من يكفل للمرأة العراقية حقوقها
فرات المحسن
ردت المحكمة الاتحادية العليا، يوم 19 شباط 2022، طعنا تقدمت به رابطة المرأة العراقية بشأن عدم دستورية المادة 41 من قانون العقوبات العراقي، كونها تتيح استخدام (حق التأديب) من قبل الزوج لزوجته، ومن قبل الآباء والمعلمين للأطفال القاصرين، باعتبار هذه المادة تبيح العنف حسب طعن رابطة المرأة.
ووفقا لرد المحكمة فإنها وجدت من تحليل المادة موضع الطعن، أنها نصت على حق (التأديب) في الحدود المقررة شرعا أو قانونا أو عرفا. و(التأديب) المقصود لا يعني (العنف الأسري)حسب رأي المحكمة، وإنما هو إصلاح وتقويم وهو مقيد. وبناء عليه تكون دعوى المدعي غير مستندة على سبب دستوري. لذا قرر الحكم بردها.
يفتقر قرار الحكم الصادر، التوصيف الكلي لطبيعة التأديب، وهو في المجمل لغويا، معاقبة الأخر المسيء على إساءته لتأديبه،وهذا الافتقار يسمح للرجل (المتعلم وغير المتعلم) بتفسير التأديب حسب رغبته ورؤيته لمعنى الكلمة الواردة في النص الديني والقانوني، وعندها يحيله إلى عنف أسري موجه ضد المرأة والطفل.
وقد فسرت نصوص صدرت عن رجال دين أشارت لأحقية الرجل بمعاقبة زوجته بالضرب بأشكال متعددة منها، دون ازرقاق الجلد أو ظهور كدمات، وأطلق عليه حسب التوصيف، بالتأديب المقيد أو الرمزي. وكأن فكرة الضرب وآثاره الموجعة نفسيا قبل أن تكون جسديا، لاعلاقة لها بكرامة المرأة أو الطفل، وبعيدة كل البعد عن طبيعة المشاركة الحياتية، وروح المودة التي تنطوي عليها فكرة الزواج، وأسس الشراكة ومشاعر الآمان بين البشر. بعد أن سمحت المحكمة للرجل بتأديب شركائه في الحياة، لتبعد كليا فكرة المساواة وحفظ الكرامة الإنسانية للمرأة، وتدخل المجتمع في حالة فقدان الحماية لشريحة كبيرة منه، وتنأى به بعيدا عن حضارة القرن الواحد والعشرين، والتقدم الحاصل الذي عاشته البشرية خلال عقود كثيرة مضت، لتبقيه في دهاليز النصوص البعيدة عن الواقع والمدنية والحداثة و لتعتبر المرأة شخصا قاصرا لا يمكن الاعتماد عليه أومنحه المسؤولية عن العائلة وقبلها عن نفسه.
يسجل التاريخ البشري للثورة الفرنسية عام 1789 أول تدوين تشريعي لحقوق الإنسان، ومع انطلاق شرارتها شرعت أولى العهود والمواثيق الخاصة بحرية الفكر ووحدة الطبيعة الإنسانية والمساواة بين البشر على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم، ولم يقتصر شأن الثورة وتوجهاتها عند هذا الحيز، وإنما أعطت للبشرية عمقا فكريا جديدا في السلوك الأخلاقي والنظم السياسية وأعراف وقواعد العمل القانوني، ويسجل لها أيضا الريادة في تسليط الضوء على قضية المرأة وحرياتها ومساواتها بالرجل في مختلف مناحي الحياة.
هذا الطرح الذي جاءت به الثورة الفرنسية، كان إيذانا بتغيرات عميقة اجتاحت العالم في مجال العقائد الفكرية والمذاهب السياسية والاجتماعية ، حيث أصبحت قضية المرأة والمساواة تمثل الجهد الرئيسي للكثير من المنظمات المحلية والدولية، وشاركت في هذا الجهد وبحيوية فعاليات كثيرة، كان للرجال فيها قوة مؤثرة ومهمة، وقدمت دراسات وبحوث، دفعت قدما وطورت الفعل اليومي لتلك المنظمات باتجاه الغايات التي تصبو لها، وفي مقدمتها المساواة بين الجنسين وانعتاق المرأة وحريتها وحقها في العمل والاختيار.
من المعروف، أن ما يحدد المكانة الاجتماعية للإنسان امرأة كانت أم رجلا، هو موقعه في العمل، أي وجوده ودوره في العملية الإنتاجية المجتمعية، والذي يحدد بدوره شكل ونموذج العلاقة الإنسانية بين الجنسين، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي ثم الفكري، وهذه هي صلب الإشكالية التي تتمحور حولها عملية الحقوق والواجبات البشرية لكلا الجنسين، والذي يؤكد على أن العمل وحده يتيح للمرأة الاستقلال المادي الذي يساعدها على الاستقلال الفكري والنفسي، وينمي مداركها ويوسع أفاق وعيها لذاتها وقدراتها.
بقيت المرأة العراقية ولازالت تصارع حزمة واسعة من الاعتراضات والعوائق المصطنعة، والمفاهيم المتشددة التي وضعت في طريق انعتاقها ونيل حقوقها،وباتت معها، أسيرة ضمن نظم وأطر سياسية واجتماعية واقتصادية، جعلتها بعيدة جدا عن الموقع الاجتماعي المناسب لقدراتها الجسدية وكفاءتها الفكرية والمهنية.وتم بشكل منهجي وقسري إبعادها عن المشاركة في العملية الإنتاجية والسياسية، ويعود السبب في ذلك الإقصاء إلى عاملين أساسيين.
الأول يتمثل في النظام الأبوي الصارم، الذي أجبر الغالبية من نساء العراق، على أن يبقين كربات بيوت، يلبين حاجات الرجل والبيت والعناية بالأطفال،أما العامل الثاني وهو الأشد وطأة وقسوة، فتمثله منظومة الأفكار الاجتماعية والدينية التي تضع المرأة دائما في مقام أدنى من مكانة الرجل، وتحجب عنها أي فرصة للحراك الاجتماعي الاقتصادي الذي تنال منه حقوقها الإنسانية.
تلك المسألة كانت دائما وستظل قضية المرأة العراقية الأولى، في نضالها من أجل حرياتها ومشاركتها في قضايا العراق المصيرية، وهي أيضا في صلب مهمات العراقيين جميعا، من التقدميين والديمقراطيين، الساعين لتفكيك المنظومة المشوهة من المتاريس والعقد، التي تقف في وجه حرية المرأة والمساواة والعدالة الاجتماعية.
إنها مهمة عسيرة وكبيرة ولكنها موجبة وضرورية ليست فقط للمرأة بقدر ما هي تتعلق بالمطلق بقضايا الشعب العراقي، في مجال الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي توجب أن تأتلف من أجلها الكثير من الجهود، لرفع الحيف عن الجميع. ولضمان تشريع متوازن ومنصف، يحتوي مبادئ وقوانين تؤكد حقوق النساء وترفع الإجحاف الكبير الواقع عليهن، بدأ بإعادة النظر بقانون الأحوال الشخصية وما يحويه من تشريعات تتناقض كليا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتشريعات العالمية الخاصة بالمرأة كالاتفاقية الدولية لإزالة جميع أشكال التمييز ضدها.
إن التمعن في التشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية المنصوص عليها في القوانين العراقية المعنية بحقوق النساء، سوف يظهر مدى الإجحاف والإيذاء الذي يطال حياتهن ووجودهن المعنوي وكيانهن الإنساني، وتلك التشريعات تشير لاستعصاء قضايا المرأة العراقية، وفي ذات الوقت تكشف المأزق الحضاري السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المجتمع العراقي.
فالمهام الملقاة على عاتق القوى الديمقراطية، تبدو عسيرة وصعبة، ولكنها تحتم خوض نضال مستمر لا هوادة فيه، من أجل حقوق النساء العراقيات والحقوق الأخرى لباقي شرائح ومكونات المجتمع، وفي المقدمة من هذه الأهداف يأتي الإصرار على تغيير القوانين والتشريعات المبخسة لحقوقهن، وإبدالها بما يناسب ويتفق مع روح العصر ومعايير الحضارة الإنسانية، التي تكفل للجميع ذات الحقوق وتزيل الغبن والإجحاف الذي طال النساء وألحق الخراب بالمجتمع العراقي في مختلف المجالات.إن النضال يجب أن يتركز من أجل وضع نهاية للتعديات اليومية الواقعة على حقوق المرأة، وفي المقدمة منها تلك التعديات والتشوهات في النص القانوني الذي يعطي الرجل الحق بتأديب المرأة وأيضا غيرها من النصوص المجحفة المتمثلة في.
ـ الولاية أو الوصاية الأبوية والزوجية ( الوكيل والقبول أو الرفض في مسألة الزواج ،الطلاق والنشوز والعصمة ـ الإرث والشهادة في المحاكم ــ تعدد الزوجات ـ الوصاية على الأطفال )
إن مثل هذا المشهد المأساوي يشي بإشكاليات ليست بالهينة تثار فيها الأسئلة عن علاقة المجتمع العراقي بالمتغيرات العالمية في سياقها التاريخي وقضية المرأة فيها، وهل إن التطور المعرفي وتلك التحولات فرضت تأثيراتها عليه، وأحدثت التغييرات المرجوة في منظومة قيمه المجتمعية، بما يوائم المستجدات والطفرات الحضارية التي حدثت في العالم المتحضر.
من المؤسف إن ما حدث هو عكس ذلك بالضبط، بل إن المشهد الحالي يعد ارتدادا وارتكاسا خطيرا جدا، أدى إلى حالة من التردي المفزع على مختلف الأصعدة وخروج غير منطقي عن سياق التطور التاريخي.
وهذا ما تؤكده خارطة المشاركة النسوية في أنشطة المجتمع، والذي ممكن تلمسه بوضوح عبر ما يدور اليوم من تغيرات سلبية في المجتمع العراقي، تكشف بشكل واضح، الانحدار الذي وصلت إليه حالة المرأة، وتصاعد وقائع التعدي والإيذاء الذي يطالها على يد المتشددين من القوى الرجعية.
ــ ففي الحياة السياسية ( العزوف عن المشاركة في الحياة السياسية وفق قواعد الخوف من السطوة والتهديد الرجولي ..عشيرة ..أب .. أخ .. زوج..أبن…. نظام العرف الاجتماعي أو ما يسمى بالعيب).
ــ شح المساهمة في النشاطات السياسية..حيث يلاحظ الفقر العددي الكبير للمرأة، ليس فقط بين أوساط القيادات الحزبية، وإنما يتعداه إلى العضوية العادية، مع تهميش وحجب ظاهر لدورها وقدراتها، ويشمل ذلك قلة مشاركتها في لجان العمل الحزبية.
ــ الفصل بين الرجال والنساء في بعض الصفوف الدراسية والتحذير من الاختلاط أثناء الدوام والاستراحات و منع الفعاليات المشتركة.
ــ ازدياد حالات الاختطاف والاغتصاب والاعتداء الجسدي والنفسي على النساء دون وجود رادع قانوني أو ضمانات أو تعويض معنوي أو مادي للضحايا.
ــ وجود أعداد هائلة من الأرامل واليتيمات ( من نتائج الحروب والأمراض ) دون معيل أو مصدر رزق، مما جعلهن ضحايا لتهديد يومي يتعرضن فيه للإذلال والمهانة تحت شتى الظروف التي تتراوح بين القسر والتهديد والجوع والانحراف والجريمة.
ــ وجود تجمعات نسوية تعمل بالضد من نيل المرأة لحقوقها، وبالضد من مجمل الحريات الإنسانية، وتروج لعبودية المرأة تحت سطوة الرجال، وبما يكفل تطبيق التشريعات الظالمة التي تنص على عدم أهلية المرأة وعدم رجاحة عقلها.
ــ استشراء حالات تعدد الزوجات رغم المصاعب الاقتصادية، وزواج المتعة والمسيار والعرفي وغيرها من الزيجات غير القانونية، والتي تسبب في أغلب الأحوال اعتداء على إنسانية وكرامة المرأة وهضم لحقوقها.
هذا الارتداد والارتكاس لا يتوقف عند أوضاع المرأة فقط، وإنما هناك تدهور وارتباك غير عقلاني في مجمل الفعاليات والأوضاع السياسية والاجتماعية. ويمكن القول بأن هناك دورة معكوسة لعجلة التأريخ ابتدأت بالدوران مع تصاعد المد الرجعي وانتصار السلفية فيه.وأخذت تعمل وبشكل منظم على ثلم ونحر كافة المنجزات الحضارية التي حصل عليها الشعب العراقي عبر سنوات نضاله التاريخي الطويل والذي قدم من اجلها قرابين كثيرة كانت خيرة وصفوة أبنائه وبناته.
أن أحد أكبر التحديات المطروحة اليوم أمام الأحزاب العلمانية الديمقراطية وحركات المجتمع المدني الأخرى وجمعيات حقوق الإنسان ومناصريها هي تمسكها بالنضال من أجل قضية الحريات العامة وحقوق المواطنة، ومنها تحرر المرأة وانعتاقها، دون مجاملات وتفريط.ويقاس ذلك في مدى جدية تلك الفعاليات وقدرتها على صياغة برامج ومشاريع ومطالب ملموسة وواقعية تناصر وتساند المرأة، وتدفع عنها الضرر والإيذاء، وتشجعها للولوج والمشاركة الفعالة في الشأن العام، وتمنحها القدرة والقوة والكفاءة للتأثير والتغيير في المجتمع نحو الأحسن.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط