدولة باعتبارها مسؤولة عن جعل كل فرد يشعر بالرضا عن ذاته.
اما في الشرق ولاغراض استعمارية ومخابراتية اجنبية لازالت صناعة تقديس او عبادة الفرد تلقى رواجاً فيتم اسقاط دكتاتور واستبداله بدكتاتور آخر بعد ان تصنع له الافلام المخابراتية كارزما خاصة به لتجعل منه معبود الجماهير لحين من الزمن.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here