نظرية داروين للتطور واصل الانسان، كيف تعلم الانسان اللغة ؟

نظرية داروين للتطور واصل الانسان، كيف تعلم الانسان اللغة ؟ (*)

د. رضا العطار

جاء في كتاب نظرية التطور واصل الانسان ما يلي – – – ليست نظرية التطور معرفة فحسب، لأننا لا نقتصر فيها على الوقوف على تاريخ الأحياء، بل نكسب منها مزاجا واتجاها ومذهبا حيويا. والأرتقاء في الحياة ضرورة اجتماعية، يجعل المستوعب لهذه النظرية ان يشعر بتحرره من اغلال الغيبيات، ويستطيع لذلك ان ينظر نظرة التفائل في شؤون هذا العالم.

يبدو للمتأمل في تاريخ الانسان منذ ظهوره وعلاقته مع سائر الكائنات، وخاصة اللبونات، بعد ان خرجت من البحر الى اليابسة في مرحلة يصعب تحديدها، لكن يعتقد انها كانت قد حدثت قبل مئات الملايين من السنين، فقد تحولت زعانفها الى ايد وارجل

)كما جاء ذكره في سمكة السيلاكانت في حلقة سابفة) للزحف والتسلق، فكانت مهمة التسلق بالنسبة لها، اولى الوظائف الفسيولوجية، ثم حدث التخصص، فمشى بعضها على اربع وصارت لديه حوافر او اظلافا، وحفر بعضها تحت الارض مثل الخلد ففقد ابهامه، ونزل بعضها ثانية الى البحر مثل الدلفين، فصارت ايديها مجاذيف، وان تكن الاصابع لا تزال باقية بها، ظاهرة او مخفية.

حدث هذا التخصص فتجمد التطور وكاد يقف فيها عند حد، الا عند الانسان، فإنه استمر في تسلقه ومحاولا المشي منتصبا بعد ما كان يجري على اربع، وكأنه خرج من البحر الى البر فلم يرض بالنزول الاّ انسانا سويا. فأحتفظ بيديه وفي كل منها اصابعه الخمس، واحتفظ بهيئته القائمة.

ان معظم الكائنات التي تتسلق تقف وتمشي وهي منتصبة قليلا او كثيرا كما نرى ذلك في السنجاب. وقد ساعدته هيئته المنتصبة على ان يضخم رأسه ويكبر. وقد استطاع الانسان ان يحمل هذا الرأس لأنه يقع عموديا عليه، وهو لو كان يمشي على اربع لما امكنه ان يحمله وهو في هذه الضخامة.

ثم انظر اليه الان تجده لم يتخصص حتى في طعامه، فهو يأكل كل شئ تقريبا. كما لم يتخصص في الصوت، فهو بمرانة قليلة يمكنه ان يقلد صوت اي حيوان كما نرى ذلك في بعض الممثلين، ثم انظر الى فم الحيوان كالكلب او الثور تجده ممدودا الى الامام، فإذا اقفله لصق اللسان بالفك الاعلى ولحم الفك الاسفل، فليس في فم الحيوان تجويف يساعده على النطق،

ولو ان الانسان كان يمشي على اربع لما استطاع ان يحمل دماغا ثقيلا ولما استطاع ان يقف، ولو ان الانسان كان قد فقد ابهامه، لحرم من براعة القفز بين غصون الاشجار او بالحفر تحت الارض، فقد عرفنا فيما سبق ان هذا الابهام قد ساعده في امساك الادوات والآلات، ثم لو كان يتناول طعامه بفمه، لطال هذا الفم وضاق فصعب عليه عندئذ الكلام.

والانسان لولا الكلام لما اختلف كثيرا عن البهائم، اذ كان كل فرد عندئذ يحتاج الى ان يخترع المعاني اختراعا في حين اننا نتسلمها جاهزة منحدرة الينا من سلفنا. ويجب ان نعلم ان نشأة اللغات الاولى قد حدثت بفضل الكلمات وحدها، علما ان التفاهم في الازمان السحيقة كان يجري عن طريق الاشارات. ولا نزال للأن نستعمل بعض هذه الاشارات نريد بها معاني كلماتنا. فنهز الكتفين ونحرك الحاجبين واليدين ونرفع الراس، ولكل من هذه الحركات معنى. وكانت هذه الحركات قديما اكثر مما هي الأن.

وبعض هذه الاشارات يعم معناها معظم الامم، كهز الرأس نحو الخلف لمعنى النفي، وبعض ما يتفاهم به المتوحشون الان نتفاهم به نحن مع الخرس، مثل التعبير عن الركوب بوضع سبابة اليد اليسرى تحت اليد اليمنى في الفرجة التي بين السبابة الوسطى .

وسبيلنا الى معرفة اصل اللغة ان ندرس لغات القرود العليا الحاضرة ولغة الطفل، ونقابل اللغات الشائعة والقديمة لنرى قوة الاتصال بينها. ولم يدرس احد هذه الشؤون درسا مرضيا للأن، غير اننا نعرف اننا نشترك والقرود العليا في لفظة ( كخ ) التي تقال لزجر الطفل عن شئ. وهذه اللفظة موجودة في جميع لغات العالم.

ونعرف ان لفظة (با) و (ما) اللتان ينطق بهما الطفل في عامه الاول وان اشارة النفي التي نفهمها من هز الرأس قد نشأت من محاولة الطفل رفض شئ تريد امه ان تضعه في فمه. ونعرف ايضا ان هناك بضعة كلمات يشترك في نطقها الانكليزي الحاضر والمصري القديم. ثم الالماني المتحضر والاسترالي المتوحش ثم الزنجي الافريقي مما يدل على ان اللغات قد تطورت من اصل واحد او من اصول قليلة.

وقد كانت النار عاملا مهما في تنشئة اللغات وايجاد الكلمات لانها كانت تجمع النساء حولها فيأخذن في القيل والقال كما هو شأنهن اليوم. وكانت النار ايضا تجعل السهر في الليل ممكنا وعندئذ لا يمكن التفاهم بالاشارات فيصبح اختراع الكلمات ضرورة لازمة .

ولا شك في ان محاكات الصوت المسموع كان اصلا مهما في اختراع الالفاظ. وكان الانسان الاول يعتمد عليه كثيرا في التعبير عن افكاره وما زلنا للأن نرى ذلك الاصل في الفاظ: خرير المياه واصطكاك الاسنان وصرير الباب وحفيف الاوراق وعواء الذئب وهدير الرعد و في صوت المطر واصفاق الامواج وما الى ذلك.

ولغتنا العربية غنية بالاشتقاق مما يدل على انه كان كثير الشيوع قديما. فقد عرف الانسان النار فأشتق منها النور والنهار. وكان يعبّر عن الضخامة والكبر بلفظة قديمة لا بد انها انقرضت وبقى عندنا منها عدة الفاظ قريبة في النطق والمعنى مثل جلْ وجبل وجمل ولج وجلل وجمال.

ولا بد ايضا انه كان للآستعارة والمجاز شأن عظيم في تأليف اللغات. وعندنا في (اساس البلاغة) الذي وضعه الزمخشري ما يثبت عظم المدى الذي قطعه الانسان في هذا السبيل في تأليف اللغات، وربما كان اشق ما نال الانسان في تأليف الكلمات. فقد كان عند الاستراليين البدائيين الاوائل بعض مئات من الكلمات تشمل جميع ما حولهم من الاشياء ولكن مسألة الارقام عندهم كانت لا تتعدى لفظتين اثنتين للآرقام وهما واحد واثنان.اما الثلاثة فهي اثنان وواحد واما الاربعة اثنان واثنان وما زاد على ذلك فهوكثير .

وقد كان للغة اثر كبير في زيادة الفهم عند الانسان لان التفاعل بين اللسان والدماغ وثيق، فلا يرتقي احدهما الاّ بأرتقاء الاخر. فالمعنى يتحدد ويتضح اذا احسن اللسان التعبير عنه باللفظ. وهكذا تتوضح اللغة باليد، احدى وسائل سيادة الانسان. وقد استطاعت اللغة ان تجعل الزمن تاريخيا والفضاء جغرافيا وبهذا نشأت الثقافة البشرية

واللغة تعود الى الاجتماع والانتاج المشترك، فلو ان الانسان كان يعيش منفردا لما احتاج الى اللغة اذ مع من يتفاهم ؟ فالانسان حين ترك الاقامة في الغابة وصار يجتمع مع اقرانه في سبيل تأمين الصيد، صار يتفاهم مع هؤلاء الاقران بالاشارة اولا ثم باللغة ثانيا.

* مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان لسلامة موسى. .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here