التضليل الإعلامي في السلم والحرب

التضليل الإعلامي في السلم والحرب

عصام الياسري

يُعرف التضليل الإعلامي بـ : ((نشر وبث المعلومات والأفكار الزائفة عن عمد وعن سابق تصور وتصميم)) وفي تعريف أخر ((خلق رأي مغلوط ، لكن مقنع بما فيه الكفاية، وذلك بهدف إيقاع الخصم في الخطأ بينما هو يفكر بشكل صحيح)).

يشهد العالم منذ غزو روسيا لاوكرانيا، اكبر تجييش إعلامي امريكي ـ اوروبي، وما كان ان يحدث هذا الغزو لولا استفزاز امريكا والناتو لروسيا، وتحريض اوكرانيا عليها. تحت شعار “الاعلام ـ لمواجهة الغزو الروسي لدولة مستقلة”. يُعرف بأن اللوبيات الكبيرة التي تهيمن على العديد من مؤسسات القوة، هي التي تسيطر على اهم وسائل الاعلام في العالم وتدفع بها الى الواجهة عند الازمات الدولية. وبغض النظر عن رفض قاطبة شعوب العالم وكل انسان عاقل للحرب اينما تكون، فان الإعلام الغربي منذ حدوث الازمة بين روسيا واوكرانيا ثم اندلاع الحرب اصبح ملتهبا، ورسمت طريقة عمله لغسل الادمغة ونشر الاكاذيب والتضليل لاشاعة الرعب تحت عنوان “بوتين ـ الروسي” يهدد السلم العالمي ويتحدى القانون الدولي. ايضا ذريعة حماية الديمقراطية الغربية والدفاع عن مباديء حقوق الانسان.. هرول آلاف الصحفيين ووسائل الاعلام المختلفة في جميع انحاء العالم، (كذلك مندوبي 135 دولة عضو في منظمة الامم المتحدة)، اغلبها دول لا تتوانى العسكرة الامريكية جعل جنودها يحرقون اراضيها ببساطيلهم “جزم”، متى وكيفما تشاء، دعما للموقف الامريكي ـ الاوروبي الساعي لتحرير اوكرانيا البريئة من قبضة بوتين ـ روسيا. متجاهلين التاريخ السيء الذي عانت منه شعوب وقوميات روسيا على مدى حقب مريرة على يد هؤلاء الذين ينكثون المواثيق ويبتكرون الاكاذيب، لكنهم يتحدثون كثيرا عن السلم والاستقلال والقانون الدولي والديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة، في حين ادواتهم العسكرية والاقتصادية تُفزع وتهدد وتصول وتجول في ثلاثة ارباع العالم، تجوّع وتقتل وتنهب وتحتقر الدول والشعوب.

الملاحظ، ان منصات الاعلام كشفت ما كان مخفيا، “عنصرية الدولة الديمقراطية” حيال دول وحضارات وثقافات عريقة. شعوبا ومجتمعات وقوميات لها ابناء يعيشون في هذا المحيط الجغرافي ـ الثقافي والمجتمعي، الذي لا يعرف الكثيرين حضاراتهم، قد تعرضوا منذ اندلاع الحرب بسبب “التضليل الاعلامي” الى التمييز والمضايقات العنصرية.. المضحك المبكي، ان عددا لابأس به من المنظمات والاحزاب والصحافيين والكتاب والاكاديميين العراقيين في الداخل والخارج، قد تفجرت قريحتهم للتنظير الديماغوغي حول مفهوم “الغزو ـ والدولة المستقلة” على اثر غزو روسيا لاوكرانيا.. وللتذكير: “ان اوكرانيا من الدول التي شاركت الامريكان غزوهم للعراق في 2003″ والذي راح ضحيته اكثر من مليوني انسان بريء. ان هؤلاء الذين يُنظرون” هم مَن صفق للغزو الامريكي، لا بل بعضهم كان “مرتزقا”، يرشدهم تخريب العراق ونهب ممتلكاته. دافعوا عن الغزو واسموه “تحريرا” دون خجل او تانيب ضمير على ما حل به وبشعبه. انخرطوا في العملية السياسية ـ الطائفية التي انشأها الاحتلال وفتحوا الباب واسعا للحاكم الامريكي “بريمر” لاستقباله في مكاتبهم. حصلوا على مناصب وامتيازات، اقلها، رواتب وتقاعد وظيفي دون وجه حق. تعاونوا مع احزاب السلطة وقادتها الذين جاء بهم الغزاة وعقدوا معهم التحالفات والصفقات السياسية والتجارية. اليوم يدافعون عن وجدانية الغرب الزائفة، ويتباكون على غزو دولة مستقلة شاركت في غزو العراق وسرقة آثاره التاريخية!.

في العام 2001 وبإشراف “كارين هيوغز” مستشارة “بوش” و”اليسر كمبل” المستشار الإعلامي السابق لـ “طوني بلير” وهو من خبراء التلاعب الإعلامي. تأسس “مركز التحالف الإعلامي” بهدف رسمي معلن لاستمالة العالم العربي لشن حملات التظليل والتلاعب قبل بدء الحرب على العراق للاطاحة بنظام البعث الدكتاتوري، وقد أغلق هذا المكتب في شباط 2002، بعد ان كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” عن حقيقة مهامه وطريقة تعامله مع الصحافة الدولية لاخفاء الحقائق المتعلقة بشأن التحضير للحرب على العراق، الامر الذي اثار حفيظة الاوساط الاعلامية والرأي العام ومنظمات المجتمع المدني المناهضة للحرب وخروجها للاحتجاج في جميع انحاء العالم.

أنهت القوات الأمريكية استعداداتها للحرب، وفق الدلائل النهائية في مسرح العمليات وساحة المعركة، وفشلت جميع المحاولات والطرق والوسائل لتفادي هذه الحرب. خضع العراق آنذاك لحملات حربية أمريكية متعاقبة 1992، 1993، 1996، 1998. وتناول قاموس الإعلام الأمريكي قبيل الغزو الدعاية الزائفة للحرب المحتملة على العراق، وفق شعارات مثيرة ـ حرب تحرير العراق، تحرير الشعب العراقي، حرب الخير ضد الشر، ثم تغيرت الصيغة الإعلامية إلى: الحرب الوشيكة على العراق.

اذن لماذا كان هوس الحرب مرتفعا لهذا الحد؟ وما هي الاسباب المستوجبة للقيام بها؟ وما هي النتائج المحتملة؟ يصف القانون الدولي جميع الحشود لعمل من هذا النوع في اي مكان كان، بإرهاب القوة ـ أو ما يسمى بالعرف الدبلوماسي، استخدام القوة اللاشرعي. مع ذلك فقد قصف الشعب العراقي بـ 800 صاروخ أطلقت خلال يوم، انتهت باحتلال العراق وتفكيك دولته وتمزيق مجتمعه وتجويعه، وفتح تدخل النفوذ الإيراني من أوسع أبوابه. وكانت إيران بمثابة المساهم الإقليمي المهم لغزو العراق حسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين واعتراف الادارة الامريكية بذلك. يلاحظ ان انهيار النظام الرسمي العراقي ومؤسساته أمام “إرهاب القوة”، خصوصا اذا ما علمنا أن مرتكبي المجازر والجرائم بحق المناوئين للنظام وتعريضهم للسجن والتعذيب، نجد ان القتلة في أعلى هرم السلطة وأروقتها السياسية على الرغم من ممارستهم كل أنواع الاضطهاد والابادة الجماعية وبكل الوسائل البشرية والعسكرية بما فيها المحرمة دوليا بحق الشعب العراقي، لم يتم مسائلتهم وفق معايير القانون الجنائي الدولي والقانون العراقي. بل تمتعوا بعد السقوطبحصانة قانونية من قوات الاحتلال الأمريكي ودوائره السياسية. بيد ان الأحداث الدموية والتاريخ المأساوي للنظام الديكتاتوري السابق أثبتت ـ إن نظام صدام كان السبب الأساس لتعريض العراق للحروب والدمار والحصار والاحتلال، وإن أمريكا وحلفائها في المنطقة، مسؤولون عن ترسيخ النظام ودعم مسلكه ضد شعبه وشن حروبه دفاعا عن مصالحهم على حساب دماء العراقيين ومستقبلهم.

لقد سعى الاحتلال منذ غزوه للعراق إلى تشجيع الاتجاهات والأفكار الهادفة إلى إنهاء كيان العراق كوحدة وطنية، أرضاً وشعباً، بمساهمة الأحزاب الطائفية والشوفينية التي تحينت الفرص لتحقيق مآربها. وما كان لتشكيل مجلس الحكم على أسس أثنية على يدِ بريمر، إلا خطوة أولى في هذا الاتجاه لحقها خطوات أخرى في إطار ما يسمى بالعملية السياسية، التي اعتمدت على تفكيك الروابط الوطنية وتعويضها بروابط طائفية وقومية وعشائرية كانت غير معروفة في العراق. فسمحت حكومة الاحتلال بتكوين الميليشيات خارج إطار الدولة على أسس طائفية ـ عرقية، عربية وكردية. لا بل ودعمتها بالمال والسلاح والوسائل اللوجستيه المتنوعة.

إن من أخطر النتائج التي سعى إليها الاحتلال هو نسف الكيان الوطني العراقي، وكل المبادئ والمفاهيم القانونية والحقوقية والامنية، التي ترمز لسيادة الدولة واستقلالها الوطني وأهمها الأسس الثلاث “الحصرية والشمولية والذاتية”. وتسويق مفاهيم جديدة خاصة بالمحتل لإعادة وتحديد بناء كيان الدولة ومؤسساتها على أسس تحمي مصالحه وأهمها الستراتيجية والنفطية بواسطة منظومات وشخصيات عراقية. وتم استصدار العديد من التشريعات الدستورية والقضائيةوالسياسية والاقتصادية وتغيير شكل المجتمع وبيئته الأساسية بما يتناسب ومشروعه لتقسيم العراق.. وتجدر الإشارة إلى ان قانون إدارة الدولة، سيئ الصيت، على اساس “طائفي ـ عرقي”، وغيره من قوانين وتشريعات سنها المحتل، لازالت جارية على نحو خطير ومريب، بالرغم من انها تتعارض مع أبسط مقومات الدولة العصرية ومصالحها الوطنية.

ومنذ مجيئها للسلطة، فان القوى السياسية ـ الطائفية، في أشكالها الفجة والمقيتة، لازالت تكرس نظام توزيع الغنائم والامتيازات والعقود والصفقات السرية التجارية والاقتصادية وفي مجال الصناعة والزراعة والبناء فيما بينها. وتتخذ الاحزاب الكردية المتنفذة، موقفاً انعزاليا شوفينيا ضيقا، ولا تجد نفسها كطرف في ادارة الحكم ملزمة لحماية القانون والحد من معاناة المجتمع العراقي برمته، كما أنها غير معنية بالدفاع عن سيادة العراق واستقلاله، بل وصل الأمر بها حد استغلال الظروف الصعبة التي يمر بها العراق وشعبه لفرض شروطها الستراتيجية والتكتيكية والذاتية، مستقوية بالقوى الخارجية، وهذه نظرة قاصرة وغير موضوعية ستؤذي الشعب العراقي وتلحق الأضرار بمصالحه، بما فيها مصالح الأكراد العراقيين انفسهم..

ادى النفاق الاعلامي الهائل، وانتهازية العديد من المنتسبين اليه، لتحسين صورة المحتل ومَن جاء بهم للاستيلاء على السلطة، وعدم نشر حقيقة ما يجرى، الى تأزم الاوضاع واتساع المشاكل في كل الاتجاهات. فاحتمالات التقسيم والحروب العبثية التي عانت منها المجتمعات العراقية طويلا لاتزال واردة. الابتزاز السياسي، الطائفي ـ والقومي الشوفيني لاغراض فئوية وحزبية مستمر. والمصالح الحزبية والفئوية تتقدم على المصالح الوطنية العامة. الحلول الترقيعية بددت أحلام الجميع وجعلت البلاد تسير نحو منزلق خطير. نظام الحكم قاصر سياسيا وغير معني لوضع خطط تنموية مستدامة ومدروسة، تخرج العراق من سياسة الانغلاق والنهب والفساد الاداري والمالي والسياسي.

على الاعلام واصحاب الفكر، تقع مسؤولية اخلاقية، في زمن السلم واوقات الحروب، ان لا يتخذوا موقفا مبنيا على التعصب والحقد كما هو حال ما يجري اليوم بين الاشقاء في اوكراانيا. ليس هناك شك من ان الشعب الروسي والاوكراني، سيكونان الخاسرين في هذه حرب، والمستفيد الدول العظمى، اذا ما استمرت الامدادات العسكرية وخطاب الحرب والكراهية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here