المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين في المدينة: من النماذج الفذة في التعايش الإسلامي

المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين في المدينة:
من النماذج الفذة في التعايش الإسلامي
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
أسهم نظام المؤاخاة في ربط الأمَّة بعضها ببعض، فقد أقام الرَّسول صلى الله عليه وسلم هذه الصِّلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الَّذي تذوب فيه عصبيَّات الجاهليَّة، فلا حَميَّة إلا للإسلام، وتسقط به فوارق النَّسب، واللَّون، والوطن، فلا يتأخَّر أحدٌ، أو يتقدَّم، إلا بمروءته، وتقواه.
وقد جعل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هذه الأخوَّة عقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدِّماء، والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم لها أثرٌ.
وكانت عواطف الإيثار، والمواساة، والمؤانسة تمتزج في هذه الأُخوَّة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال.( الغزالي، 1989، ص 193-194)
والسَّبب الَّذي أدَّى إلى تقوية هذه الأُخوَّة بين المهاجرين والأنصار هو أنَّ أهل هذا المجتمع، ممَّن التقوا على دين الله وحده، نشَّأهم دينهم الَّذي اعتنقوه، على أن يقولوا، ويفعلوا، وعلَّمهم الإيمانَ، والعملَ جميعاً، فهم أبعد ما يكونون عن الشِّعارات الَّتي لا تتجاوز أطراف الألسنة، وكانوا على النَّحو الَّذي حكاه الله عنهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[النور: 51] .
وبذلك الَّذي درج عليه المسلمون كفل البقاء، والاستمرار لهذه الأخوَّة؛ الَّتي شدَّ الله بها أَزْرَ دينه، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، حتَّى آتت ثمارَها في كلِّ أطوار الدَّعوة، طوال حياته صلى الله عليه وسلم ، وامتدَّ أثرها، فجمع كلمة المهاجرين والأنصار عند استخلاف الصِّدِّيق رضي الله عنه دون أن تطوِّع لهم أنفسهم (أي: للأنصار) أن يحدثوا صدعاً في شمل الأمَّة، مستجيبين في ذلك لشهوات السُّلطة، وغريزة السَّيطرة، لذلك فإنَّ سياسة المؤاخاة بين المهاجرين، والأنصار نوع من السَّبق السِّياسيِّ: الَّذي اتَّبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تأصيل المودة، وتمكينها في مشاعر المهاجرين، والأنصار، الَّذين سهروا جميعاً على رعاية هذه المودَّة، وذلك الإخاء؛ بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده،ولا سيما الأنصار، الَّذين لا يجد الكُتَّاب، والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان، خيراً من حديث الله عنهم.(الجمل، 1989، ص245)
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] .
وفي الآية السَّابقة فوائدُ عظيمةٌ، وحكمٌ جليلةٌ؛ منها:
(أ) التَّعبير عن المدينة بلفظ «الدَّار» إشعارٌ بأنَّها دارٌ خاصَّةٌ لكلِّ متوطِّنٍ بها، متبوِّئ لها، فهي بالنِّسبة لأهلها كدارٍ خاصَّةٍ للفرد، يهنأ بالأمن، والاستقرار، وهو في داخلها، وفي هذا الإشعار نوعٌ من الأنس السَّريِّ في النَّفس، يزيدها رُوْحاً، وطُمأْنِينَةً، فالأنصار في دارهم، وإيمانهم متمكِّنون من الأمن، والاستقرار المادِّيِّ، تتنزَّل عليهم السَّكينة، فتحفُّهم بنورها، كأنَّها سياجٌ من الرَّحمة مضروبٌ عليهم، لا يلحقهم فزعٌ، ولا يدخل عليهم قلقُ.
(ب) أمَّا قولـه تعالى: فالضَّمير فيه ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، ومعناه: أنَّ الأنصار هم الذين تبوَّؤوا المدينة المنوَّرة داراً لهم، وتبوَّؤوا معها الإيمان من قبل هجرة المهاجرين إليهم؛ لأنَّ المهاجرين وإن تبوَّؤوا الإيمان قبل الأنصار؛ لأنَّهم سبقوهم إليـه، وتمكَّنـوا منـه أعظم تمكُّنٍ، وتمكَّن هو منهـم أبلغ تمكُّنٍ؛ لكنَّهم لم يتبوَّؤوا مع الإيمان داراً يتمكَّنون فيها من الاستقرار الحسِّيِّ المادِّيِّ، والأمن على أنفسهم، وإيمانهم من فزعات الأعداء، وسطواتهم، فكان للمهاجرين في تَبَوُّؤ الإيمان دون تَبَوؤ الدَّار، وكان للأنصار تَبَوُّؤُهما معاً في قرنٍ واحدٍ.
(ج) ومن لطائف القرآن الحكيم: أنَّه ساق مدْحَةَ المهاجرين قبل مِدْحَة الأنصار، مفتتحاً لها بقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8] .فجعل فَقْد بعض ما كان مدحةً للأنصار من تَبَوُّؤ الدَّار، والإيمان مدحةً للمهاجرين؛ لأنَّهم فقدوه ابتغاء فضل الله ورضوانه، ونصرهم الله بنصر دينه، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم بنصر رسالته، ودعوته، ووصفهم بأنَّهم هم الصَّادقون، وأنَّ الناس تَبَعٌ لهم في ذلك، فقال يشرِّفهم بهذا الاختصاص: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ وقال لعامَّة المؤمنين: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] فالقَبْلِيَّةُ – أي: قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ – بهذا المعنى مدحةٌ للأنصار؛ جاءت لتشعرهم بواجباتهم نحو إخوانهم الَّذين هاجروا إليهم، تاركين ديارهم، وأموالهم ابتغاء فضل الله، ورضوانه، والتَّفرُّغ لنصرة دينه، ونصرة رسوله، فالدَّار الَّتي فقدها المهاجرون بما فيها من أموالٍ، وفلذات أكبادٍ إنَّما فقدوها تقرُّباً بفقدها إلى الله، فأووا إلى الأنصار يتبوَّؤون معهم دارهم، دار الأمن، والاستقرار، مع سبق تَبوُّئهم الإيمان قبل الأنصار، فكمل لهم بهذه الهجرة تبوُّءُ الدَّار والإيمان، وانفردوا بسبق تَبَوُّئِهم الإيمان. فضيلةٌ لا يشاركهم فيها غيرهم من سائر المؤمنين، وفي طليعتهم الأنصار، الَّذين جعلوا من الإيواء والنُّصرة دعامتين للمؤاخاة القائمة على الحبِّ الصَّادق، فقيل في وصفهم: وهذا حبٌّ ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾، والله جعله فضيلةً لهم، ميَّزهم بها في مقابلة وصف المهاجرين بأنَّهم أُخرجوا من ديارهم، وأموالهم؛ ابتغاء مرضاة الله، وتعرُّضاً لفضله المنهمر عليهم غيثُه ديمة لا ينقطع، ولا يفتر، وهم يحملون بين جوانحهم قلوباً عامرةً بالحبِّ لإخوانهم الأنصار، الَّذين وُصفوا بالإخلاص الصَّفيِّ، الَّذي كان ثمرة الحبّ في الله، ولله، فقيل عنهم: أي: أنَّهم ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ تستشرف نفوسهم إلى فضلٍ ناله إخوانهم المهاجرون من سبقهم بالإيمان، وتضحيتهم بمفارقة ديارهم، وأموالهم، وانتهاضهم لنصرة دين الله، ورسالاته، ولا يتطلَّعون إلى شيءٍ منه تطلباً له، أو مشاركةً فيه.( عرجون، 1995،ج3، ص94)
(د) وفي قوله: : والحبُّ الَّذي يسجِّله ربُّ العزَّة ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ تبارك وتعالى – في محكم كتابه آيات بيِّنات تُتلى، ويُـتعبَّد بها في روعة إعجازها، وبراعة أسلوبها، وسموِّ منهجها في الهداية، لا يمكن أن يبقى معه في حنايا النَّفس المؤمنة آثار حزازةٍ تحسد المهاجرين على ما اتاهم الله من مكارم الإيمان، والتَّضحية في سبيله بالدِّيار، والأموال، بله متعةً مادِّيَّةً زائلةً تافهةً.
وصفات المدحة السَّلبيَّة لا تذكر في مقامها إلا إذا كانت ممكنة الوقوع، فيكون نفيُها عنصراً من عناصر المدح المقتضية إحلال ما يقابلها من صفاتٍ إيجابيَّةٍ في بناء المدحة المشرِّفة.( عرجون، 1995،ج3، ص95)
فإذا قيل في وصف الأنصار بعد وصفهم بحبِّهم المهاجرين: ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾، معنى ذلك: أنَّ هؤلاء الأنصار سَمَوا في حبِّهم لإخوانهم المهاجرين إلى ذِروة الصَّفاء، والإخلاص، ووحدة الشُّعور.
(هـ) ومجيء قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ﴾ عقب قوله عزَّ شأنُه: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ بيـانٌ لثمرة هذا الحب، وهي ثمرةٌ سما بها الأنصار إلى افاقٍ لم تصل إليها البشريَّة في تاريخها البعيد السَّحيق، ولا في تاريخها الدَّاني القريب، تلك هي ثمرة الإيثار على النَّفس، الَّتي أثمرها الحبُّ الإيمانيُّ.
(و) ثمَّ وُصِفُوا بالفلاح على جهة الاختصاص به في مقابلة اختصاص المهاجرين بالصِّدق في عزائمهم، والإخلاص في إيمانهم، فقيل فيهم بعد تقرير: أنَّهم بهذا الإيثار صفَتْ نفوسُهم من كُدورات التَّطلُّعات، والحزازات، وأخلصوا الحبَّ لإخوانهم المهاجرين، وطُهِّروا من رشح الشُّح، فتوقَّوه بفضيلة الكرم والسَّخاء المؤثر: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
كان هذا الحبُّ الأخويُّ بين المهاجرين والأنصار، هو الأساس الَّذي قامت على دعائمه المؤاخاة الاجتماعيَّة؛ الَّتي عقدها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين أصحابه بعد مَقْدِمِه المدينة، فقد كانت هذه المؤاخاة، من أسبق الأعمال؛ الَّتي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل ما استقرَّ في مقامه، وأخذ في بناء مسجده الأعظم.( عرجون، 1998، ج3، ص98)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، 1425ه،2004م،ص504-509
محمَّد الصَّادق عرجون، محمَّد رسول الله، دار القلم، الطَّبعة الثانية، 1415 هـ 1995 م.
الغزالي، فقه السِّيرة، الطَّبعة الرابعة، دار القلم، دمشق – سورية، 1409 هـ 1989 م.
أحمد عبد الغني النجولي الجمل، هجرة الرَّسول(ﷺ) وصحابتُه في القرآن والسُّنَّة دار الوفاء، الطَّبعة الأولى، 1409 هـ 1989 م.
منير الغضبان، التَّربية القياديَّة دار الوفاء – المنصورة، الطَّبعة الأولى، 1418 هـ 1998 م.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here